(الصفحة 8)
كان يفهم منها قبل التشريع ، وهو التذلّل والخضوع في مقابل المعبود ، كما هو المفهوم منها عند جميع المتدينين قبل الإسلام .
غاية الأمر أنّ ذلك يتحقق بكيفية خاصة ونحو مخصوص عند كل قوم ، والنبي(صلى الله عليه وآله) قد أبطل جميع الكيفيات ، وبيّن أنّ ما يتحقّق به ذلك المعنى هي هذه الكيفية المعروفة بين المسلمين ، وهي التي رواها العامة عنه(صلى الله عليه وآله) ، أنّه قال : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(1) .
وبالجملة : فالصلاة وما يرادفها من سائر اللغات عبارة عن الأفعال التي يؤتى بها في مقابل المعبود تذلّلا وتخضّعاً ، والاختلاف بين الأديان إنّما هو في تلك الأفعال .
- (1) صحيح البخاري 7 : 102 ، ح6008 وج8 ، ص169 ، ح7246; السنن الكبرى 2 : 345 ، سنن الدارقطني 1 : 272 ، ح1296 .
(الصفحة 9)
الأوّل من أفعال الصلاة : النيّة
ثمّ إنّهم ذكروا أنّ أوّل أفعال الصلاة النية ، وقد يقال في معناها: أنّها هي الإرادة التي لابدّ منها في كل فعل اختياريّ ، وأنت خبير بأنّ النية بهذا المعنى ممّا ليس لبيانه ارتباط إلى الشارع أصلا، كما هو واضح، بل المراد منها هو القصد إلى عنوان الصلاة.
توضيح ذلك ، إنّ الأفعال على قسمين : قسم لا يتوقف تحقق عنوان الفعل على كونه مقروناً بقصد ذلك العنوان ، كالأكل والشرب والقيام والقعود وأمثالها ، وقسم يكون تحقّق عنوان الفعل متوقفاً على قصد ذلك العنوان ، كالتعظيم للقادم ، فإنّ مجرد القيام عند قدومه لا يتّصف بعنوان التعظيم ولا يتحقّق به ، بل صدقه يتوقف على قصد التعظيم ، وكونه هو الداعي إلى القيام ، وإلاّ فهو قد يكون لغرض آخر ما عدا التعظيم ، بل قد يكون للسخرية والاستهزاء ، وهذا القسم هو المسمّى بالعناوين القصدية ، وله مصاديق كثيرة في أبواب الفقه ، ولا يختصّ بالعبادات ، بل له مصاديق في التوصليات ، كما أنّه لا يختصّ بما إذا كان متعلّقاً للأمر ، لأنّ أكثر المعاملات بل جميعها من هذا القبيل .
(الصفحة 10)العناوين القصديّة:
ومن مصاديق هذه العناوين: «أداء الدين» ، فإنّ إعطاء المال إلى الدائن لا يتعيّن لكونه أداء للدين إلاّ بعد قصد هذا العنوان ، وإلاّ فهو مشترك بين الأداء والهبة ونظائرهما ، فالتخصّص بهذه الخصوصية لا يأتي إلاّ من قبل قصدها ، ثمّ لو فرض إنّه استدان مرّتين ، فهل يجب عليه عند الأداء قصد الخصوصية من هذه الجهة ، أي الأولية والثانوية أيضاً؟ الظاهر العدم ، بل لا يجب عليه إلاّ قصد عنوان أداء الدين فقط .
ومنها : «الوفاء بالنذر» ، فإذا نذر إعطاء درهم إلى الفقير إذا قضى الله حاجته مثلا يجب عليه عند الوفاء قصد هذا العنوان ، لأنّ الصورة المشتركة بين الوفاء بالنذر وبين غيره لا تتعيّن للأوّل إلاّ بالقصد إلى عنوانه .
ومنها : «أداء الزكاة» ، فإنّ دفع المال إلى مستحقّ الزكاة لا يوجب خروج الدافع عن عهدة التكليف بأدائها إلاّ بعد تحقّق القصد إلى عنوانها ، وهذا أمر لا ربط له بمسألة قصد القربة المعتبرة في الزكاة .
ومنها : «ردّ الخمس» ، فإنّه أيضاً يكون كأداء الزكاة .
ومنها : «أفعال الحجّ» .
ومنها : «الصوم» ، فإنّ قوله : «من لم يبيّت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له»(1) ، ناظر إلى أنّ تحقق عنوان الصوم متوقف على بيتوتته من الليل ، وإرادة إيجاد الصوم منه .
وبالجملة : فلهذا الأمر عرض عريض في أبواب الفقه ، فإنّ أكثر العبادات وأكثر المعاملات بل جميعها ممّا لا تتحقّق إلاّ بعد القصد إلى عنوانها ، لتوقف
- (1) سنن النسائي 4: 201 ب68; السنن الكبرى للبيهقي 4: 202 ـ 203.
