(الصفحة 92)
هذا ، ولكن يمكن أن يقال: بأنّ الوجه في ذلك هي التقية ، لأنّك عرفت أنّ المسألة من متفرّدات الإمامية رضوان الله عليهم ، ولكن يبعد احتمال التقيّة ما روي عن النبي(صلى الله عليه وآله) من أنّه يفعل كذلك ، مع أنّ التقيّة لا معنى لها في عصره(صلى الله عليه وآله) ، وما ورد في بعض الأخبار المتقدّمة ، من أنّ الإجهار بواحدة إنما هو فيما لو كان المصلّي إماماً ، لأنّ ظاهره أنّه لو كان مأموماً يجوز الإجهار بالمجموع ، مع أنّه لا فرق في التقية بين الإمام والمأموم كما هو واضح .
وبالجملة : فهذا القول ممّا لا سبيل إلى الأخذ به .
وأمّا القول بتعين الأخيرة ، فمستنده وإن كان ما ورد في الفقه الرضوي(1) الذي لا يعلم له حجية ، إلاّ أنّه باعتبار ذهاب طائفة من القدماء ، كالسيّد أبي المكارم ، وأبي الصلاح وسلاّر إلى اختياره(2) ، يكون واجداً لشرائط الحجية ، خصوصاً مع ما حكي عن السيد المرتضى في الناصريات ، من نسبته إلى الإمامية(3) ، ويؤيده فتوى الشيخ في المبسوط ، وجماعة بالتخيير وأفضليّة الأخيرة(4) ، فإنّ الحكم بأفضلية الأخيرة لا محالة كان مستنداً إلى نصّ ، إذ لا سبيل للعقل في ذلك أصلا ، فيستكشف من جميع ذلك وجود نصّ معتبر عندهم .
غاية الأمر أنّ الشيخ لم يستفد منه إلاّ الأفضلية ، والقائلون بوجوب تعيين الأخيرة حملوه على ظاهره ، ويؤيده أيضاً خبر أبي بصير المحكي عن شرح الروضة للفاضل الهندي ، وهذا بخلاف القول بتعيّن الأولى ، فإنّه مضافاً إلى أنّ القائلين به من المتأخرين ، لم يعلم له مستند سوى بعض الاعتبارات ، والوجوه
- (1) فقه الرضا(عليه السلام) : 105 .
- (2) الغنية: 83 ; الكافي في الفقه: 122; المراسم: 70 .
- (3) المسائل الناصريات : 210 .
- (4) راجع 2 : 85.
(الصفحة 93)
العقلية التي لا تلائم مذاق الفقه ، فالالتزام به أيضاً ممّا لا وجه له أصلا .
فلم يبق في البين إلاّ القول بتعيّن الأخيرة ، أو التخيير ، وأفضليتها ، كما نسب إلى المشهور ، وقد يستبعد الثاني ، بأنّ لازمه ـ كما صرّح به الشيخ في محكيّ المبسوط(1)ـ إنّه لو نوى بالأخيرة تكبيرة الافتتاح ، لوقعت الست السابقة مقدّمة للصلاة وخارجة عنها ، نظير الإقامة ، ولو نواها بالأول ى لوقع غيرها جزءً للصلاة، فاصلا بين القراءة والافتتاح، كالاستعاذة ولو نواها بغيرهما لوقعت السابقة مقدّمة واللاّحقة جزءً ، مع أنّ ظاهر الروايات كون نسبة السبع إلى الصلاة على نحو واحد .
ويمكن دفع الاستبعاد ، بأنّ هذه التكبيرات لها مدخلية في تحقق الافتتاح بمرتبته الكاملة ، لا أن يكون لها مدخلية في الصلاة بلا واسطة ، حتّى يورد عليه بما ذكر ، فإنّه كما تكون للصلاة مراتب ، بعضها أكمل من بعض ، كذلك تكون للافتتاح أيضاً مراتب متفاوتة ، من حيث الكمال والنقص .
