(الصفحة 162)
ومنها : رواية عمرو بن أبي نصر قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الرجل يقوم في الصلاة فيريد أن يقرأ سورة فيقرأ
{قل هو الله أحد} و
{قل ياأيّها الكافرون}، فقال : يرجع من كلّ سورة إلاّ من
{قل هو الله أحد} و
{قل يا أيّها الكافرون}(1) .
ومنها : رواية الحلبي قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : رجل قرأ في الغداة سورة
{قل هو الله أحد} قال : لا بأس، ومن افتتح سورة ثم بدا له أن يرجع في سورة غيرها فلا بأس إلاّ
{قل هو الله أحد}، ولا يرجع منها إلى غيرها، وكذلك
{قل يا أيّها الكافرون}(2) .
ومنها : ما رواه في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل إذا أراد سورة فقرأ غيرها، هل يصلح له أن يقرأ نصفها ثم يرجع إلى السورة التي أراد؟ قال : «نعم، ما لم تكن
{قل هو الله أحد} و
{قل يا أيّها الكافرون}»(3) . وهذه الرواية صريحة في خلاف ما ذكره الحلّي في السرائر تبعاً لبعض آخر .
ويدلّ على الحكم الأول مضافاً إلى بعض الأخبار المتقدمة ، ما رواه في الذكرى عن كتاب البزنطي، عن أبي العبّاس، في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ في اُخرى، قال : «يرجع إلى التي يريد وإن بلغ النصف»(4) . وبهذه الرواية يقيّد
- (1) الكافي 3 : 317 ح25; التهذيب 2 : 190 ح752 وص290 ح1166; الوسائل 6 : 99. أبواب القراءة في الصلاة ، ب35 ح1.
- (2) التهذيب 2: 190 ح753; الوسائل 6: 99. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح2.
- ولكن هذه الرواية مرسلة ، من جهة أنّ أحمد بن محمد بن عيسى الذي روى في هذا السند عن ابن مسكان لا يمكن له النقل عنه من دون واسطة ، لأنّه من الطبقة السابعة ، من الطبقات التي رتبناها ، وابن مسكان من الطبقة الخامسة، (منه) .
- (3) قرب الإسناد: 176 ح788; مسائل عليّ بن جعفر: 164 ح260; الوسائل 6: 100. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح3.
- (4) الذكرى 3 : 356; الوسائل 6 : 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح3.
(الصفحة 163)
اطلاق بعض الأخبار المتقدمة الشامل لما إذا بلغ النصف وتجاوز عنه أيضاً .
وما رواه جماعة من الرواة كالحلبي وأبي الصباح الكناني وأبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) : في الرجل يقرأ في المكتوبة بنصف السورة ثم ينسى فيأخذ في اُخرى حتّى يفرغ منها ثم يذكر قبل أن يركع، قال : «يركع ولا يضرّه»(1) . نعم ظاهر رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) خلافه ، حيث أنّه قال : «في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ غيرها ، قال: له أن يرجع ما بينه وبين أن يقرأ ثلثيها»(2) فإنّ ظاهرها جواز الرجوع وإن تجاوز عن النصف .
ولكن يحتمل قويّاً أن تكون كلمة «ثلثيها» غلطاً ، وكان الصواب ثلثها ، باعتبار أنّ الكتابة كانت في الأزمنة السابقة خالية عن النقطة ، كما يشهد بذلك بعض الكتب المكتوبة فيها الباقية إلى زماننا ، مضافاً إلى أنّ خطوطهم لم تكن بحيث يمكن أن تقرأ كاملا ، وكيف كان فالرواية باعتبار مخالفتها لفتوى المشهور تسقط عن الحجية ، كما هو الشأن في مثلها من الروايات المخالفة لهم .
ثم إنّ أكثر الروايات المتقدمة إنما وردت فيمن أراد قبل الأخذ في قراءة السورة ، قراءة سورة مخصوصة ، فنسي وشرع في سورة اُخرى ، نعم رواية الحلبي المتقدمة(3) المذكورة في جملة الروايات التي تدلّ على الحكم الثاني تعمّ ما إذا افتتح سورة ، ثم بدا له أن يرجع إلى غيرها ، وإن لم يكن مريداً لقراءته قبل .
ولكن يمكن أن يقال: بأنّها هي روايته الاُخرى(4) الموافقة مع سائر الروايات في المورد ، بمعنى عدم كونهما روايتين ، بل رواية واحدة ، غاية الأمر أنّ الراوي تارة
- (1) التهذيب 2: 190 ح754; الوسائل 6: 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح4.
