(الصفحة 95)
الصلاة ، وإذا كبّر للركوع ، وإذا رفع رأسه منه ، ولا يرفع بعد ذلك في سجوده ، ولا في قيامه منه(1) . انتهى موضع الحاجة من كلامه .
ولكن لا يخفى أنّ كلامه مسوق لبيان ثبوت رفع اليدين في كلّ تكبيرات الصلاة ، في مقابل المالكي والشافعي وأبي حنيفة المنكرين لثبوته في جميع التكبيرات على اختلافهم ، وأمّا كون ذلك على نحو الوجوب أو الاستحباب ، فلم يكن المقصود بيانه ، وإن كان التعبير بالوجوب ربما يشعر بذلك ، إلاّ أنّه يحتمل قوياً أن يكون المراد بالوجوب معناه اللغوي ، وهو الثبوت ، لا المعنى الاصطلاحي الذي يقابل الاستحباب .
وكيف كان ، فالأخبار الواردة في هذا الباب وإن كانت كثيرة ، وقد جمعها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب تكبيرة الاحرام ، إلاّ أنّ الظاهر عدم دلالة شيء منها على الوجوب ، لأنّ بعضها مشتمل على حكاية فعل الإمام(عليه السلام) وأنّه كان إذا افتتح صلاته يرفع يديه حيال وجهه ، أو إذا كبّر في الصلاة يرفع يديه حتّى يكاد يبلغ اُذنيه على اختلاف ألسنتها .
ومن المعلوم أنّ ذلك لا يدلّ على الوجوب ، لأنّ الفعل أعم منه ومن الاستحباب ، بل ربما يمكن أن يستفاد منها العدم ، من حيث أنّ أصل الحكاية يدلّ على عدم كون رفع اليدين أمراً متداولا بينهم ومتعارفاً عندهم ، وهذا المعنى ربما ينافي الوجوب كما هو ظاهر .
وبعضها الآخر قد ورد في تفسير قوله تعالى :
{فصلِّ لربِّك وانحر} ، وأنّ المراد من النحر ليست النحيرة ، بل رفع اليدين حذاء الوجه ، على اختلاف التعبيرات أيضاً ، ولا يخفى إنّه لا يستفاد منها الوجوب ، خصوصاً مع ملاحظة ما ورد في
(الصفحة 96)
بعضها من التعبير بقوله : «إنّ لكل شيء زينة وإنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة»(1) . فإنّ من المعلوم أنّ زينة الشيء تغاير نفس الشيء ولا تكون مقوّمة لحقيقته ، بحيث ينتفي عند انتفائها ، بل لها مدخلية في حصول الكمال له ، وهذا التعبير غير ملائم للوجوب كما هو واضح .
ثم إنّ الجمهور قد رووا عن علي(عليه السلام) في تفسير الآية المباركة أنّ معناها : «ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة»(2) ، وهو مضافاً إلى عدم صحته; مخالف لطريقتهم المستمرّة ، فإنّهم لا يضعون أيديهم حذاء النحر أصلا ، بل أسفل من ذلك بكثير، كما لا يخفى على من وجد طريقتهم .
هذا ، وأمّا سائر الأخبار فلا يستفاد منها الوجوب أيضاً ، ويؤيد العدم ، بل يدلّ عليه أنّه لو كان الرفع واجباً فكيف يمكن أن يخفى إلى الآن مع شدّة ابتلاء الناس بالصلاة وعموم البلوى بها ، وهذه قرينة قطعية على عدم الوجوب سيّما مع فتوى القدماء ، وغيرهم الذين هم وسائط نقل الأحكام وتبليغها إلى من بعدهم بالاستحباب ، فتدبّر جيّداً .
ثم إنّه لا منافاة بين التعبيرات المختلفة الواردة في الأخبار في حدّ الرفع ، حيث إنّه قد عبّر في بعضها بالرفع ، حتّى يكاد يبلغ الاُذن ، وفي بعضها الآخر بالرفع أسفل من الوجه قليلا ، وفي الثالث بالرفع حيال الوجه أو حذائه ، وفي الرابع بالرفع إلى النحر .
