(الصفحة 17)
وأمّا في غير هذه الصورة فلا يجري ، بل مقتضاه صحة الصلاة ، لأنّ المفروض أنّ بطلانها ليس لمجرّد العدول من الجماعة إلى الانفراد ، بل لإخلاله بوظيفة المنفرد ، والمفروض عدمه في غير تلك الصورة .
هذا ، ويرد على الوجه الأوّل ـ وإن كان هذا الوجه لا يستفاد من كلام المانعين ـ إنّه لا معنى لكون قصد الانفراد مؤثّراً في صيرورة الصلاة فرادى ، ولا يقول به القائل بالجواز أيضاً ، حتى يورد عليه بأنّ الاستصحاب يقتضي عدم التأثير ، بل لأنّه لمّا كانت صيرورة الصلاة جماعة تحتاج إلى قصد الاقتداء ، وجعل الصلاة تبعاً لصلاة الإمام كما عرفت .
وهذا المعنى كما أنّه يتوقف على قصد الاقتداء في أوّل الشروع في الصلاة ، كذلك إبقائه وإدامته متوقف على استدامة القصد ، فبمجرّد رفع اليد عن قصد الاقتداء الراجع إلى قصد التبعية في مقام العبادة تبطل الجماعة ، وتصير الصلاة فرادى ، لا أنّ صيرورتها كذلك تحتاج إلى قصد الانفراد وتأثير من ناحيته ، ولذا ذكرنا أنّ المنفرد لا يحتاج إلى قصد الانفراد ، بل يكفي مجرّد عدم قصد الاقتداء وعدم جعل صلاته تبعاً لصلاة غيره .
هذا ، لو اُريد عدم التأثير ، وبقاء الصلاة جماعة ، كما هو الظاهر منه بل صريحه ، وأمّا لو أريد بأنّ قصد الانفراد لا يؤثر في صيرورة الصلاة فرادى ، كما أنّه لا يوجب بقاء الجماعه ، فهذا يرجع إلى أنّ قصد الانفراد يوجب بطلان الصلاة ، كما هو مقتضى الوجه الثالث والرابع .
ويرد على الوجه الثاني أنّ كون العدول عن الائتمام إلى الانفراد منهياً عنه ، أو الإبقاء والإدامة مأموراً به ، مبنيّ على أن لا تكون الصلاة التي وقع بعض أجزاؤها جماعة ، وبعضها فرادى مشروعة ، وإلاّ فلو فرض ثبوت مشروعيتها ، فلا مجال للنهي عن العدول أو الأمر بالإبقاء كما هو واضح .
(الصفحة 18)
وبالجملة : فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الثالث ، كما أنّ الوجه الرابع يرجع إلى ذلك الوجه أيضاً ، لأنّ القول بكون سقوط القراءة عن المأموم وغيره ـ ممّا يتعلّق به من حيث كونه مأموماً مبنياً على بقاء الائتمام إلى آخر الصلاة ـ متوقف على عدم مشروعية العدول في الأثناء ، وإلاّ فلو فرض ثبوت مشروعيته فلا يبقى مجال لهذا الوجه أصلا .
فالعمدة في المقام هو الوجه الثالث الراجع إلى عدم مشروعية الصلاة المركّبة من الجماعة والفرادى ، ولا يخفى إنّه إن كان المراد عدم وجود صلاة وقع بعض أجزاؤها جماعة وبعضها فرادى في الشرع أصلا ، فيرده وقوع ذلك في موارد كثيرة ، كاقتداء المتمّ بالمقصّر ، والصلاة الرباعية بالثلاثية ، والثلاثية بالثنائية ، وصلاة المأموم المسبوق بركعة أو أزيد .
وقد ورد النصّ في بعض موارده ، كالتسليم قبل الإمام ، فيما لو أطال التشهد ، وعرض للمأموم حاجة . وقد روي أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) صلّى بطائفة يوم ذات الرقاع ركعة ، ثمّ خرجت من صلاته وأتمت منفردة(1) .
وعن جابر قال : كان معاذ يصلّي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) العشاء ثمّ يرجع إلى قومه فيؤمّهم، فأخّر النبي(صلى الله عليه وآله) صلاة العشاء فصلّى معه ثمّ رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة فتأخر رجل فصلّى معه وحده، فقيل له : نافقت يا فلان فقال : ما نافقت ولكن لآتين رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأخبره فأتى النبي(صلى الله عليه وآله) فذكر ذلك له فقال له : أفتّان أنت يا معاذ؟ مرّتين ولم ينكره النبي(صلى الله عليه وآله) »(2) .
