(الصفحة 63)
وكيف كان فلا إشكال ولا خلاف في كون القيام ركناً في الجملة ، إنما الإشكال في أنّ الركن هل نفس القيام حال تكبيرة الاحرام فقط أو هو مضافاً إلى القيام المتّصل بالركوع ، أو القيام المستمرّ من أوّل الشروع في الصلاة إلى الركوع ، أو هو مضافاً إلى القيام بعد الركوع(1)؟
وجوهٌ ، الظاهر عدم كون القيام بعد الركوع ركناً ، لدلالة الأخبار الكثيرة على صحة الصلاة ، لو نسيه وسجد بعد الركوع ، من غير أن يقوم بينهما ، وكذا الظاهر عدم كون القيام حال القراءة كذلك ، لدلالة النصوص على أنّه لو نسي القراءة فلا يجب عليه إعادة الصلاة ، ولو كان القيام حالها ركناً ، لما كان وجه للحكم بالصحة ، بعد استلزام نسيان القراءة للاخلال بالقيام حالها سهواً .
وأمّا القيام في حال التكبير ، فمقتضى الأخبار الكثيرة أنّ الاخلال به يوجب بطلان الصلاة ، سواء كان عن عمد أو عن سهو ، فيكون ركناً ، وكذا القيام المتّصل بالركوع ، إلاّ أنّ المتأخّرين لم يستندوا في ركنيته إلاّ إلى الاجماع(2) ، مع أنّه يمكن استفادته من الأخبار(3) أيضاً ، فإنّ التعبير فيها في مقام حكاية فعل الإمام(عليه السلام) أو في مقام بيان كيفية الصلاة ، أو لأجل ترتيب بعض الأحكام والآثار بالقيام إلى الركعة الثانية ، أو الركعة الثالثة ، أو الركعة الرابعة ، ممّا يمكن اصطياد هذا المعنى منه .
فإنّ الركعة وإن كانت في نظرنا عبارة عن مجموع الركعة الواحدة المشتملة على القراءة ، والتسبيحات ، والركوع ، والسجود ، والتشهّد ، والتسليم ، إلاّ أنّ معناها بحسب اللغة ، وما هو المتفاهم عند العرب هو الركوع مرّة ، فإنّها على وزن
- (1) مفاتيح الشرائع 1: 120; رياض المسائل 3: 368; مستند الشيعة 5: 36 ـ 37; الحدائق 8 : 57 .
- (2) المعتبر 2: 158; المنتهى 1: 265; مفتاح الكرامة 2 : 302; جواهر الكلام 9 : 238; مستند الشيعة 5 : 36 ; رياض المسائل 3: 367 .
- (3) الوسائل 5 : 459. أبواب أفعال الصلاة ب1.
(الصفحة 64)
فعلة الدالة على المرّة كما هو واضح .
وحينئذ فيصير معنى الروايات وجوب القيام إلى الركوع ، ومن المعلوم أنّ هذا القيام ليس القيام حال تكبيرة الاحرام ، لاختصاصه بالركعة الأولى فقط ، فينطبق على القيام المتّصل بالركوع لا محالة .
إن قيل : إنّ الغرض اثبات كون القيام المتّصل بالركوع ركناً مستقلاً ، في قبال الركوع والسجود وسائر الأركان ، مع أنّ مفاد تلك الأخبار اعتباره في الركوع ، فيكون جزءً للركن ، لا أنّه ركن بنفسه .
قلنا : مضافاً إلى أنّه لا ثمرة عملية في كون القيام ركناً بنفسه أو جزءً للركن ، إذ على كلا التقديرين يوجب الاخلال به بطلان الصلاة ، إمّا من جهة فقدانها لركن مستقل ، وإمّا من جهة الاخلال ببعض أجزاء الركن الراجع إلى الاخلال بالركن ، وبما أنّ القيام فرض من الله تعالى ، ومذكور في كتابه العزيز كما عرفت ، ومن شأن الركن أن يكون كذلك ، فلا محالة يكون بنفسه ركناً .