(الصفحة 11)
الاختصاص بأحدها على هذا القصد ، لاشتراك صورة العمل غالباً كما هو غير خفي .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ من العناوين القصدية عنوان الصلاة ، فإنّ مجرّد الإتيان بصورتها مع الغفلة عن عنوانها وعدم القصد إليه لا يكفي في حصولها كما هو واضح . وكما يجب القصد إلى عنوان الصلاة في جميع الصلوات الواجبة والمندوبة ، كذلك يجب القصد إلى الأنواع الواقعة تحت هذا الجنس ، فيجب في الظهرين مثلا القصد إلى عنوان الظهرية والعصرية ، ولا يكفي في تحققهما مجرّد التقدّم والتأخر ، وإلاّ لما كان وجه لما دلّ على شرطية الإتيان بالظهر للعصر ، وإنّه يجب الإتيان بالظهر أولا ، ثمّ الإتيان بالعصر ، إذ لو كانت الصلاة الواقعة أولا متعينة للظهر ولو لم يقصد بها عنوان الظهريّة لما كان المكلّف قادراً على الإتيان بالعصر مقدّماً على الظهر ، حتى يكون الإتيان بالظهر من شرائط تحقّق العصر كما هو واضح .
وأيضاً لو كان مجرّد التقدّم كافياً في تحقّق عنوان الظهرية ، لما كان وجه لما دلّ على أنّه لو صلّى صلاة العصر بتخيّل أنّه أتى بصلاة الظهر ، فانكشف الخلاف ، وإنّه لم يصلّ الظهر بعد ، فإن كان في الأثناء يجب العدول إلى الظهر ، وإن كان بعد الفراغ يجب الإتيان بصلاة الظهر ، ويجزيه ما فعل عن صلاة العصر ، ووجه دلالته على المقصود واضح .
ويجب أيضاً القصد إلى عنوان الفرض والنفل ، لأنّهما ليسا عبارة عن مجرّد تعلّق الأمر الوجوبي أو الاستحبابي ، وإلاّ لكان المأتيّ به أولا بعد طلوع الفجر من الركعتين متعيّناً للفريضة ، نظير ما إذا أمر المولى عبده بإعطاء درهم إلى زيد واستحبّ له إعطاء درهم آخر إليه ، فإنّه يتعيّن إعطاء الدرهم الأوّل للوجوب ، والدليل عليه سقوط الأمر بمجرّده ، لأنّ مطلوبه الإلزامي قد حصل ، فلا مجال لبقاء الأمر .
(الصفحة 12)
وحينئذ فلو كان مجرّد تعلّق الأمر الوجوبي كافياً في تحقّق عنوان الفرض ، ومجرّد تعلّق الأمر الاستحبابي كافياً في تحقّق عنوان النفل من دون حاجة إلى قصد عنوانهما ، يلزم ما ذكر من تعين المأتي به أولا بعد طلوع الفجر لفريضة الصبح ، كما عرفت في المثال . فانقدح من ذلك أنّهما عنوانان مفتقران في التحقق إلى القصد إليهما .
كما أنّه يجب القصد إلى عنوان القضاء والأداء ، لكون تميّز الصلاة التي لها أربع ركعات مثلا المأتي بها قضاءً عن صلاة العشاء الفائتة عن صلاة الظهر والعصر الأدائيتين المشتركتين معها في الصورة ، إنّما هو بالقصد إلى كونها قضاءً عنها ، وإلاّ لما كان وجه للنزاع في تقديم القضاء على الأداء أصلا كما لايخفى .
ثمّ إنّه لا يجب القصد إلى عنوان القصر والإتمام وفاقاً للمشهور(1) ، لأنّ القصر عبارة عن مجرّد ختم الصلاة في الركعة الثانية ، كما أنّ الاتمام عبارة عن إضافة الركعتين إليها ، فلو شرع في الصلاة في مواضع التخيير بنية القصر ، ثمّ أراد الاتمام بعدد الاتيان بركعتين وأتم صحت صلاته ، كما إنّه لو شرع فيها بنية الإتمام ثمّ بدا له القصر فقصّر لم تبطل صلاته .
وكذلك لا يجب القصد إلى عنوان الانفراد في صلاة الفرادى ، ولا عنوان الإمامة في الجماعة بالنسبة إلى الإمام ، فإنّ صلاته كصلاة المنفرد بلا اعتبار خصوصية زائدة فيه أصلا ، خلافاً لأبي حنيفة من العامة(2) ، فإنّه اعتبر في صلاة الامام قصد الإمامة ، وأمّا المأموم فيعتبر في صلاته جماعة قصد الائتمام بإمام معيّن ، وإلاّ لم تصر صلاته جماعة .
- (1) المدارك 3: 311; رياض المسائل 3: 355; جواهر الكلام : 9 / 165; مفتاح الكرامة : 2 / 323 ; كشف اللثام 3: 415.
- (2) المجموع 4: 203; الخلاف : 1 / 565 مسألة 317 .