وجه عدم المنافاة واضح بعد ظهور عدم الاختلاف بينها ، فإنّه إذا رفع يديه حيال وجهه فلا محالة تقع محاذية للأسفل من الاُذن ، وللنحر أيضاً كما لا يخفى .
- (1) الوسائل 6 : 30. أبواب تكبيرة الاحرام ب9 ح14 .
- (2) الجامع لأحكام القرآن 20 : 219 .
(الصفحة 97)استحباب التكبير و رفع اليدين بعد الركوع
لا إشكال في ثبوت التكبير عند الافتتاح ، وحين إرادة الركوع ، وعند الهويّ لكلّ سجدة والنهوض منه ، وإنما الإشكال في ثبوته عند رفع الرأس من الركوع ، ويظهر من الشيخ في الخلاف عدم الخلاف في نفي ثبوته عند فقهاء المسلمين ، حيث قال :
إذا انتقل من ركن إلى ركن من رفع إلى خفض ، ومن خفض إلى رفع ، ينتقل بالتكبير إلاّ إذا رفع رأسه من الركوع ، فإنّه يقول : سمع الله لمن حمده ، وبه قال جميع الفقهاء(1) ، انتهى .
وظاهر عبارته الاُخرى وجود القول بثبوته حيث قال : يستحبّ رفع اليدين مع كلّ تكبيرة ، وآكدها تكبيرة الافتتاح ، وقال الشافعي : يرفع يديه عند ثلاث تكبيرات ، ولا يرفعهما في غيرها : تكبيرة الافتتاح ، وتكبيرة الركوع ، وعند رفع الرأس من الركوع(2) .
فإنّ ظاهره أنّ المراد بالتكبيرة الثالثة التي يرفع اليد عندها ، هي التكبيرة عند رفع الرأس من الركوع ، بل ظاهره أنّ ثبوته مورد للاتّفاق ، والخلاف بين الشافعي وغيره إنما هو في اختصاص رفع اليدين بها ، وبالتكبيرتين قبلها ، أو بخصوص تكبيرة الافتتاح ، أو عدم الاختصاص بشيء منها ، بل هو ثابت عند الكلّ ، إلاّ أنّ من الواضح عدم كون هذا الظهور مراداً له ، سيّما مع تصريحه في موضع آخر ، بأنّ عدد التكبيرات في الصلوات الخمس ، خمس وتسعون تكبيرة(3) .
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ المقصود من عبارته الأولى أيضاً بيان ثبوت التكبير
- (1) الخلاف 1: 346 مسألة 95 .
- (2) الخلاف 1: 319 مسألة 71 .
- (3) الخلاف 1 : 347. مسألة 95 .
(الصفحة 98)
عند كلّ خفض ورفع ، في مقابل عمر بن عبدالعزيز ، وسعيد بن جبير ، القائلين بأنّه لا يكبِّر إلاّ تكبيرة الافتتاح ، من دون نظر إلى المستثنى ، حتّى يكون الاستثناء أيضاً مورداً لاتّفاق جميع الفقهاء فتدبّر .
وكيف كان ، فيدلّ على عدم ثبوت التكبير عند رفع الرأس من الركوع صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام)(1) ، ومرسلة صباح المزني عن أمير المؤمنين(عليه السلام)(2) ، الواردتين في بيان مقدار تكبيرات الصلوات الخمس ، وأنّها خمس وتسعون تكبيرة ، ومنها تكبيرات القنوت الخمس ، فإنّه لو كان التكبير عند رفع الرأس من الركوع أيضاً ثابتاً ، يلزم أن يكون مجموع التكبيرات مع تكبيرات القنوت زائداً على العدد المذكور بسبع عشرة تكبيرة ، كما هو واضح .
