(الصفحة 136)
شرعيّ ، ضرورة أنّ بقاء المكلّف وعدم زوال تمكنه لا يترتّب عليه شيء من الآثار الشرعية .
نعم ، يمكن معه الامتثال ، ولكنّه ليس بأثر شرعيّ كما هو واضح ، فإجراء الأصل مطلقاً ممنوع ، فلو أخّر المكلّف الامتثال ولم يزل تمكّنه في ثاني الأوقات وثالثها و . . . ، لا يكون مستحقّاً للعقاب إلاّ من جهة التجرّي الحاصل بتأخير الإمتثال مع احتمال زوال التمكّن ، كما أنه إذا زال تمكّنه ولم يأت به في ذلك الوقت يستحق العقاب من جهة تعمّد التأخير مع احتمال الزوال .
وبالجملة:
المماطلة والمسامحة في امتثال التكليف المتوجّه إلى المكلّف قطعاً ممّا لا يجوّزها الأصل بعد احتمال عروض ما يمنع عن امتثاله .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر(قدس سره) استدلّ للقول بالمواسعة أوّلا بالأصل ، وقد قرّره بوجهين:
1 ـ
استصحاب عدم وجوب العدول عليه ، لو كان الذكر في الأثناء وجواز فعلها قبل التذكّر ، ويتمّ بعدم القول بالفصل .
2 ـ
البراءة عن حرمة فعلها أو فعل شيء من أضداد الفائت بل وعن التعجيل ، لأنّه تكليف زائد على أصل الوجوب والصحّة المتيقّن ثبوتهما على القولين ، لأن القائل بالتضييق لا ينكرهما في ثاني الأوقات مع الترك في أوّلها وإن حكم بالإثم .
وقال بعد ذلك ما ملخّصه إنّه ليس المراد إثبات خصوص التوسعة المقومة للوجوب مقابل الفوريّة والتضييق ، حتّى يرد أنّ إجراء الأصل لا يصلح لإثبات ذلك ، بل المراد مجرّد نفي التكليف بالفورية قبل العلم ، كنفي التكليف بالوجوب للفعل المتيقّن ، طلب الشارع له طلباً راجحاً في الجملة .
بل ربما قيل بثبوت الندب في الأخير ، لاستلزام نفي المنع من الترك الذي هو فصل الوجوب ، وثبوت الجواز الذي هو نقيضه ، فيتقوّم به الرجحان المفروض
(الصفحة 137)
تيقّن ثبوته ويكون مندوباً ، ضرورة صيرورته راجح الفعل جائز الترك ونحوه جار في المقام ، إلاّ أنه كما ترى فيه نظر واضح ، لظهور الفرق بين الجواز الثابت بالأصل عند الشكّ في التكليف ، وبين الجواز المقوّم للندب كما حرر ذلك في محلّه .
وقد أخذ بعد ذلك في دفع كلام يرجع محصّله إلى ما أوردناه على إجراء الأصل بما حاصله: منع اقتضاء طبيعة الوجوب الذي هو القدر المتيقّن من القولين حرمة التأخير وكفاية الأصل المعلوم حجيته في ثبوت الإذن الشرعية بالتأخير ، وإن لم يكن إلى بدل حتّى العزم; إلى أن قال في ذيل كلامه: فظهر حينئذ سقوط جميع ما سمعته من تلك الدعوى ، حتّى ما ذكر أخيراً منها من الإحتياط الذي لا دليل على وجوب مراعاته هنا ، خصوصاً بعد ملاحظة استصحاب السلامة والبقاء الذي به صحّ الحكم بوجوب أصل الفعل على المكلّف ، وإلاّ فالتمكّن مقدّمة وجوب الفعل ، وبدون إحرازها لا يعلم أصل الوجوب . . .(1) .
وأنت خبير بأنّ استصحاب السلامة والبقاء لا يجوّز التأخير ، لعدم جريانه بعد عدم ترتّب أثر شرعيّ عليه كما عرفت ، كما أنّ كفاية الأصل المعلوم حجيّته في ثبوت الإذن الشرعيّ بالتأخير إنّما يتمّ لو كان مراد القائل بالمضايقة ثبوت أمر آخر متعلق بالفورية والمبادرة ، فانه حينئذ يقال عليه: إنّ مقتضى الأصل البراءة من ذلك الأمر بعد عدم ثبوته بدليل شرعيّ ، وأمّا لو استند في قوله إلى ما أوردناه على جريان أصالة البراءة فلا مجال حينئذ للأصل كما لا يخفى .
ومنه يظهر أنّ القائل بالتضييق كما أنه لا ينكر الوجوب والصحّة في ثاني الأوقات مع الترك في أوّلها ، كذلك لا يحكم بالإثم ، نعم قد عرفت أنه يمكن أن يقال باستحقاق العقاب من جهة التجرّي الحاصل بالتأخير مع احتمال زوال التمكّن ، هذا
- (1) جواهر الكلام 13: 43 ـ 46 .
(الصفحة 138)
كلّه فيما يتعلّق بجريان الأصل ، ولعلّنا نتكلّم فيه فيما سيأتي أيضاً .
وبعد ذلك لابدّ من ملاحظة أدلّة الطرفين العامّة والخاصّة ونبدأ بذكر الأخبار التي رواها العامّة بطرقهم في كتبهم المعدّة لنقل الأحاديث النبوية ، حتّى يظهر مقدار دلالتها ، وأنه هل ينطبق مع فتاويهم في هذا الباب ، فنقول:
روى الترمذي في سننه في باب ما جاء في النوم عن الصلاة ، عن أبي قتادة قال: ذكروا للنبيّ(صلى الله عليه وآله) نومهم عن الصلاة؟ فقال: «إنّه ليس في النوم تفريط ، إنّما التفريط في اليقظة ، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها» . قال الترمذي: وفي الباب عن ابن مسعود ، وأبي مريم ، وعمران بن حصين ، وجبير بن مطعم ، وأبي جحيفة ، وأبي سعيد ، وعمرو بن اُميّة الضّمري ، وذي مِخبَر ، وهو ابن أخ النجاشي ـ وقال بعد ذلك: ـ قال أبو عيسى: وحديث أبي قتادة حديث حسن صحيح .
