(الصفحة 12)
وحينئذ فلو كان مجرّد تعلّق الأمر الوجوبي كافياً في تحقّق عنوان الفرض ، ومجرّد تعلّق الأمر الاستحبابي كافياً في تحقّق عنوان النفل من دون حاجة إلى قصد عنوانهما ، يلزم ما ذكر من تعين المأتي به أولا بعد طلوع الفجر لفريضة الصبح ، كما عرفت في المثال . فانقدح من ذلك أنّهما عنوانان مفتقران في التحقق إلى القصد إليهما .
كما أنّه يجب القصد إلى عنوان القضاء والأداء ، لكون تميّز الصلاة التي لها أربع ركعات مثلا المأتي بها قضاءً عن صلاة العشاء الفائتة عن صلاة الظهر والعصر الأدائيتين المشتركتين معها في الصورة ، إنّما هو بالقصد إلى كونها قضاءً عنها ، وإلاّ لما كان وجه للنزاع في تقديم القضاء على الأداء أصلا كما لايخفى .
ثمّ إنّه لا يجب القصد إلى عنوان القصر والإتمام وفاقاً للمشهور(1) ، لأنّ القصر عبارة عن مجرّد ختم الصلاة في الركعة الثانية ، كما أنّ الاتمام عبارة عن إضافة الركعتين إليها ، فلو شرع في الصلاة في مواضع التخيير بنية القصر ، ثمّ أراد الاتمام بعدد الاتيان بركعتين وأتم صحت صلاته ، كما إنّه لو شرع فيها بنية الإتمام ثمّ بدا له القصر فقصّر لم تبطل صلاته .
وكذلك لا يجب القصد إلى عنوان الانفراد في صلاة الفرادى ، ولا عنوان الإمامة في الجماعة بالنسبة إلى الإمام ، فإنّ صلاته كصلاة المنفرد بلا اعتبار خصوصية زائدة فيه أصلا ، خلافاً لأبي حنيفة من العامة(2) ، فإنّه اعتبر في صلاة الامام قصد الإمامة ، وأمّا المأموم فيعتبر في صلاته جماعة قصد الائتمام بإمام معيّن ، وإلاّ لم تصر صلاته جماعة .
- (1) المدارك 3: 311; رياض المسائل 3: 355; جواهر الكلام : 9 / 165; مفتاح الكرامة : 2 / 323 ; كشف اللثام 3: 415.
- (2) المجموع 4: 203; الخلاف : 1 / 565 مسألة 317 .
(الصفحة 13)العدول من الائتمام إلى الانفراد
وحيث انتهى الكلام إلى هذاالمقام، فلابأس أن نتعرّض للمسألة المعنونة في صلاة الجماعة ، وهي أنّه هل يجوز العدول من الائتمام إلى الانفراد في أثناء الصلاة أم لا؟
فنقول : لا يخفى أنّ هذه المسألة ليست معنونة في كتب قدماء أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم ، لا في الكتب الموضوعة لنقل الفتاوى المتلقّاة عن الأئمة(عليهم السلام) بعين ألفاظها الصادرة عنهم ـ كأكثر كتب المتقدمين(1) ، فإنّ المتداول بينهم هو ذكر الروايات بعين ألفاظها في كتبهم الفقهية ، من غير تعرّض لما هو خارج عن موردها ، واستنباط حكمه منها ، ولذا صار ذلك موجباً لطعن العامة عليهم ، والنظر إلى فقه الإمامية بعين التحقير ، وكان ذلك سبباً لتصنيف الشيخ أبي جعفر الطوسي(قدس سره) ، كتابه الكبير الموسوم بالمبسوط ، كما ذكر ذلك في مقدّمته(2)ـ ولا في سائر كتبهم .
وبالجملة : فلم يرد في المسألة نصّ ولا ما يدل على وجوده كالذكر في تلك الكتب ، ولا أفتى بحكمه أحد من المتقدمين ، نعم ذكره الشيخ في مواضع من المبسوط والخلاف .
