(الصفحة 75)
متعلّق الأمرين أو الأوامر في الجزاء طبيعة واحدة وهي التوضّأ في المثال ، وظاهر القضية عدم كونها مقيّدة بشيء آخر ، وأنّ الطبيعة باطلاقها متعلّقة للأمر .
وقد عرفت أنّ الطبيعة الواحدة التي لم يلحظ فيها جهة الكثرة أصلا يستحيل أن يتعلّق بها أزيد من طلب واحد ، لانّ التكثّر لابدّ وأن يكون مسبّباً إما عن الآمر وإمّا عن المأمور ، وإمّا عن المأمور به ، المفروض إتّحاد الاُمور الثلاثة في المقام ، فلا بدّ أن يقال بتداخل الأسباب وعدم تأثيرها إلاّ في مسبّب واحد ، وإلاّ يلزم تعلّق أمرين أو أزيد بأمر واحد وشيء فارد .
وهذا لا فرق فيه بين أن تكون الأسباب والعلل الشرعية مؤثرات تامة أو غير تامة ، أو معرفات لا يكون لها تأثير أصلا ، فانّ امتناع التكثّر إنّما هو من جهة استحالة اتّصاف طبيعة واحدة بكونها مأموراً بها بأمرين أو أزيد ، فاللازم على القائل بعدم التداخل من الالتزام بأحد الأمرين على سبيل منع الخلوّ ، إمّا القول بكون متعلّق الوجوب في كليهما هي الطبيعة المقيدة ، وإمّا القول بالاطلاق في أحدهما والتقييد في الآخر .
وهذا الالتزام وإن كان يمكن أن يستند إلى ظهور الشرطية في السببية التامة وترجيحه على ظهور الجزاء في اطلاق متعلّقه ـ حيث إنّه مقدّمات الحكمة ولا مجال لها مع ظهور الشرطية في السببية التامّة ـ إلاّ أنه يقع مورداً للإشكال ، من جهة أن القيد الذي يقيّد به أحد المتعلّقين أو كلاهما ماهو؟ وأنّ المتعلّق هل يكون قابلا للتقييد أم لا؟ .
ضرورة أنّ القيد المتصوّر هنا هو عنوان الغيرية ، بأن يكون متعلّق الوجوب في قوله : «إذا بلت فتوضّأ» هو الوضوء الموصوف بكونه مغايراً للوضوء الذي تعلّق به الوجوب في قوله : «إذا نمت فتوضّأ» وكذا العكس ، ومن الواضح عدم استقامة هذا ، لانّ تحقّق عنوان الغيرية متقوّم بأن يكون الأمر الذي هذا مغايراً له
(الصفحة 76)
متميزاً ومتعيناً ، والمفروض أنّ تميّزه أيضاً إنّما هو بكونه مغايراً لهذا الأمر ، فكون هذا الأمر مغايراً له يتوقّف على تعيّنه ، فاذا توقّف تعيّنه على كونه مغايراً لهذا الأمر يلزم الدور كما هو واضح .
ودعوى أنّ القيد لا ينحصر في عنوان الغيرية ، بل يمكن تقييد المتعلّق في كليهما بخصوصية سبب الأمر الذي تعلّق به ، بأن يكون الواجب في قوله : «إذا بلت فتوضّأ» هو الوضوء الجائي من قبل البول ، وفي قوله : «إذا نمت فتوضّأ» هو الوضوء الجائي من قبل النوم .
مدفوعة بأنّ لازم ذلك وجوب تقييد المنويّ ذلك أيضاً ، بأن يكون اللازم عند التوضي عقيب البول قصد الوضوء المتّصف بذلك ، مع أنه لا يلتزم به أحد .
وبالجملة:
العمدة في هذا الباب تصوير القيد الذي يوجب تعدّد المتعلّقين لأحدهما أو كليهما ، ومع عدمه لا مجال لدعوى عدم التداخل بعد كون المتعلّق في كليهما هو نفس الحيثية المطلقة وصرف وجود الطبيعة .