وبالجملة: فلا إشكال في وقوع نظيره في الشريعة ، وإن كان المراد به إنّه إذا اقتدى بالإمام وجعل صلاته تابعة لصلاته ، فاللازم عدم رفع اليد عن الاقتداء ما
- (1) صحيح البخاري 5: 63 ح4129 ; سنن النسائي 3: 168 ح1533; سنن أبي داود 2: 13 ح1238.
- (2) صحيح مسلم 4: 152 ح178; سنن أبي داود 1: 210 ح790; سنن البيهقي 2: 392 ـ 393.
(الصفحة 19)
دام يمكن بقاؤه ، لعدم فراغ الإمام عن صلاته ، وحينئذ فلا ينافي تلك الموارد التي وقع بعض أجزاء الصلاة جماعة ، وبعضها فرادى ، فيرجع النزاع إلى هذا المعنى .
والبطلان حينئذ يبتني على أن تكون الجماعة وصفاً لمجموع الصلاة دون الاجزاء ، كما أنّ القول بالجواز مبني على أن تكون الجماعة وصفاً لكلّ جزء من أجزاء الصلاة مستقلاً ، فاللازم في هذا المقام النظر في هذا المعنى ، وأنّ الجماعة التي توجب الفضيلة للصلاة ، هل هي وصف لمجموع الصلاة ـ بمعنى أنّ الصلاة التي وقعت بتمامها جماعة يزيد ثوابها على الصلاة منفرداً بخمس وعشرين درجة، كما ورد في النبوي الشريف(1)ـ أو أنّها وصف لكلّ جزء من أجزاء الصلاة؟ ، بمعنى أنّ وقوع القراءة مثلا جماعة لا يتوقف على وقوع غيرها كذلك ، فكلّ جزء وقع جماعة فهو يزيد على هذا الجزء ، لو وقع فرادى ، بخمس وعشرين درجة .
ولا يخفى أنّ النزاع في هذه المسألة ليس مبنياً على أنّ وصف الجماعة هل له مدخلية في حقيقة الصلاة؟ بمعنى أنّ صلاة الجماعة والفرادى نوعان من طبيعة الصلاة ـ كصلاة الظهر والعصر ـ أو أنّها وصف عارض لبعض الأفراد التي توجب أفضليّته ، كوقوعها في المسجد مثلا؟
وذلك لأنّ النزاع جار ولو بناءً على الوجه الثاني ، لما عرفت من أنّ مرجع البحث إلى أنّ الجماعة وصف لمجموع الصلاة أو لكلّ جزء منها ، وهذا لا يتوقف على الوجه الأوّل أصلا ، بل نقول: إنّه لا وجه للالتزام بأنّ صلاة الجماعة والفرادى نوعان من طبيعة الصلاة ، ولم يظهر من أحد الالتزام به ، بل الظاهر هو الوجه الثاني ، والنزاع إنّما وقع بناءً عليه .
وحينئذ فنقول : لو قلنا بأنّ المعروف لوصف الجماعة هو كل جزء من الأجزاء
- (1) سنن ابن ماجه 1 : 258 ـ 259 ب16; سنن الترمذي 1: 255 ب47; صحيح البخاري 1: 179 ب30 ، ح645 ، و 646 و 647.
(الصفحة 20)
على سبيل الاستقلال ، فاللازم جواز العدول من الانفراد إلى الجماعة أيضاً ، إذ المصلّي عند كل جزء يكون مخيّراً بين أن يأتي به جماعة أو فرادى ، ولا تتوقف صيرورة الجزء اللاحق متّصفاً بوصف الجماعة ، على أن يكون الجزء السابق أيضاً كذلك ، بل يمكن أن يقع الجزء السابق فرادى ، واللاحق جماعة .
كما أنّه بناءً على هذا القول يجوز الاقتداء في صلاة واحدة بأشخاص متعدّدة ، فيجوز الاقتداء في القراءة مثلا بزيد ، وفي الركوع بعمرو ، وفي السجود ببكر ، وهكذا ، وأيضاً فاللازم على هذا القول أن يكون اتّصاف كل جزء من أجزاء الصلاة بوصف الجماعة موقوفاً على قصد الائتمام بالنسبة إلى ذلك الجزء .