قال في باب صلاة الجماعة من المسبوط : من فارق الإمام لغير عذر بطلت صلاته وإن فارقه لعذر وتمّم صلاته صحّت صلاته ولا يجب عليه إعادتها(3) .
وقال في الخلاف في باب صلاة الخوف فيما إذا صلّى صلاة الخوف في غير الخوف بعد الحكم بصحّة صلاة الامام والمؤتمين على أي وجه وقعت ، ونقل الخلاف من بعض العامة ما هذا لفظه : دليلنا إنّه ليس على بطلان شيء من هذه
- (1) كالمقنعة للمفيد والمقنع للصدوق والنهاية للشيخ والغنية لابن زهرة والكافي لأبي الصلاح.
- (2) المبسوط 1 : 1 ـ 2 .
- (3) المبسوط 1 : 157 .
(الصفحة 14)
الصلوات دليل ، فيجب أن تكون كلّها صحيحة ، ومن ادّعى أنّه من حيث فارق الإمام بطلت صلاته، فعليه الدليل(1) .
وقال فيه أيضاً في باب صلاة الجماعة : مسألة فيها ثلاث مسائل ومجملها هي مسألة الاستخلاف ، ونقل نيّة الجماعة إلى الانفراد ، والعدول عن الانفراد إلى الجماعة ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير ، ولأنه لا مانع يمنع منه ، فمن ادّعى المنع فعليه الدلالة(2) ، انتهى .
ولا يخفى أنّ التمسّك بإجماع الفرقة وأخبارهم الظاهر في كون المسألة منصوصة إنّما هو لخصوص المسألة الاُولى(3) ، وإن كان ظاهر العبارة خلافه ، وأنّ اجماع الفرقة وأخبارهم قائم على المسائل الثلاث ، لوضوح عدم ورود نصّ بالنسبة إلى ما عدى المسألة الاُولى ، ولم يذكر نصّاً على ذلك لا في كتابه الكبير المسمّى بالتهذيب ، ولا في غيره .
نعم يمكن استفادة حكم الأخيرتين ، ممّا ورد في مسألة الاستخلاف ، لأنه مبني على صيرورة الصلاة فرادى ، ثمّ جماعة ، فباعتبار صيرورتها فرادى يصح العدول من الجماعة إلى الانفراد ، وباعتبار صيرورتها ثانياً جماعة بعد الفرادى ، يصح العدول من الانفراد إلى الجماعة .
هذا ، ولكن الاستفادة ممنوعة ، لأنّ الاستخلاف ليس مبنياً على صيرورة الصلاة فرادى ، حتى تصير جماعة ثانياً ، لما سيأتي في باب الجماعة . وكيف كان فقد عرفت أنّ الشيخ أوّل من تعرّض للمسألة في بعض كتبه الفقهية ـ المصنّف على خلاف ما هو المتداول بين الفقهاء ـ كالمبسوط والخلاف ، وقد عرفت أيضاً أنّ
- (1) الخلاف 1 : 648 مسألة 420 .
- (2) الخلاف 1: 552 مسألة 293 .
- (3) وهي : من صلّى بقوم بعض الصلاة .
(الصفحة 15)
مختاره في الأوّل التفصيل بين صورة العذر فيجوز ، وغيرها فلا يجوز .
ثمّ لم يتعرّض لها أحد من الفقهاء المتأخرين عن الشيخ إلى زمان صاحب الوسيلة(1) ، فإنّه تعرّض لها فيها تبعاً له ، حيث عدّ في جملة محظورات الجماعة مفارقة الإمام لغير عذر . هذا ، وظاهر جماعة من المحققين كالمحقّق(2) ، والعلاّمة(3) ، والشهيد الثاني القول بالجواز مطلقاً . واختار أكثر المتأخرين كصاحبي الحدائق ، والمدارك ، والنراقي في المستند(4) ، وصاحب المفاتيح(5) ، وشارحه المحقّق البهبهاني(قدس سرهم)المنع مطلقاً(6) .