فانضمام الست إلى تكبيرة الاحرام موجب لتحقّق الافتتاح بمرتبته الكاملة ، سواء وقعت قبلها ، أو بعدها ، أو بالتفريق ، نعم مدخليتها في حصول تلك المرتبة إنما هو من قبيل مدخلية الشروط ، لا الأجزاء ، حتّى يوافق مع ما حكي عن والد المجلسي(2) .
وكيف كان ، فالأمر يدور بين تعين الأخيرة أو التخيير وأفضليتها ، والأوفق بالاحتياط هو الأول ، خصوصاً مع فتوى جماعة من القدماء على وفقه ، وهو ممّا يمكن استكشاف وجود نصّ معتبر منه لم يصل إلينا ، ومع تأيّده بما حكي عن الفقه الرضوي المتقدّمة ، وبما حكي عن شرح الروضة للفاضل الهندي ، وبما يدلّ على
- (1) المبسوط 1 : 104 .
- (2) روضة المتّقين 2: 280 ـ 284 .
(الصفحة 94)
حكاية فعل النبي(صلى الله عليه وآله) ، وأنّه كان يقول : «الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم»(1) ، وهو يدلّ على أنّ التكبيرة الواحدة التي كان يجهر بها النبي(صلى الله عليه وآله) ، كما في رواية الحسن بن راشد المتقدّمة هي الأخيرة(2) ، ويؤيده أيضاً ، الأخبار الدالة على أنّ مجموع التكبيرات الواجبة والمندوبة في الصلوات الخمس ، خمس وتسعون تكبيرة(3) ، فالأحوط في مقام الإتيان بهذه الوظيفة الاستحبابية ، جعل الأخيرة بالنية تكبيرة الافتتاح .
استحباب رفع اليدين عند كلّ تكبير
يستحبّ رفع اليدين عند كلّ تكبير ، سواء كان واجباً أو مستحبّاً على المشهور بينهم(4) ، وحكي عن صاحب الحدائق القول بالوجوب(5) ، كما أنّه ربما يظهر من كلام السيد(قدس سره) في الانتصار ذلك ، حيث قال :
وممّا انفردت به الإمامية القول بوجوب رفع اليدين في كلّ تكبيرات الصلاة ، إلاّ أنّ أبا حنيفة وأصحابه والثوري لا يرون رفع اليدين بالتكبير ، إلاّ في الإفتتاح للصلاة . وروي عن مالك إنّه قال : لا أعرف رفع اليدين في شيء من تكبيرات الصلاة ، وروي عنه خلاف ذلك أيضاً ، وقال الشافعي : يرفع يديه إذا افتتح
- (1) الفقيه 1 : 200 ح921; الوسائل 6 : 11. أبواب تكبيرة الاحرام ب1 ح11 .
- (2) الوسائل 6: 33. أبواب تكبيرة الإحرام ب12 ح2.
- (3) الكافي 3 : 310 ح5; التهذيب 2 : 87 ح323 و325; الخصال: 593; الوسائل 6 : 18. أبواب تكبيرة الاحرام ب5 ح1 و 3 .
- (4) الفقيه 1: 198; المبسوط 1: 103; الخلاف 1: 319; المعتبر 2: 156; الوسيلة: 94; المراسم: 70; الكافي في الفقه : 122; المهذّب 1: 98.
- (5) الحدائق 8 : 42 .
(الصفحة 95)
الصلاة ، وإذا كبّر للركوع ، وإذا رفع رأسه منه ، ولا يرفع بعد ذلك في سجوده ، ولا في قيامه منه(1) . انتهى موضع الحاجة من كلامه .
ولكن لا يخفى أنّ كلامه مسوق لبيان ثبوت رفع اليدين في كلّ تكبيرات الصلاة ، في مقابل المالكي والشافعي وأبي حنيفة المنكرين لثبوته في جميع التكبيرات على اختلافهم ، وأمّا كون ذلك على نحو الوجوب أو الاستحباب ، فلم يكن المقصود بيانه ، وإن كان التعبير بالوجوب ربما يشعر بذلك ، إلاّ أنّه يحتمل قوياً أن يكون المراد بالوجوب معناه اللغوي ، وهو الثبوت ، لا المعنى الاصطلاحي الذي يقابل الاستحباب .
