(الصفحة 119)
رجل قرأ في ركعة الحمد ونصف السورة، هل يجزيه في الثانية أن لا يقرأ الحمد ويقرأ ما بقي من السورة؟ فقال : «يقرأ الحمد ثم يقرأ ما بقي من السورة»(1) .
ورواية زرارة قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام): رجل قرأ سورة في ركعة فغلط أيدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءَته، أو يدع تلك السورة ويتحوّل عنها إلى غيرها؟ فقال : «كلّ ذلك لا بأس به وإن قرأ آية واحدة فشاء أن يركع بها ركع»(2) .
والظاهر أنّ المراد من الغلط ، الغلط مع عدم العلم بصحيحه ، وإلاّ فاللاّزم عليه إعادته صحيحاً كما هو واضح .
وغير ذلك من الأخبار التي ظاهرها جواز التبعيض ، ولكن لا يخفى أنّه لم نظفر على قول من يقول بوجوب السورة ولو ناقصة من بين أصحابنا الإمامية ، بل القائلون بالوجوب ظاهرهم وجوبها تامّة، وحينئذ فتسقط هذه الأخبار عن الحجية بعد إعراضهم عنها .
هذا، ويدلّ على وجوب سورة تامّة ـ مضافاً إلى الاجماعات المنقولة المدّعاة في كلام كثير ، المعتضدة بالشهرة العظيمة(3) ـ جملة من الأخبار الظاهرة في ذلك ، بل بعضها يدلّ على مفروغية ذلك عندهم ، وأنّ السؤال إنما وقع عن بعض الخصوصيات .
منها : رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا يصلّى على الدابة الفريضة إلاّ مريض يستقبل به القبلة وتجزيه فاتحة الكتاب ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شيء، ويؤمي في النافلة إيماءً»(4) . فإنّ ظاهرها أنّ إجزاء
- (1) التهذيب 2: 295 ح1191; الإستبصار 1: 316 ح1177; الوسائل 6: 45. أبواب القراءة في الصلاة ب4 ح6 .
- (2) التهذيب 2: 293 ح1181; الوسائل 6: 45. أبواب القراءة في الصلاة ب4 ح7.
- (3) الإنتصار: 146; أمالي الصدوق: 512; الوسيلة: 93; الغنية: 77; مفتاح الكرامة 2 : 350; تذكرة الفقهاء 3 : 130 مسألة 219; مستند الشيعة 5 : 90 المسألة التاسعة; جواهر الكلام 9 : 331 .
- (4) التهذيب 3 : 308 ح952; الوسائل 4 : 325. أبواب القبلة ب14 ح1 .
(الصفحة 120)
فاتحة الكتاب وحدها إنما هو بالنسبة إلى المريض .
ومنها : رواية الحلبي المتقدمة الدالة على إجزاء فاتحة الكتاب وحدها بالنسبة إلى المستعجل وأشباهه(1) .
ومنها : رواية منصور بن حازم قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : «لا تقرأ في المكتوبة بأقل من سورة ولا بأكثر»(2) . فإنّ المتفاهم منها عند العرف هو وجوب سورة كاملة ، لا أقلّ منها ولا أكثر ، وإن شئت قلت : إنّ النهي عن التبعيض لا ينطبق إلاّ على القول بالوجوب ، فإنّ القائل بالاستحباب يقول بجوازه .
وغير ذلك من الأخبار التي ظاهرها ذلك .
هذا ، والعمدة في هذا الباب أنّه ثبت متواتراً عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه كان يقرأ بعد الحمد سورة(3) ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين ، وذهاب الجمهور إلى الاستحباب إنما هو لأجل بعض الأخبار المروية بطرقهم(4) ، الدالة على أنّ السورة ليست جزءً للصلاة ، وإلاّ فكون عمل النبي(صلى الله عليه وآله) ذلك ممّا لا إشكال فيه عندهم .
ومن المعلوم أنّه لا يجوز التعدّي عن فعله(صلى الله عليه وآله) بعد ثبوت كون تعليمه للصلاة التي اخترعها ، إنما هو بسببه ، نعم لو دلّ الدليل على عدم دخالة بعض الأفعال في ماهيتها وحقيقتها ، لرفعنا اليد عن ظاهر الفعل ، ولكنّك عرفت عدم ثبوته .