وليس المراد بصرف الوجود ما لا ينطبق إلاّ على أوّل الأفراد حتّى يمنع كون متعلّق الأوامر ذلك ، نظراً إلى أنّ ما يدلّ العقل على دخله في متعلّق الطلب زائداً على مدلول اللفظ ، انّما هو مطلق الوجود لا عنوان الصرفية والناقضية للعدم ، بل المراد به هوالوجود الصرف الذي لا يكون مقيداً بقيد ، وليس مبنى القول بالتداخل هو القول بصرف الوجود بذلك المعنى ، بل على تقدير تعلّق الأوامر بمطلق وجود الطبيعة أيضاً ، يستحيل تعلّق أمرين أو أزيد بطبيعة واحدة وحقيقة فاردة .
ضرورة أنّ مطلق وجود الطبيعة وإن كان يصدق على المصاديق الطولية كصدقه على المصاديق العرضية ، لا بمعنى كون المتعدّد منها فرداً واحداً ، بل بمعنى كون كلّ واحد فرداًمستقلاّ، إلاّ أنه يكفي في تحقّق الامتثال وحصول الغرض الإتيان بفرد واحد ووجود فارد ، فاطلاق متعلّق الجزاء لا يقتضي لزوم الإتيان بأزيد منه .
(الصفحة 77)
فعلى تقدير القول بتعلّق الأوامر بمطلق وجود الطبيعة أيضاً ، لابدّ من الالتزام بالتداخل ، لما عرفت من أنّ وجود الطبيعة وإن كان متكثّراً صادقاً على كلّ واحد من الأفراد ، من دون فرق بين الأفراد التدريجية والدفعية ، إلاّ أن الفرد الأول كاف في تحقّق الطبيعة وحصول الامتثال ، فاطلاق متعلّق الجزاء في كلتا الشرطيّتين يقتضي الاجتزاء بأوّل وجود الطبيعة لتحقّقها به ، فلا وجه لعدم التداخل .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى الأصل التداخل ، ولكنّ الظاهر أنّ العرف ربّما يساعد القول بالعدم ، ويفهم من القضايا الشرطية التي تعدد الشرط فيها واتحد الجزاء تكرار متعلّق الجزاء حسب تعدد الأسباب وتكرّرها ، مضافاً إلى أنّ المستفاد من بعض الروايات الواردة في المقام ـ أعني سجود السهو ـ من طرق العامّة(1) وطريق الخاصّة وجوب تكراره حسب تعدد الموجب ، فإنّ قوله(عليه السلام) في المرسلة المتقدّمة : «تسجد سجدتي السهو لكلّ زيادة تدخل عليك أو نقصان»(2)ظاهر في ايجاب كلّ زيادة وكذا نقيصة للسجدتين مستقلاًّ ، فلا ينبغي ترك الإحتياط وتكراره حسب تكرار الموجب ، نعم لايجب التكرار حسب تعدد أجزاء كلّ زيادة ، بل اللازم ملاحظة الزيادة الواقعة وأنه هل تعدّ شيئاً واحداً أم أشياء متعدّدة ، فالتكلّم سهواً بمقدار جملة أو أزيد متّصلا ، لا يوجب إلاّ الإتيان بالسجدتين مرّة واحدة .
ثمّ إنّه على تقدير تعدد الموجب لا يجب تعيينه قصداً عند الإتيان بهما ، بل يكفي الإتيان به على حسب تعدد الموجب وإن لم يعيّن قصداً ، وذلك لعدم الدليل على
- (1) سنن أبي داود 1 : 272 ح1038; سنن ابن ماجة 1: 385 .
- (2) التهذيب 2: 155 ح608; الاستبصار 1: 361 ح1367; الوسائل 8: 251; أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب32 ح3 .
(الصفحة 78)
لزوم تعيين الموجب وإطلاق الأخبار الآمر بالسجود عقيب الموجب(1) يدفع اللزوم كما هو ظاهر .
