(الصفحة 114)
مدلول الأخبار الواردة في هذا الباب .
ولو قلنا بعدم استفادة حكم المسألة من الأدلة الاجتهادية ، ووصلت النوبة إلى الاُصول العملية ، فهل الأصل يقتضي البراءة أو الاشتغال؟
فنقول : ذكر الشيخ(رحمه الله) في رسالة البراءة في التنبيه الثالث ، من تنبيهات الشبهة الحكمية الوجوبية ، أنّ الظاهر اختصاص أدلة البراءة بصورة الشك في الوجوب العيني ، أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري ، والاباحة ، فلا يجري فيه أدلة البراءة ، لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف ، بحيث يلتزم به ، ويعاقب عليه(1) . انتهى موضع الحاجة من كلامه(قدس سره) .
والمقام وإن كان مغايراً لموضوع كلامه ، حيث انّ مفروضه ما إذا كان الأمر دائراً بين الوجوب التخييري والاباحة ، وفي المقام نعلم بالوجوب التخييري ونشكّ في بعض أطرافه من حيث القلّة والكثرة ، إلاّ أنّ الكلام في اشتراكه معه من حيث الحكم ، وإنّه هل تجري البراءة بالنسبة إلى الزائد ، كجريانها في الأقل والأكثر الارتباطيين في الواجب النفسي ـ بالوجه الذي تقدّم في مسألة الصلاة في اللباس المشكوك ، لا بالوجه الذي ذكره الشيخ في الرسالة ، فإنّه لا يخلو عن إشكال ، كما عرفت في تلك المسألة ـ أو أنّ الأصل في المقام يقتضي الاشتغال ، ولو قلنا بجريان البراءة في الأقل والأكثر في الواجب النفسي؟
فيه وجهان : من أنّ الوجه في جريان البراءة في تلك المسألة ، وهو تبعّض التكليف الواحد ، وتنجزه ببعضه المعلوم ، جار في المقام أيضاً ، لأنه يعلم فيه أيضاً بعض التكليف المتعلّق بالمردّد بين الأقل والأكثر ، فلا مانع من تنجزه بذلك البعض المعلوم ، وجريان البراءة بالنسبة إلى بعضه المشكوك ، ومجرّد كون مفروض المقام عبارة عمّا كان بعض أطراف الواجب التخييري مردّداً بين الأقل والأكثر ، لا يصلح
- (1) فرائد الاُصول : 231 .
(الصفحة 115)
فارقاً بينه وبين تلك المسألة ، بعد اشتراكهما في ذلك الوجه الذي تقدّم منّا ، ومن ثبوت الفرق بينهما ، فإنّ العقاب المترتّب على المخالفة في تلك المسألة ، إنما هو لكونه تاركاً للأقل الذي علم تنجّز التكليف بالنسبة إليه ، وفي المقام لا يترتب العقاب على مجرّد ترك الأقل ، وإن كان تعلّق التكليف به معلوماً ، بل إنما يترتب على تركه ، وترك الطرف الآخر الذي لا ترديد فيه من حيث القلّة والكثرة .
وبالجملة: فالمسألة محل إشكال .
المقام الثاني : وجوب السورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين
اعلم أنّه محل خلاف بين المسلمين ، فالمشهور بين العامة عدم الوجوب ، والمحكي عن بعض أصحاب الشافعي هو الوجوب(1) ، وهو محكيّ ظاهر الشيخ في التهذيبين والخلاف(2) ، وأكثر المتقدّمين(3) .
وذهب بعض المتأخّرين كصاحبي المدارك والمعالم ، إلى الاستحباب(4) ، ويمكن استظهاره من كلام الشيخ في المبسوط حيث قال: الظاهر من المذهب أنّ قراءة سورة كاملة مع الحمد في الفرائض واجبة، وأنّ بعض السورة أوأكثرهالايجوز مع الاختيار، غير أنّه إن قرأ بعض السورة أو قرن بين السورتين بعد الحمد ، لا يحكم ببطلان الصلاة، ويجوزكلّ ذلك في حال الضرورة ، وكذلك في النافلة مع الاختيار(5) . انتهى.
