(الصفحة 138)
بحذائه ، فقياس المقام على مسألة الكتابة قياس مع الفارق ، وحينئذ لا دليل على جواز ردّ التحية بقراءة آية من القرآن .
نعم ، قد يقال بأنّ قراءة آية مناسبة لردّ التحية بمجرّد صدور السلام من المخاطب ، ينتزع منها عنوان رد التحية ، وإن لم يكن قاصداً له ، نظراً إلى أنّ ذلك مشعر بكون المصلّي قاصداً لردّها ، لو لم يكن مانع في البين ، وهو الاشتغال بالصلاة .
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ مجرّد هذا المعنى لا يصحّح انتزاع عنوان الردّ ، ما لم يكن من قصده فعلا تحقق ذلك العنوان باللفظ الصادر منه ، والمفروض أنّ قراءة القرآن لا تجتمع مع تعلّق القصد بذلك العنوان .
نعم يمكن أن يتحقّق ذلك بحيث لا ينافي الصلاة ، بأن قصد بقوله : سلام عليكم الدعاء ، وسأل من الله تعالى أن يسلّمه ، وأمّا لو لم يكن المقصود منه الدعاء ، سواء أراد بقوله : سلام عليكم ، مجرّد سلامة المخاطب ، أو أراد به أن يسلّمه الله ، ولكن لا على سبيل الدعاء والسؤال منه تعالى حتّى يصدق عنوان الدعاء ، فالمسألة محلّ إشكال ، وسيأتي تفصيلها في محلّها إن شاء الله تعالى .
ولنرجع إلى ما كنّا فيه ونقول : إنّه لا منافاة بين قصد المعنى في مثل قوله : «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» وبين قراءة القرآن ، لما عرفت من أنّ هذه الآية والجمل التي بعدها وكذا نظائرها ، إنما كان الغرض من إنزالها أن يقصد العباد معانيها المشتملة عليها في مقام تحميد الله ، وتسبيحه ، وطلب الحاجة منه ، لقصور عقولهم عن أنّه يحمد الله تعالى بماذا ، وبأية كيفية ، وأنّه أيّ شيء ينبغي أن يسأل منه ، فأمره تعالى بقول تلك الجمل إنما هو لأجل إفادة أنّه ينبغي أن يحمد بمثل الحمد لله ربّ العالمين ، ويسأل عنه بما يتضمّنه قول : إهدنا الصراط المستقيم ، فلا منافاة بين قصد المعنى ، وبين قراءة مثل هذه الألفاظ الصادرة من الله تعالى أصلا .
(الصفحة 139)
ويؤيد ذلك ـ أي جواز إرادة المعنى ـ ما ورد في بعض الأخبار مما مضمونه ، أنّه قال الله تبارك وتعالى : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فمن أوّل السورة إلى جملة إيّاك نعبد إنما هو لي، وجملة إيّاك نعبد وإيّاك نستعين إنما هو بيني وبين عبدي، والباقي إنما هو لعبدي»(1) ودلالته على جواز قصد المعنى في الصلاة أوضح من أن يخفى .
ولبعض الأعلام هنا كلام في بيان عدم التنافي بين قصد المفاهيم التي تضمنها القرآن ، وبين قصد الحكاية ونقل كلام الله تعالى ، لا بأس بنقله فنقول ما ملخّصه :
إنّ تحقق مفهوم الحكاية والنقل لا يتوقّف على تعلّق القصد بنفس هذا العنوان ، من حيث هو على سبيل الاستقلال ، كي ينافي ذلك تعلّق قصد استقلالي بالنسب الحكمية الواقعة بين أبعاض المقروءة ، إذ القارئ قد لا يرى في قراءته إلاّ كون صدور المقروء من قائله طريقاً لإثبات تلك النسب ، فيقصد بقراءته ايقاع تلك النسب بهذا الطريق ، فمن يقرأ عبارة الكتاب قد يقصد بقراءته نسبة لفظه إلى مصنّفه ، وقد يقصد بذلك تفهيم المطالب المدونة فيه ، كما هو الغالب في تلاوة كتاب الأخلاق والرسائل العمليّة للعوام ، وقراءة الإنسان مصنّفاته في مقام الإفادة ، ففي هذه الصورة أيضاً يصدق عليه اسم قراءة ذلك الكتاب ، إذ لامعنى لقراءته إلاّ حكاية النقوش المدوّنة فيه باللفظ ، وهي حاصلة في الفرض ، غاية الأمر أنّ عنوان الحكاية غير ملحوظ من حيث هو على سبيل الاستقلال(2) . انتهى.