ثمّ إنّ القائل بالمنع يمكنه تقرير مختاره بوجوه :
الأوّل : إنّ قصد الانفراد لا يؤثّر في صيرورة الصلاة فرادى ، بل الصلاة المنعقدة جماعة تبقى على حالها إلى آخر الصلاة ، سواء عدل عنها بالنية إلى الانفراد ، أم لم يعدل ، ومقتضى هذا الوجه أنّه لو عدل عنها بعد الركعة الاُولى تسقط القراءة عنه بالنسبة إلى الركعة الثانية ، وكذا يكون شكّه بلا حكم مع حفظ الإمام .
وبالجملة: يترتّب على صلاته جميع أحكام صلاة المأموم ، لأنّ المفروض عدم تأثير قصد الانفراد أصلا .
الثاني : إنّ قصد الانفراد وإن كان موجباً لصيرورة الصلاة فرادى ، إلاّ أنّ العدول عن الائتمام إلى الانفراد ، وجعل الصلاة المنعقدة جماعة على غير ما انعقدت عليه منهيّ عنه في الشريعة، أو يقال: إنّ الواجب إدامة الصلاة جماعة وإبقائها على
- (1) الوسيلة: 106 .
- (2) المعتبر : 2 / 448 ; شرائع الاسلام: 1 / 116 .
- (3) تذكرة الفقهاء : 4 / 269 مسألة 557; مختلف الشيعة : 3 / 74; مسالك الأفهام 1: 320 .
- (4) الحدائق: 11 / 240; مدارك الأحكام 4: 379، مستند الشيعة 8 : 163 .
- (5) بل هو (رحمه الله) جوّزها بشرط العذر، مفاتيح الشرائع 1: 124 .
- (6) نقله عنه في جواهر الكلام 14: 21.
(الصفحة 16)
حالها الأوّل، وعدم العدول عمّا انعقدت عليه من الجماعة إلى الانفراد .
ومرجع هذا الوجه إلى أنّ العدول لا يوجب إلاّ مخالفة تكليف تحريمي أو وجوبي ، من غير أن تصير الصلاة فاسدة ، وإلى هذا الوجه ينظر ما استدلّ به الشيخ في الخلاف في عبارته المتقدمة ، من عدم الدليل على كون العدول منهياً عنه وأنّ الأصل الإباحة ، وما ذكره العلاّمة في بعض كتبه(1) : من أنّ الجماعة فضيلة للصلاة ، فبالعدول عنها لا يحصل إلاّ ترك الفضيلة في بعض أجزاء الصلاة ، ومراده إنّه كما أنّ الجماعة لا تكون واجبة عند الشروع في الصلاة ، كذلك لا يجب إبقائها وإدامتها إلى آخر الصلاة .
الثالث : إنّ قصد الانفراد يوجب صيرورة الصلاة فاسدة ، فالعدول عن الائتمام إلى الانفراد لا يؤثر في مجرّد مخالفة حكم تكليفي ، من الحرمة ، أو الوجوب ، بل يؤثر في فساد الصلاة وبطلانها ، وإلى هذا يرجع ما استدل به بعض القائلين بالمنع(2) ، من أنّه ليس في الشريعة صلاة مركّبة من الجماعة والفرادى ، فالعدول منها إلى الانفراد تشريع محض، فلا تقع صحيحة .
الرابع : إنّ سقوط القراءة بالنسبة إلى المأموم ، وكذا سائر ما يسقط عنه ، إنّما هو فيما إذا وقعت الصلاة بتمامها جماعة ، وأمّا لو وقع بعض أجزائها جماعة وبعضها فرادى ، فلا دليل على سقوط القراءة ، ولا سقوط غيرها .
ومرجع هذا الوجه إلى أنّ قصد الانفراد وإن كان موجباً لصيرورة الصلاة فرادى ، وأنّ الصلاة لا تبطل من هذه الجهة ، إلاّ أنّ وجه بطلانها هو كونها بدون القراءة مثلا ، وهذا الوجه يختصّ بما إذا أخلّ المأموم بشيء من وظائف المنفرد ،
- (1) تذكرة الفقهاء 4 : 271 .
- (2) مدارك الاحكام : 4 / 379 .