ولكن الانصاف أنّه لا يمكن الاعتماد على ما ذكرنا ، من دلالة الأخبار على كون القيام المتّصل بالركوع ركناً ، بحيث يحصل الاطمئنان ويصير موجباً لجواز الفتوى على طبقها .
ثم إنّه قد يتمسّك على ذلك بأنّ القيام معتبر في حقيقة الركوع ، فإنّه الانحناء الحاصل من الحركة ، عن القيام المنتهية إلى ذلك الحدّ المخصوص ، ولكن لايخفى ما فيه ، من أنّ هذه دعوى بلا بينة ، بل الظاهر ـ كما استظهر بعضهم من عبارة أهل اللغة ـ أنّ الركوع عبارة عن الهيأة الخاصة المعروفة ، سواء كان مبدأ الحركة ، القيام أو القعود ، بل ولو لم تكن حركة أصلا ، كما إذا كان المصلّي منحنياً بحسب الهيأة ولو في غير حال الصلاة .
(الصفحة 65)
كما أنّ قوله : «من لم يقم صلبه في الصلاة فلا صلاة له»(1) ، لا دلالة له على كون القيام المتصل بالركوع ركناً ، لأنّ المراد بعدم إقامة الصلب ، هو الانحناء اليسير غير البالغ حدّ الركوع، وحينئذ فالمراد من الرواية استحباب ذلك للاجماع على عدم الوجوب(2).
فانقدح ممّا ذكرنا أنّه ليس هنا شيء يمكن أن يستند إليه في مقام الفتوى بركنية القيام إلاّ الاجماع كما عرفت .
لو شك في ركنيّة شيء
ثم إنّك عرفت أنّ الركن عبارة عمّا تبطل الصلاة بالاخلال به عمداً أو سهواً ، لأنّه الموافق لمعناه بحسب اللغة ، فإنّ ركنية جزء للمركب معناها شدّة احتياجه في تحقّقه إليه بحيث لا يمكن أن يتحقّق بدونه ، وأمّا مانعية زيادته الراجعة إلى اعتبار عدم الجزء بوجوده الثانوي ، فلا يستفاد من ركنية وجوده الأوّلي .
اللهمّ إلاّ أن يكون المؤثر في تحقق المركّب هو وجوده المقيد بالوحدة ، بحيث لايتحقّق المركب إذا وجد مرتين أو أزيد ، ولا يخفى أنّ البطلان حينئذ مسبّب أيضاً عن الاخلال بالركن لا عن زيادته ، غاية الأمر أنّ الاخلال بالركن تارة يتحقّق بترك ذات الجزء ، واُخرى بترك وصفه كما في المفروض .
وكيف كان فإذا شكّ في جزء أنّه ركن حتّى تبطل الصلاة بالاخلال به مطلقاً ، أو غير ركن حتّى يكون الاخلال به موجباً لبطلانها في صورة العمد فقط ، ولم يكن في البين ما يدلّ على أحد الطرفين .
فقد يقال : بأنّ المرجع أصالة عدم الركنية ، نظراً إلى أنّ الشك في الركنية يرجع
- (1) الوسائل 6 : 321. أبواب الركوع ب16.
- (2) السرائر 1: 224; شرائع الإسلام 1: 74; قواعد الأحكام 1: 275; مسالك الأفهام 1: 213; مستند الشيعة 5: 194; رياض المسائل 3: 427; بحار الأنوار 82 : 119 ـ 120.
(الصفحة 66)
إلى الشك في جزئيّته في حال السهو ، وإذا شك في أصل الجزئية ، أو في جزئية الجزء في بعض الحالات ، يكون مقتضى أصالة البراءة عدم الجزئية مطلقاً ، أو في خصوص ذلك الحال ، لأنّها هي المرجع عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين وقد تقدّم منّا تقريب جريانها بما لا يرد عليه شيء فراجع .