ويدلّ على ذلك أيضاً خلوّ صحيحتي حمّاد وزرارة الطويلتين(3) ، الواردتين في كيفية الصلاة التامة الكاملة الجامعة لجميع الأجزاء الواجبة والمندوبة عن ذكر هذا التكبير ، فإنّه في الأولى منهما قال في مقام حكاية فعل الإمام(عليه السلام): إنّه بعد ذكر الركوع استوى قائماً فلمّا استمكن من القيام ، قال : سمع الله لمن حمده ثم كبّر .
وفي الثانية قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) بعد ذكر الركوع وما يستحبّ فيه : «وأقم صلبك ومدّ عنقك وليكن نظرك إلى ما بين قدميك فإذا أردت أن تسجد فارفع يديك بالتكبير» .
وربما يستدلّ على الثبوت ببعض الأخبار الواردة من طرق العامة ، مثل ما روي عن أبي هريرة : أنّه كان يصلّي بهم، فيكبّر كلّما خفض ورفع، فاذا انصرف
- (1) الكافي 3 : 310 ح5; التهذيب 2 : 87 ح323 ; الوسائل 6 : 18. أبواب تكبيرة الاحرام ب5 ح1.
- (2) التهذيب 2: 87 ح325; الخصال: 593; الوسائل 6: 18. أبواب تكبيرة الإحرام ب5 ح3.
- (3) الوسائل 5 : 459 ـ 461. أبواب أفعال الصلاة ب1 ح1 ـ 3 .
(الصفحة 99)
قال: «إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله(صلى الله عليه وآله) »(1) ، وما روي عن عمران بن حصين ، من أنّه صلّى خلف علي(عليه السلام) وهو يكبّر كذلك ، ثم أخذ بيده بعد الفراغ فقال : قد ذكَّرني هذا صلاةَ محمّد(صلى الله عليه وآله) (2).
وما رواه الطبرسي عن مقاتل بن حيّان، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى :
{فصلِّ لربِّك وانحر} أنّ جبرئيل ذكر في جواب سؤال النبي(صلى الله عليه وآله) عن النحيرة التي أمر بها أنّه ليست بنحيرة ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت . . .»(3) . بناءً على أن يكون قوله : إذا ركعت وكذا المعطوفان بعده ، عطفاً على قوله : إذا تحرّمت للصلاة ، لا على قوله : إذا كبّرت .
وقد يستدلّ أيضاً بمرسلة الحميري عن المهدي(عليه السلام) في حديث قال : إذا انتقل من حالة إلى اُخرى فعليه التكبير»(4) . وبرواية معاوية بن عمّار قال : «رأيت أباعبدالله(عليه السلام) يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود، وإذا أراد أن يسجد الثانية»(5) .
ورواية ابن مسكان عنه(عليه السلام) قال : في الرجل يرفع يديه كلّما أهوى للركوع والسجود، وكلّما رفع رأسه من ركوع أو سجود، قال : «هي العبودية»(6) ، ورواية علقمة بن وائل عن أبيه قال : صلّيت خلف النبي(صلى الله عليه وآله) «فكبّر حين افتتح الصلاة ورفع يديه حين أراد الركوع وبعد الركوع»(7) .
- (1 و 2) صحيح البخاري 1 : 214 ب115 ، ح785 و ب116 ، 786 .
- (3) تفسير مجمع البيان 10 : 550 .
- (4) الاحتجاج 2 : 304; غيبة الطوسي: 378; الوسائل 6 : 362. أبواب السجود ب13 ح8 .
- (5) التهذيب : 2 / 75 ح279; الوسائل 6: 296. أبواب الركوع ب2 ح2.
- (6) التهذيب 2: 75 ح280 ; الوسائل 6: 297. أبواب الركوع ب2 ح3.
- (7) أمالي الطوسي 1 : 394; الوسائل 6 : 29. أبواب تكبيرة الاحرام ب9 ح12 .