وكيف كان ، فالأخبار الواردة في هذا الباب وإن كانت كثيرة ، وقد جمعها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب تكبيرة الاحرام ، إلاّ أنّ الظاهر عدم دلالة شيء منها على الوجوب ، لأنّ بعضها مشتمل على حكاية فعل الإمام(عليه السلام) وأنّه كان إذا افتتح صلاته يرفع يديه حيال وجهه ، أو إذا كبّر في الصلاة يرفع يديه حتّى يكاد يبلغ اُذنيه على اختلاف ألسنتها .
ومن المعلوم أنّ ذلك لا يدلّ على الوجوب ، لأنّ الفعل أعم منه ومن الاستحباب ، بل ربما يمكن أن يستفاد منها العدم ، من حيث أنّ أصل الحكاية يدلّ على عدم كون رفع اليدين أمراً متداولا بينهم ومتعارفاً عندهم ، وهذا المعنى ربما ينافي الوجوب كما هو ظاهر .
وبعضها الآخر قد ورد في تفسير قوله تعالى :
{فصلِّ لربِّك وانحر} ، وأنّ المراد من النحر ليست النحيرة ، بل رفع اليدين حذاء الوجه ، على اختلاف التعبيرات أيضاً ، ولا يخفى إنّه لا يستفاد منها الوجوب ، خصوصاً مع ملاحظة ما ورد في
(الصفحة 96)
بعضها من التعبير بقوله : «إنّ لكل شيء زينة وإنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة»(1) . فإنّ من المعلوم أنّ زينة الشيء تغاير نفس الشيء ولا تكون مقوّمة لحقيقته ، بحيث ينتفي عند انتفائها ، بل لها مدخلية في حصول الكمال له ، وهذا التعبير غير ملائم للوجوب كما هو واضح .
ثم إنّ الجمهور قد رووا عن علي(عليه السلام) في تفسير الآية المباركة أنّ معناها : «ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة»(2) ، وهو مضافاً إلى عدم صحته; مخالف لطريقتهم المستمرّة ، فإنّهم لا يضعون أيديهم حذاء النحر أصلا ، بل أسفل من ذلك بكثير، كما لا يخفى على من وجد طريقتهم .
هذا ، وأمّا سائر الأخبار فلا يستفاد منها الوجوب أيضاً ، ويؤيد العدم ، بل يدلّ عليه أنّه لو كان الرفع واجباً فكيف يمكن أن يخفى إلى الآن مع شدّة ابتلاء الناس بالصلاة وعموم البلوى بها ، وهذه قرينة قطعية على عدم الوجوب سيّما مع فتوى القدماء ، وغيرهم الذين هم وسائط نقل الأحكام وتبليغها إلى من بعدهم بالاستحباب ، فتدبّر جيّداً .
ثم إنّه لا منافاة بين التعبيرات المختلفة الواردة في الأخبار في حدّ الرفع ، حيث إنّه قد عبّر في بعضها بالرفع ، حتّى يكاد يبلغ الاُذن ، وفي بعضها الآخر بالرفع أسفل من الوجه قليلا ، وفي الثالث بالرفع حيال الوجه أو حذائه ، وفي الرابع بالرفع إلى النحر .
وجه عدم المنافاة واضح بعد ظهور عدم الاختلاف بينها ، فإنّه إذا رفع يديه حيال وجهه فلا محالة تقع محاذية للأسفل من الاُذن ، وللنحر أيضاً كما لا يخفى .
- (1) الوسائل 6 : 30. أبواب تكبيرة الاحرام ب9 ح14 .
- (2) الجامع لأحكام القرآن 20 : 219 .