الشكّ في النافلة
قد اشتهر بين الأصحاب بل كاد أن يكون إجماعاً ـ كما ادّعاه بعض ـ أنه لا حكم للسهو في النافلة خلافاً لسائر الفرق ، حيث لم يفرّقوا بين الفريضة والنافلة في الأحكام المترتّبة على السهو(2) ، وكيف كان ، فالمعروف بين الإمامية التخيير بين البناء على الأقلّ والبناء على الأكثر ، فيما إذا شكّ في عدد الركعات(3) .
فما نسبه السيّد الأجل المحقّق اليزدي صاحب العروة إلى الأصحاب رضوان الله عليهم في بعض رسائله العمليّة من كون المعروف بينهم هو البناء على الأكثر ، إلاّ أن يكون مستلزماً للزيادة(4) ، كأنّه سهو منه(قدس سره) ، لما عرفت من أن المشهور هو التخيير بين البناء على الأقلّ والبناء على الأكثر .
وبالجملة:
فاشتهار الحكم بين الأصحاب خصوصاً مع مخالفة سائر فرق المسلمين وانفرادهم به ، يغني عن الإجتهاد والتفحص عن الدليل ، وذلك لكشفه عن وجود نصّ معتبر ، ودلالته على كون هذا الحكم متلقّى إليهم من ناحية ائمّتهم المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، ومع ذلك فيمكن استفادة الحكم من جملة
- (1) الوسائل 8 : 250 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب32 .
- (2) المجموع 4: 161; بداية المجتهد 1: 264; الخلاف 1 : 465 مسألة 210 ; تذكرة الفقهاء 3: 333 مسألة 352 .
- (3) الخلاف 1 : 465 مسألة 210; المعتبر 2: 395; شرائع الإسلام 1 : 108; تذكرة الفقهاء 3: 333; مدارك الأحكام 4: 274; جواهر الكلام 12: 423; مفتاح الكرامة 3: 345 .
- (4) منتخب الرسائل: 64 .
(الصفحة 79)
من الروايات :
منها :
ما رواه الشيخ باسناده عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة وصفوان ، عن العلاء ، والكليني عن عليّ بن ابراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما(عليهما السلام) قال : «سألته عن السهو في النافلة؟ فقال : ليس عليك (عليه كما في الكافي) شيء(1)» وقد عرفت أنّ السهو بحسب المعنى اللغوي هو مطلق الذهول عن الواقع وعزوبه عن الذهن ، سواء كان مقارناً للجهل البسيط والتردّد والالتفات إلى ذهوله ، أم مقارنا للجهل المركّب والسهو بالمعنى المصطلح .
وظاهر الرواية بملاحظة الجواب أنّ المراد بالسهو الذي سئل عن حكمه هو السهو المساوق للشكّ والتردّد ، ومرجع عدم ثبوت شيء عليه أو على الساهي إلى عدم كونه موجباً لشي على المكلّف ، فلا يجب عليه الإتيان بالركعة المشكوكة لا متّصلة ولامنفصلة ، ويمكن أن يحمل السهو في الرواية على ماهو ظاهره ، وهو الأعمّ من السهو المساوق للشكّ ، بأن كان المراد عدم ترتّب شيء على السهو في النافلة ، سواء كان السهو موجبا للتردّد فى ركعاتها أو موجباً للإتيان بما يكون وجوده مخرباً ، أو لترك بعض ما يكون معتبراً شطراً أو شرطاً .
وعليه ، فاطلاقها يشمل السهو عن الركن ، بل عن الركعة ، ولا يبعد دعوى كون مقتضى اطلاقها عدم وجوب القضاء فيما لو نسي شيئاً ممّا يوجب نسيانه القضاء ، كالسجدة الواحدة ، والتشهّد .
وكيف كان ، فالرواية تدلّ على عدم لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة لا متّصلة ولا منفصلة .
- (1) التهذيب 2: 343 ح1422; الكافي 3: 359 ح6; الوسائل 8: 230 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب18 ح1 .