ولا يخفى أنّ معنى الحكاية في المقام إنما هو مجرّد التلفّظ بكلام الغير قاصداً به ذلك ، وبعبارة اُخرى ، جعل القارئ لفظه بحذاء لفظ آخر وفانياً فيه ، لإلغاء خصوصية صدوره منه ، وصدور المحكيّ من قائله ، وهذا بخلاف الحكاية للغير ،
- (1) سنن ابن ماجة 2 : 1243 ح3784 .
- (2) مصباح الفقيه، كتاب الصلاة: 408 .
(الصفحة 140)
مضافاً إلى أنّ فيها أيضاً لا يكون اللفظ مستعملا في المعاني في قبال الألفاظ المحكية ، بل يجعل ألفاظه بحذاء نفس الألفاظ المحكيّة فقط ، ولكن يكون غرضه من ايقاعها في سمع المخاطب وذهنه ، وقوع معانيها فيه لأنفسها مستقلاً ، بل طريقاً إليها كما لا يخفى .
المسألة الثالثة : القِران بين السورتين
المعروف بين قدماء أصحاب الإمامية رضوان الله عليهم حرمة القِران بين السورتين ، وكون ذلك مفسداً للصلاة(1) ، والمشهور بين المتأخّرين هي الكراهة(2) ، وهي التي يقتضيها الجمع بين الأخبار الكثيرة الواردة في هذا الباب ، لأنّ بعضها ظاهر في التحريم ، كصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة ولا بأكثر»(3) وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام)قال : سألته عن الرجل يقرأ السورتين في الركعة؟ قال : «لا لكلّ ركعة سورة»(4) وموثقة زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يقرن بين السورتين في الركعة؟ فقال : «إنّ لكلّ سورة حقّاً فأعطها حقّها من الركوع والسجود»، قلت :
- (1) الفقيه 1: 200; الهداية: 134; النهاية: 75 ـ 76; الإنتصار: 146; المسائل المصريّة (رسائل المرتضى) 1: 220; الكافي في الفقه : 118; المبسوط 1: 107; الخلاف 1: 336; التحرير 1: 39; القواعد 1: 273; مختلف الشيعة 2: 151 .
- (2) شرائع الإسلام 1: 72; جامع المقاصد 2: 248; الذكرى 3: 312; الدروس 1: 173; جواهر الكلام 9: 354; كشف اللثام 4: 13.
- (3) الكافي 3 : 314 ح12; التهذيب 2 : 69 ح253; الإستبصار 1 : 314 ح1167; الوسائل 6 : 43. أبواب القراءة في الصلاة ب4 ح2.
- (4) التهذيب 2: 70 ح254; الإستبصار 1: 314 ح1168; الوسائل 6: 44. أبواب القراءة في الصلاة ب4 ح3.
(الصفحة 141)
فيقطع السورة؟ فقال : «لا بأس»(1) وغيرها ممّا ظاهره التحريم .
وبعضها صريح في الجواز ، كصحيحة عليّ بن يقطين قال : سألت أباالحسن(عليه السلام)عن القران بين السورتين في المكتوبة والنافلة؟ قال : «لا بأس»(2) وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر ، نقلا من كتاب حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لا تقرنن بين السورتين في الفريضة في ركعة، فانّه أفضل»(3) ، وغيرهما من الأخبار الصريحة في نفي البأس ، والجمع يقتضي الحمل على الكراهة .