ومن هنا يظهر الجواب عمّا ربما يمكن أن يقال: من أنّه لو كانت السورة واجبة ،
- (1) الوسائل 6: 40. أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح2.
- (2) الكافي 3 : 314 ح12; التهذيب 2: 69 ح253; الإستبصار 1: 314 ح1167; الوسائل 6 : 43. أبواب القراءة في الصلاة ب4 ح2 .
- (3) صحيح البخاري 1: 207 ح759 وص208 ح762; صحيح مسلم 4: 143 ح154 و155; سنن النسائي 2: 177 ح973 و974; سنن البيهقي 2: 59; الوسائل 6: 49. أبواب القراءة في الصلاة ب7 ح2 و4 وب24 ح3 و6.
- (4) المجموع 3: 388; سنن البيهقي 2: 61; المغني لابن قدّامة 1: 568; تذكرة الفقهاء 3: 130; الخلاف 1: 335.
(الصفحة 121)
لكان اللاّزم أن يكون البيان أكثر ممّا عرفت ، فإنّ هذا الأمر الذي مخالف لجمهور العامة ـ حيث إنّهم يقولون بالاستحباب ـ لو كان ثابتاً عند أئمّة الشيعة صلوات الله عليهم أجمعين ، لتكرّر ذكره في كلماتهم ، بحيث لا يبقى لشيعتهم الشكّ فيه ، وذلك لأنّ هذا الأمر لكونه موافقاً لعمل النبي(صلى الله عليه وآله) ، ولمواظبة الشيعة عليه ، صار بحيث لايحتاج إلى البيان أصلا .
ولذا قد عرفت أنّ أكثر الأخبار الواردة في المقام إنما يكون متعرّضاً لبعض الخصوصيات كالقرآن والتبعيض ونظائرهما ، ويستفاد منه كون أصل الوجوب مفروغاً عنه عند السائلين ، بحيث لم يكونوا يحتاجون إلى السؤال عنه، كما هو غير خفي .
وبالجملة: فالعمدة في هذا الباب هو عمل النبي(صلى الله عليه وآله) ومداومته على قراءة سورة بعد الحمد ، واستمرار عمل المسلمين بعده ، ومواظبتهم عليه ، بحيث إنّه حكي أنّه صلّى معاوية بالناس في المدينة وقرأ سورة بعد الحمد من دون البسملة ، فلمّا فرغ من صلاته صار مورداً لاعتراض أهل المسجد وايرادهم عليه بقولهم : أسرقت من الصلاة أم نسيت؟(1)
فانظر أنّ مجرّد ترك البسملة مع كون اعتقادهم على أنّها لست جزءً للسورة كيف يكون مستبعداً عند المهاجرين والأنصار ، بحيث يعترضون بسببه على خليفة الوقت، مع غلبة سلطنته وشدّة اقتداره ، وليس ذلك إلاّ لكونه مخالفاً لعمل النبي(صلى الله عليه وآله) والخلفاء بعده ، وقد عرفت أنّ ذهاب الجمهور إلى الاستحباب ليس إلاّ لبعض الأخبار الدالة عليه(2) ، فالأحوط بل الأقوى هو القول بوجوب سورة تامّة .
- (1) التفسير الكبير 1: 180 ; الحجّة الرابعة.
- (2) سنن البيهقي 2: 61 باب الإقتصار على فاتحة الكتاب.
(الصفحة 122)الأمور التي تسقط معها السورة :
منها : المرض ، ويدلّ على سقوطها معه رواية عبد الرحمن بن أبي عبدالله المتقدمة الواردة في صلاة المريض على الدابة ، ورواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها، ويجوز للصحيح في قضاء صلاة التطوّع بالليل والنهار»(1) .
وبالجملة: فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه(2) ، وإنما الإشكال في اختصاص الحكم بالمرض الذي يشقّ معه قراءَة السورة أو يعمّ جميع الأمراض ، وكذا الإشكال في شموله للمرض العارض في بعض الوقت ، والزائل في بعضه الآخر .