هذا، ولكن ذهب شيخنا المحقّق الأنصاري(قدس سره) في رسالة الاشتغال ، إلى بطلان العبادة بترك الجزء سهواً في صورة الشكّ في ركنيته .
قال في التنبيه الأول من تنبيهات مسألة الأقل والأكثر ما محصّله : إنّ ما كان جزءً في حال العمد كان جزءً في حال الغفلة أيضاً ، لأنّ الغفلة لا توجب تغيير المأمور به ، فإنّ المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء ، لم يتغيّر الأمر المتوجّه إليه قبل الغفلة ، ولم يحدث بالنسبة إليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ، لأنّه غافل عن غفلته ، فالصلاة المأتيّ بها من غير سورة غير مأموراً بها بأمر أصلا . غاية الأمر عدم توجه الأمر بالصلاة مع السورة إليه ، لاستحالة تكليف الغافل ، فالتكليف ساقط عنه ما دام الغفلة ، نظير من غفل عن الصلاة رأساً ، أو نام عنها ، فإذا التفت إليها والوقت باق ، وجب عليه الإتيان بها بمقتضى الأمر الأول(1) . انتهى ملخصه بعد حذف الايرادات التي أوردها على نفسه والجواب عنها .
واعترض عليه بعض الأعاظم من المحشين ، بأنّ توجيه الخطاب إلى الغافل لاينحصر طريقه بقوله : أيّها الغافل لا تقرء السورة مثلا ، أو إقرأ ما عدا السورة ، بل للأمر طرق عديدة :
منها: أن يكلّف جميع المكلّفين ، أو خصوص ناسي السورة بعدّة أجزاء لم
- (1) فرائد الاصول : 286 ـ 287 .
(الصفحة 67)
يتعرض فيها لذكر السورة ، ثم يخص الملتفت بالذكر ، ويقول مثلا : أيّها الملتفت إقرأ السورة في صلاتك .
ومنها: أن يأمره بماعدا السورة بعنوان يعلم إنّه ملازم للنسيان ، كأن يقول مثلا: أيّها المسافر صلّ كذا، إذاعلم أنّ السفر ملازم لنسيان السورة ، وغيرهما من الطرق.
ثم قال : والحاصل إنّه لا استحالة في اختصاص وجوب السورة بمن ذكرها ، فعلى هذا لو كان دليل وجوب السورة لبياً ، بحيث لم يمكن الاستدلال باطلاقه لحال النسيان ، لا يثبت إلاّ جزئيتها في حال الذكر ، وأمّا بالنسبة إلى حال النسيان فيرجع إلى ما يقتضيه القواعد(1) . انتهى .
ولا يخفى أنّ الكلام قد يكون في إمكان الحكم بصحة عبادة الغافل عن بعض الأجزاء أو الشرائط ، وإنّه هل يمكن أن يدلّ الدليل على صحة عبادته وانطباق عنوان الصلاة مثلا على الصلاة الفاقدة لبعض الأجزاء أو الشرائط بناءً على أن تكون موضوعة للصحيح كما هو الحقّ؟
وقد يكون في أنّ المقام ـ وهو ما إذا شكّ في ركنية بعض الأجزاء ـ هل يكون من مصاديق مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين حتى تجري فيه البراءة ، كما هو مقتضى التحقيق في تلك المسألة أوّلا؟
ولا يخفى أنّه لا يظهر من الشيخ عدم امكان الحكم بصحة عبادة الغافل ، غاية الأمر أنّه عبر بامكان أن تكون عبادته بدلا عمّا هو المأمور به ، إذا دلّ الدليل عليه ، ولكن الحكم بعدم جريان البراءة ليس مبتنياً على جعل عبادة الغافل بدلا عن الواقع ، بل يجري ولو قلنا بصحة عبادته كعبادة الملتفت ، بمعنى انطباق عنوان الصلاة الموضوعة للصحيح عليها ، كانطباقه على عبادة غيره .
- (1) تعليقة المحقّق الهمداني على الفرائد : 111 .