(الصفحة 6)
(الصفحة 7)
أفعال الصلاة
إعلم أنّ الصلاة مركبة من عدّة وجودات متبائنة الحقائق تتحقق بتحققها بأسرها ، ويكون كل واحد من تلك الوجودات بعضاً لوجود عنوان الصلاة ، كما هو الشأن في جميع المركبات الاعتبارية ، فإنّها عبارة عن اعتبار الوحدة بين أشياء متخالفة الحقايق باعتبار ترتب غرض واحد عليها ، ويكون كل واحد منها بعضاً لوجود ذلك المركّب .
وقد حققنا في موضعه(1) أنّه يمكن أن يكون للشيء الواحد أبعاض كثيرة ، كالماء الواحد ، بل يمكن أن يعرض كل واحد منها ضدّ ما يعرض الآخر وحينئذ فالأمر المتعلّق بالصلاة ينبسط على تلك الوجودات ، بحيث يصير كل واحد منها متعلّقاً لبعض ذلك الأمر وتحقيق الكلام في محلّه .
ثمّ إنّ الشارع لم يتصرّف في معنى الصلاة أصلا ، بل استعملها في معناها الذي
- (1) نهاية الاُصول : 51 ، مبحث الصحيح والأعمّ.
(الصفحة 8)
كان يفهم منها قبل التشريع ، وهو التذلّل والخضوع في مقابل المعبود ، كما هو المفهوم منها عند جميع المتدينين قبل الإسلام .
غاية الأمر أنّ ذلك يتحقق بكيفية خاصة ونحو مخصوص عند كل قوم ، والنبي(صلى الله عليه وآله) قد أبطل جميع الكيفيات ، وبيّن أنّ ما يتحقّق به ذلك المعنى هي هذه الكيفية المعروفة بين المسلمين ، وهي التي رواها العامة عنه(صلى الله عليه وآله) ، أنّه قال : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(1) .
وبالجملة : فالصلاة وما يرادفها من سائر اللغات عبارة عن الأفعال التي يؤتى بها في مقابل المعبود تذلّلا وتخضّعاً ، والاختلاف بين الأديان إنّما هو في تلك الأفعال .
- (1) صحيح البخاري 7 : 102 ، ح6008 وج8 ، ص169 ، ح7246; السنن الكبرى 2 : 345 ، سنن الدارقطني 1 : 272 ، ح1296 .
(الصفحة 9)
الأوّل من أفعال الصلاة : النيّة
ثمّ إنّهم ذكروا أنّ أوّل أفعال الصلاة النية ، وقد يقال في معناها: أنّها هي الإرادة التي لابدّ منها في كل فعل اختياريّ ، وأنت خبير بأنّ النية بهذا المعنى ممّا ليس لبيانه ارتباط إلى الشارع أصلا، كما هو واضح، بل المراد منها هو القصد إلى عنوان الصلاة.
توضيح ذلك ، إنّ الأفعال على قسمين : قسم لا يتوقف تحقق عنوان الفعل على كونه مقروناً بقصد ذلك العنوان ، كالأكل والشرب والقيام والقعود وأمثالها ، وقسم يكون تحقّق عنوان الفعل متوقفاً على قصد ذلك العنوان ، كالتعظيم للقادم ، فإنّ مجرد القيام عند قدومه لا يتّصف بعنوان التعظيم ولا يتحقّق به ، بل صدقه يتوقف على قصد التعظيم ، وكونه هو الداعي إلى القيام ، وإلاّ فهو قد يكون لغرض آخر ما عدا التعظيم ، بل قد يكون للسخرية والاستهزاء ، وهذا القسم هو المسمّى بالعناوين القصدية ، وله مصاديق كثيرة في أبواب الفقه ، ولا يختصّ بالعبادات ، بل له مصاديق في التوصليات ، كما أنّه لا يختصّ بما إذا كان متعلّقاً للأمر ، لأنّ أكثر المعاملات بل جميعها من هذا القبيل .
(الصفحة 10)العناوين القصديّة:
ومن مصاديق هذه العناوين: «أداء الدين» ، فإنّ إعطاء المال إلى الدائن لا يتعيّن لكونه أداء للدين إلاّ بعد قصد هذا العنوان ، وإلاّ فهو مشترك بين الأداء والهبة ونظائرهما ، فالتخصّص بهذه الخصوصية لا يأتي إلاّ من قبل قصدها ، ثمّ لو فرض إنّه استدان مرّتين ، فهل يجب عليه عند الأداء قصد الخصوصية من هذه الجهة ، أي الأولية والثانوية أيضاً؟ الظاهر العدم ، بل لا يجب عليه إلاّ قصد عنوان أداء الدين فقط .
ومنها : «الوفاء بالنذر» ، فإذا نذر إعطاء درهم إلى الفقير إذا قضى الله حاجته مثلا يجب عليه عند الوفاء قصد هذا العنوان ، لأنّ الصورة المشتركة بين الوفاء بالنذر وبين غيره لا تتعيّن للأوّل إلاّ بالقصد إلى عنوانه .
ومنها : «أداء الزكاة» ، فإنّ دفع المال إلى مستحقّ الزكاة لا يوجب خروج الدافع عن عهدة التكليف بأدائها إلاّ بعد تحقّق القصد إلى عنوانها ، وهذا أمر لا ربط له بمسألة قصد القربة المعتبرة في الزكاة .
ومنها : «ردّ الخمس» ، فإنّه أيضاً يكون كأداء الزكاة .
ومنها : «أفعال الحجّ» .
ومنها : «الصوم» ، فإنّ قوله : «من لم يبيّت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له»(1) ، ناظر إلى أنّ تحقق عنوان الصوم متوقف على بيتوتته من الليل ، وإرادة إيجاد الصوم منه .
وبالجملة : فلهذا الأمر عرض عريض في أبواب الفقه ، فإنّ أكثر العبادات وأكثر المعاملات بل جميعها ممّا لا تتحقّق إلاّ بعد القصد إلى عنوانها ، لتوقف
- (1) سنن النسائي 4: 201 ب68; السنن الكبرى للبيهقي 4: 202 ـ 203.