- (1) المجموع 3: 388 ـ 389; المغني لابن قدامة 1: 568 ; الشرح الكبير 1: 568; بداية المجتهد 1: 184; تذكرة الفقهاء 3: 130 مسألة 219.
- (2) التهذيب 2: 70; الإستبصار 1: 314; الخلاف 1: 335 مسألة 86 .
- (3) المقنعة: 105 و 112; المقنع: 93; الإنتصار: 146; المهذّب 1: 92; الكافي في الفقه: 117; الوسيلة: 94.
- (4) مدارك الأحكام 3: 347; منتقى الجمان 2: 10 .
- (5) المبسوط 1 : 107 .
(الصفحة 116)
فإنّ قوله : غير أنّه إن قرأ . . . ، ظاهر في عدم بطلان الصلاة بترك سورة كاملة ، فالمراد بعدم جواز قراءة البعض أو الأكثر ، ليس عدم الجواز ، بحيث ينافي صحة الصلاة ، بل عدمه من حيث كون قراءة سورة كاملة شرطاً في تحقق الكمال .
وأظهر من ذلك في الاستحباب ، كلام الشيخ في النهاية حيث قال : وأدنى ما يجزي من القراءة في الفرائض ، الحمد مرّة واحدة ، وسورة معها مع الاختيار ، لا يجوز الزيادة عليه ، ولا النقصان عنه ، فمن صلّى بالحمد وحدها متعمّداً من غير عذر ، كانت صلاته ماضية ، ولم يجب عليه إعادتها ، غير أنّه يكون قد ترك الأفضل ، وإن اقتصر على الحمد ناسياً أو في حال الضرورة من السفر والمرض وغيرهما ، لم يكن به بأس ، وكانت صلاته تامّة ـ إلى أن قال ـ : ولا يجوز أن يجمع بين سورتين مع الحمد في الفرائض ، فمن فعل ذلك متعمّداً ، كانت صلاته فاسدة ، فإن فعله ناسياً لم يكن عليه شيء ، وكذلك لا يجوز أن يقتصر على بعض سورة وهو يحسن تمامها ، فمن اقتصر على بعضها وهو متمكّن لقراءة جميعها كانت صلاته ناقصة ، وإن لم يجب عليه إعادتها(1)، انتهى .
فإنّ الحكم بالمضيّ فيما لو صلّى بالحمد وحدها متعمّداً من غير عذر ، صريح في نفي الوجوب ، فالمراد بقوله : أدنى ما يجزي . . . ، ليس هو الاجزاء المساوق للصحة ، بداهة أنّه بناءً عليه لا معنى لتفريع الحكم بالمضيّ ، والصحة في الفرع المذكور كما هو واضح .
فالتأمّل في كلامه في النهاية والمبسوط يقضي بذهابه إلى الاستحباب ، وإنّ تارك السورة متعمّداً من غير عذر إنما هو تارك للأفضل ، وعليه فلا تهافت في كلامه ، بل ولا اضطراب كما في مفتاح الكرامة(2) ، وتوجيه كلامه ـ بأنّ المراد
- (1) النهاية : 75 ـ 76 .
- (2) مفتاح الكرامة 2 : 350 .
(الصفحة 117)
بوجوب قراءة سورة كاملة هو الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ الذي محلّه الصلاة بعد قراءة الحمد ، فلا منافاة بينه وبين مضيّ الصلاة ، وعدم وجوب إعادتها فيما لو تركها متعمّداً ـ مستبعد جدّاً . وكيف! يمكن ذلك ، مع أنّه لم يعهد من أحد القول بوجوب السورة لا بنحو الجزئية .
وكيف كان فيمكن أن يحمل كلامه في التهذيبين والخلاف ، على ما هو ظاهر كلامه في المبسوط والنهاية ، فيكون للشيخ قول واحد وهو الاستحباب .