ودعوى وجوب حمل الطائفة الثانية على التقية ، لكونها موافقة للعامة القائلين بالجواز وعدم الحرمة .
مندفعة بأنّ مجرّد موافقة الخبر لهم لا يوجب الحمل عليها ، والجمع العرفي مقدم على المرجحات ، لخروج الخبرين معه عن موضوع المتعارضين كما لا يخفى ، ولكن كراهية القران إنما تختص بالفريضة دون النافلة ، لصراحة بعض الأخبار في ذلك .
ثم إنّ الآتي بالسورة الثانية قد يقصد بها مجرّد قراءة القرآن المستحبة ، في جميع أحوال الصلاة ، وقد يقصد بها جعلها جزءً مستقلاً للصلاة ، كالصورة الأولى ، وقد يقصد بها جعلها مع السورة الأولى جزءً لها . لا ريب في خروج الصورة الأولى عن مورد النزاع ، كما أنّ الظاهر خروج الصورة الثانية أيضاً .
لأنّ الظاهر أنّ الإتيان به في النافلة الذي يكون مثله محرّماً أو مكروهاً إذا وقع في الفريضة إنما هو على نحو الصورة الأخيرة ، وحينئذ فيرجع كراهية القران
- (1) التهذيب 2 : 73 ح268; الوسائل 6 : 50. أبواب القراءة في الصلاة ب8 ح3 .
- (2) التهذيب : 2 / 296 ح1192; الإستبصار 1: 317 ح1181; الوسائل 6: 52. أبواب القراءة في الصلاة ب8 ح9.
- (3) السرائر 3: 586; الوسائل 6: 52. أبواب القراءة في الصلاة ب8 ح11.
(الصفحة 142)
إلى أنّ المصلّي لو جعل وظيفته في الصلاة وجوب الإتيان بالسورة المتحقّق بأوّل سورة قرأها ، أولى من أن يجعل وظيفته وجوب قراءة القرآن المتحققة بسورة وأزيد ، ولا تكون الزائدة على الواحدة فرداً آخر من القراءة ، لأنّها عنوان تقبل الزيادة والنقيصة ، فما دام كونه مشغولا بها ولم يعرض عنها يصدق أنّه قار كما لايخفى .
المسألة الرابعة : عدم جواز قراءة سور العزائم في الفريضة
ذهب علمائنا الإمامية رضوان الله عليهم إلى أنّ السور التي تكون فيها آية السجدة الواجبة أربع سور(1) ، خلافاً لأبي حنيفة القائل بوجوب جميع سجدات القرآن ، والشافعي القائل باستحباب الجميع(2) ، والمشهور بل المجمع عليه بين قدماء أصحابنا أيضاً عدم جواز قراءة شيء منها في الصلاة(3) ، خلافاً للإسكافي(4) ، ولكن لا يخفى أنّ عبارته غير صريحة في ذلك .
ومستندهم الأخبار المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) :
منها : خبر زرارة عن أحدهما(عليهما السلام) قال : «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم
- (1) الهداية: 134; الإنتصار: 145; الخلاف 1: 426 مسألة 174; الغنية: 78; الكافي في الفقه: 118; السرائر 1: 217; المعتبر 2: 175; تذكرة الفقهاء 3: 146 مسألة 231; مفتاح الكرامة 2: 356; الحدائق 8 : 152; مستند الشيعة 5: 100 ـ 310; جواهر الكلام 9: 343.
- (2) المجموع 4: 62; المغني لابن قدامة 1: 616 ـ 617 .
- (3) الهداية: 134; الإنتصار: 145; الخلاف 1: 426 مسألة 174; الغنية: 78; الكافي في الفقه: 118; السرائر 1: 217; المعتبر 2: 175; تذكرة الفقهاء 3: 146 مسألة 231; مفتاح الكرامة 2: 356; الحدائق 8 : 152; مستند الشيعة 5: 100 ـ 310; جواهر الكلام 9: 343.
- (4) حكاه عنه في المعتبر 2 : 175 .