فعند الشروع في كلّ جزء يلزم أن يكون قصد الاقتداء فيه مقارناً للشروع في الإتيان به ، لو أراد صيرورته جماعة ، لما عرفت من أنّ تحقّق عنوان الاقتداء متوقف على القصد ا ليه ، وبدونه تصير الصلاة فرادى ، وإن لم يقصد ذلك ، لأنّه ليس إلاّ مجرّد عدم وقوع الصلاة جماعة .
وهذا بخلاف ما لو كانت الجماعة وصفاً لمجموع الصلاة ، فإنّه يكفي في صيرورتها كذلك القصد إلى عنوان الاقتداء حين الشروع فيها ، ولا يحتاج إلى ذلك القصد عند الشروع في كل جزء ، بل يكفي مجرّد كون القصد عند الشروع باقياً في ارتكازه، وهو الذي يعبّر عنه بالاستدامة الحكمية .
ثمّ إنّ التعبير بالعدول من الجماعة إلى الانفراد ـ كما وقع في أكثر العبارات ـ أو بنقل النية ـ كما وقع من الشيخ في عبارة الخلاف(1) ـ ربما يؤيد كون الجماعة وصفاً لمجموع الصلاة ، إذ بناءً على القول الأوّل لا يصدق العدول ولا النقل كما لايخفى .
وكيف كان ، فقد استدلّ على جواز العدول من الائتمام إلى الانفراد ، بما ورد في
- (1) الخلاف 1: 552 مسألة 293 .
(الصفحة 21)
بعض الروايات من جواز التسليم قبل الإمام ، فيما لو أطال التشهد(1) ، بدعوى إنّه لم يقل أحد بالتفصيل في جواز العدول بين مورد الرواية وغيره ، فيجوز مطلقاً .
ولا يخفى أنّ هذا الاستدلال مبنيّ على أن يكون مورد الرواية جائزاً فيه قصد الانفراد ، غاية الأمر إنّه يتعدّى عنه إلى سائر الموارد ، لعدم القول بالفصل ، مع أنّه في محلّ المنع ، لأنّ مجرّد جواز التسليم قبل الإمام كما ورد في الرواية لا يتوقف على صيرورة صلاته فرادى ، بل صلاته باقية على الجماعة ما دام لم يفرغ منها .
غاية الأمر أنّه بالفراغ لا يبقى موضوع لوصف الجماعة ، والحاصل أنّ جواز التسليم قبل الإمام ليس من أفراد المسألة حتى يتمسّك به عليها ، بل مرجعه إلى أنّ ما يكون واجباً على المأموم عند صيرورة صلاته جماعة ـ وهو وجوب متابعة الإمام في الأفعال ـ يرتفع عند عروض عذر للمأموم ، لأنّ متابعة الإمام في الأفعال ليست مقومة للجماعة ، لأنّها عبارة عن مجرّد اجتماع الناس لأجل العبادة ، وجعل واحد منهم واسطة بينهم وبين معبودهم ، بحيث يجعلون عبادتهم تابعة لعبادته ، وخضوعهم متعقّباً لخضوعه .
وأمّا متابعته في الأفعال فليست ممّا له مدخلية في حقيقة الجماعة ، نعم يجب على كل مأموم عند قصد الاقتداء وجعل صلاته تبعاً ، متابعة الإمام في الأفعال ، فإذا ارتفع الوجوب في بعض الموارد لعذر فلا يلزم من ذلك ارتفاع الجماعة ، ومورد الرواية من هذا القبيل ، لا من موارد صيرورة الجماعة فرادى ، ولذا ذكرنا في صلاة ذات الرقاع انّ صلاة كل من الطائفتين تقع بتمامها جماعة .
غاية الأمر إنّه بعد تماميّة سجود الركعة الاُولى يزول وجوب المتابعة بالنسبة إلى الركعة الثانية ، كما إنّه عند تماميّة سجود الركعة الثانية ، لا يجب على الطائفة
- (1) الفقيه 1 : 257 ح1163; التهذيب 2 : 349 ح1445; الوسائل 8 : 413. أبواب صلاة الجماعة ب64 ح3 .