ويمكن أن يقال: بأنّ له في المسألة قولين : القول بالوجوب ، وهو ظاهر كلامه فيها . والقول بالاستحباب ، وهو ظاهر كلامه فيهما .
وبالجملة : فالذي يستفاد منه أنّ الوجوب ليس أمراً مسلّماً مقطوعاً به بين الإمامية ، حيث قال في المبسوط: الظاهر من المذهب(1) . . . ، وعليه فليست قراءة السورة كقراءة الحمد ، في أنّ وجوبها كان ضروريّاً بحيث لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، فالواجب النظر إلى الأخبار الواردة في المقام .
إذا عرفت ذلك فنقول : قد استدلّ للقول بعدم وجوب السورة بالأخبار التي تدلّ بظاهرها على إجزاء فاتحة الكتاب وحدها .
منها : صحيحة عليّ بن رئاب عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سمعته يقول : «إنّ فاتحة الكتاب تجوز وحدها في الفريضة»(2) .
ومنها : ما رواه عليّ بن رئاب عن الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إنّ فاتحة الكتاب تجزي وحدها في الفريضة»(3) . والظاهر كونهما رواية واحدة ، بمعنى أنّ سامع هذا الكلام من الإمام(عليه السلام) إنما هو الحلبي ، غاية الأمر إنّ حذفه في سند الأولى
- (1) المبسوط 1 : 107 .
- (2) التهذيب 2: 71 ح259; الإستبصار 1: 314 ح1169; الوسائل 6: 39. أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح1.
- (3) التهذيب 2 : 71 ح260; الوسائل 6 : 40. أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح3.
(الصفحة 118)
إمّا أن يكون مستنداً إلى عليّ بن رئاب ، ويكون الوجه فيه قطعه بصدق الحلبي في نقلها ، وكون هذا كلام الإمام(عليه السلام) يقيناً ، وإمّا أن يكون مستنداً إلى أحد من الرواة بعده اشتباهاً .
وحينئذ فيقوى في النظر أن تكون هذه الرواية هي ما رواه حمّاد بن عثمان عن الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا بأس بأن يقرأ الرجل في الفريضة بفاتحة الكتاب في الركعتين الاُوليين إذا ما أعجلت به حاجة أو تخوّف شيئاً»(1) .
وحينئذ فلا يبقى مجال للقول بأنّ الروايتين الاُوليين مطلقتان ، والأخيرة مقيدة ، والواجب حمل المطلق على المقيّد كما عن صاحب الحدائق(رحمه الله)(2) ، لأنّ ما ذكره مبنيّ على احراز صدور المطلق والمقيّد معاً ، وقد عرفت أنّ في المقام لا يعلم ذلك ، لاحتمال كون الصادر هو المقيّد فقط ، وكيف كان فالاستدلال بهذه الأخبار للقول بالاستحباب غير تامّ .
ثم إنّه يظهر من بعض الأخبار الواردة في المقام ، جواز تبعيض السورة وحصول الاجزاء به ، مثل ما رواه عليّ بن يقطين في حديث قال : سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن تبعيض السورة؟ فقال : «أكره ذلك ولا بأس به في النافلة»(3)ودلالتها على جواز التبعيض في الفريضة مبنية على أن يكون قوله : «في النافلة» متعلّقاً بقوله : «لا بأس به» فقط ، وأن يكون المراد بالكراهة هي الكراهة المصطلحة ، وأمّا لو كان متعلّقاً بقوله أُكره أيضاً ، كما لا يبعد دعواه أو كان المراد من الكراهة أعم من الحرمة ، فلا يدلّ على الجواز في الفريضة أصلا .
وما رواه سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال : سألته عن
- (1) التهذيب 2: 71 ح261; الإستبصار 1: 315 ح1172; الوسائل 6: 40. أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح2.
- (2) الحدائق 8 : 116 .
- (3) التهذيب 2 : 296 ح1192 ; الإستبصار 1 : 316 ح1178 ; الوسائل 6 : 44. أبواب القراءة في الصلاة ب4 ح4.