وقد اختلف أهل العلم في الرجل ينام عن الصلاة أو ينساها فيستيقظ أو يذكر وهو في غير وقت صلاة ، عند طلوع الشمس أو عند غروبها ، فقال بعضهم: يصلّيها إذا استيقظ أو ذكر ، وإن كان عند طلوع الشمس أو عند غروبها ، وهو قول أحمد واسحاق والشافعي ومالك وقال بعضهم: لا يصلّي حتّى تطلع الشمس أو تغرب(1) .
وروى فيها أيضاً في باب ما جاء في الرجل ينسى الصلاة عن أنس قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من نسي صلاةً فليصلّها إذا ذكرها» ـ وقال بعد ذلك: ـ وفي الباب عن سمرة وأبي قتادة ، قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن صحيح .
وروي فيها أيضاً في باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيّتهنّ يبدأ ، عن
- (1) سنن الترمذي 1 : 221 ح 177 .
(الصفحة 139)
أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: قال عبدالله بن مسعود: «إنّ المشركين شغلوا رسول الله(صلى الله عليه وآله)عن أربع صلوات يوم الخندق حتّى ذهب من الليل ما شاء الله ، فأمر بلالا فأذّن ، ثمّ أقام فصلّى الظهر ، ثمّ أقام فصلّى العصر ، ثمّ أقام فصلّى المغرب ، ثمّ أقام فصلّى العشاء» . ـ وقال بعد ذلك: ـ وفي الباب عن أبي سعيد وجابر .
وروى فيه عن جابر بن عبدالله: أنّ عمر بن الخطاب قال يوم الخندق ، وجعل يسبّ كفار قريش ، قال: يا رسول الله ما كدت اُصلّي العصر حتّى تغرب الشمس ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «والله إن صلّيتها» قال: فنزلنا بطحان ، فتوضّأ رسول الله(صلى الله عليه وآله)وتوضّأنا ، فصلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) العصر بعدما غربت الشمس ، ثمّ صلّى بعدها المغرب» . ـ وقال بعد نقل هذه الرواية: ـ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح(1) .
وروى البخاري في جامعه عن أنس بن مالك ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: «من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها لا كفّارة لها إلاّ ذلك:
(أقم الصلاة لذكري) وروى في باب آخر رواية الجابر المتقدّمة . وهنا رواية اُخرى مشتملة على قصّة التعريس ونوم النبيّ(صلى الله عليه وآله)والذين معه عن صلاة الصبح ، والإتيان بقضائها بعد ارتفاع الشمس وابياضّها(2) .
وحكى العلاّمة في كتاب المنتهى عن الجمهور: إنّهم رووا عن ابن عباس أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)قال: «إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي فوقها ، فإذا فرغ منها صلّى التي نسي»(3) . ولكن هذه الرواية غير موجودة في جوامعهم المعدّة لنقل الروايات التي رووا عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، مضافاً إلى أنّ متنها
- (1) سنن الترمذي 1 : 222 ـ 224 ح178 ـ 180 .
- (2) صحيح البخاري 1: 166 ح597 .
- (3) المنتهى 1: 421 .
(الصفحة 140)
مضطرب لا يعلم المراد منه كما لا يخفى .
هذه هي الروايات المروية بطرقهم ، وهي تدلّ على اُمور ثلاثة:
أحدها:
وجوب القضاء متى ما ذكر الفوات .
ثانيها:
قصّة يوم الخندق .
ثالثها:
قصّة التعريس ، ولابدّ حينئذ من ملاحظة أنه هل يستفاد من تلك الروايات شيء من المطالب الثلاثة المتقدّمة التي يدور عليها القول بالمضايقة أم لا؟ ، فنقول:
أمّا ما يدلّ على وجوب القضاء متى ما ذكر الفوات ، فلا دلالة له لا على التوقيت ولا على الفورية ، لأنّه متفرّع على كون المراد به وجوب الإتيان به عند حدوث الذكر ، مع أنه يحتمل قويّاً أن يكون المراد هو الوجوب عند وجود الذكر لا عند حدوثه ، ولعلّ التعبير بذلك كان للإشارة إلى أنّ الفائتة لا تكون كالنافلة ، حيث يكره الإتيان بها في بعض الأوقات كبعد العصر وبعد طلوع الشمس ، بل يجوز الإتيان بها من غير كراهة في جميع أوقات الذكر من دون استثناء .
ومنه يظهر أنّه لا دلالة لهذه الطائفة على ترتّب الحاضرة على الفائتة وشرطيتها لها ، كما أنه لا دلالة لها على العدول ، وقد عرفت أنّهم لا يقولون به أيضاً .
وأمّا قصّة يوم الخندق(1) ـ فمضافاً إلى أنه لا أساس لها عند الإمامية ، لأنّه خلاف ما يقتضيه أصول مذهبهم كما هو غير خفي ـ لا دلالة لها على الفورية ولا على الترتّب ، أمّا عدم دلالتها على الثاني فلعدم ظهور الرواية في بقاء وقت العشائين أو خصوص المغرب ، لأنّه يحتمل خروج وقت جميع الصلوات ، مع أنه
- (1) تذكرة الفقهاء 2 : 351 مسألة 58 ; بداية المجتهد 1 : 187 .