ومنها : الضرورة ، ويدلّ على السقوط معها رواية الحلبي المتقدمة ، ورواية الحسن الصيقل قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أيجزي عنّي أن أقول في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها إذا كنت مستعجلا أو أعجلني شيء؟ قال(عليه السلام) : «لا بأس»(3) .
ورواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل يكون مستعجلا يجزيه أن يقرأ في الفريضة بفاتحة الكتابوحدها؟قال : «لابأس»(4).
وبالجملة: فأصل السقوط مع الضرورة ممّا لا إشكال فيه أيضاً وإنما الكلام في اختصاص الحكم بالضرورة ، أو شموله لمطلق الاستعجال ، ولو لم يبلغ حدّ الاضطرار ، كما هو ظاهر اطلاق الروايات المذكورة ، وكذا الإشكال في شموله للضرورة الناشئة من قبل حرمة قطع الصلاة ، كمن شرع فيها ثم نسي السورة ،
- (1) الكافي 3 : 314 ح9; التهذيب 2: 70 ح256; الإستبصار 1: 315 ح1171; الوسائل 6 : 40. أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح5 .
- (2) تذكرة الفقهاء 3: 131; مفتاح الكرامة 2 : 383; كشف اللثام 4 : 36; مدارك الأحكام 3: 347; بحار الأنوار 82 : 12 .
- (3) التهذيب 2 : 70 ح255; الإستبصار 1 : 314 ح1170; الوسائل 6 : 40 . أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح4.
- (4) قرب الإسناد: 179 ح10; الوسائل 6: 41. أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح6.
(الصفحة 123)
فإنّ الاضطرار حينئذ إنما جاء من قبل حرمة القطع ، إذ بدونها لا اضطرار أصلا .
ومنها : ضيق الوقت ، والمحكي عن المحقّق الكركي الجزم بعدم سقوطها لذلك(1) ، ولكن المعروف بين المتأخّرين المعاصرين السقوط(2) ، واستدلّ عليه في الجواهر(3) بالاجماع المدعى في الرياض على سقوطها حال الضرورة(4) ، أو مع زيادة الاستعجال ، كالمحكيّ عن المعتبر والتذكرة (5).
ويرد عليه مضافاً إلى أنّ ضيق الوقت لا يعدّ ضرورة ولا استعجالا ، كما ستعرف أنّ الاجماع على تقدير تحقّقه لا يجدي في مثل المقام ، ممّا لا تكون المسألة من المسائل الأصلية المتلقّاة عن الأئمة(عليهم السلام) ، بل تكون من المسائل التفريعية المستخرجة من تلك المسائل الأصلية ، وذلك لما حقّق في محلّه من أنّ وجه حجية الاجماع إنما هو كشفه عن ثبوت نصّ معتبر لم يصل إلينا ، وهذا إنما يجري في خصوص المسائل الأصلية كما مرّت الإشارة إليه مراراً ، فالاستدلال بالاجماع في أمثال المسألة في غير محلّه .
نعم قد يستدلّ على السقوط بصدق الاستعجال ، بل الضرورة على الضيق ، ولكن يرد عليه أنّ الاستعجال هنا ليس إلاّ لأمر ديني حتمي ، وهو إدراك مجموع الصلاة في وقتها ، ومن المعلوم أنّ وجوب إدراكه كذلك فرع عدم وجوب السورة ، إذ المفروض أنّ الوقت لا يسع إلاّ بمقدار الصلاة بدونها .
ومن الواضح استحالة الأمر بفعل في وقت يقصر عنه ، فوجوب إتيان الصلاة
- (1) جامع المقاصد 2: 259 .
- (2) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 103; جواهر الكلام 9: 336; كتاب الصلاة للمحقّق النائيني 2: 105 ـ 106; كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 160 ـ 161; العروة الوثقى 1: 492.
- (3) جواهر الكلام 9 : 337 .
- (4) رياض المسائل 3: 384 .
- (5) المعتبر 2: 171; تذكرة الفقهاء 3: 131 .