- (2) التهذيب 2: 293 ح1180; الوسائل 6: 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح2.
- (3) الوسائل 6: 99. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح2.
- (4) الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح2.
(الصفحة 164)
نقلها بأجمعها ، واُخرى ببعضها ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى وثوق بأعمّية مورد جواز العدول ، وعدم اختصاصه بمن أراد أن يقرأ سورة فقرأ سورة اُخرى .
وحينئذ فيشكل تعميم الحكم ، ولكنّه مضافاً إلى أنّ مورد الفتاوى عام ، كما عرفت من النهاية(1) ، يمكن أن يقال بأنّ ذكر هذه الصورة فقط في الروايات إنما هو لأنّ الداعي والموجب للعدول إنما يتحقّق غالباً في هذه الصورة التي أراد المصلّي فيها قراءة سورة ، فقرأ غيرها ، إذ مع الالتفات والتوجه يختار أولاً ما يحبّه كما لايخفى .
فالحكم بالجواز في هذا الفرض إنما هو لكونه محلاًّ للعدول غالباً ، فالحقّ أنّ الجواز متحقّق في جميع الصور ، كما هو ظاهر فتاوى الأصحاب . هذا ، ولا يذهب عليك أنّ المراد بمورد الروايات ليس ما إذا شرع في سورة اُخرى غفلة ، بحيث لم يكن متوجّهاً إلى أنّه يقرأ السورة أصلا .
كيف! ولازم ذلك بطلان قراءتها، فلا يبقى وجه لعدم جواز العدول عن «قل هو الله أحد» و«قل يا أيّها الكافرون» كما هو مصرّح به في الروايات الدالة على الحكم الثاني من الأحكام الثلاثة المتقدمة ، بل المراد بذلك ما إذا أراد قراءة سورة ثم لمّا بلغ إلى محلّها قرأ سورة اُخرى بمقتضى ارتكازه ، ثم ظهر له أنّه كان يريد قراءة غيرها .
ثم إنّ القاعدة هل تقتضي جواز العدول حتّى يصار إليها فيما لم يقم الدليل على الخلاف، أو تقتضي عدم الجواز حتى يقتصر على الموارد التي قام الدليل على الخلاف؟
قد يقال بالأول ، نظراً إلى أنّ المصلّي قبل إتمام السورة مخيّر بمقتضى إطلاق
(الصفحة 165)
أدلة وجوب السورة ، بين قراءة أيّة سورة شاء ، والمفروض في المقام أنّه لم يتمّ السورة ، فيتخيّر بين إتمامها وبين رفع اليد عنها ، وقراءة غيرها ، مضافاً إلى أنّ استصحاب بقاءالتخيير الثابت قبل الشروع فيها يقضي ببقائه ، ما لم يقع الفراغ منها .
وقد يقال بالثاني ، نظراً إلى أنّ العدول مستلزم للقِران المحرّم ، لتحققه بقراءة سورة تامّة ، وبعض من سورة اُخرى ، وإن لم تتمّ ، وإلى لزوم الزيادة العمدية الموجبة للبطلان ، ولكنّه مردود مضافاً إلى أنّ القران مكروه لا محرّم كما مرّ سابقاً ، وأنّ مورد القِران ما إذا قصد جعل المجموع جزءً من الصلاة ، بمعنى أنّه يقصد امتثال الوظيفة الثابتة للمصلّي ، بعد قراءة الحمد ، بمجموع ما يقرؤه من السورتين ، أو سورة وبعض سورة .
والمفروض في المقام خلافه ، لأنّ معنى العدول الذي وقع التعبير به في كلمات الأصحاب ، والرجوع والعود اللذين وقع التعبير بهما في الأخبار المتقدمة إنما هو رفع اليد عمّا قرأ من بعض السورة ، وجعله كالعدم ، فالمقام لا يرتبط بالقرآن أصلا .
ومنه يظهر الجواب عن الوجه الثاني، فإنّ الزيادة المبطلة عبارة عمّا يؤتى به بعنوان انّه من الصلاة ، والمفروض أنّ العادل يجعل المقروء كأن لم يقرأ ، فلا يجعله جزءً للصلاة ، حتّى يوجب فسادها، إلاّ أن يقال: إنّ المقدار الذي قرأ من السورة المعدول عنها إنما قرأه بعنوان الجزئية للصلاة ، ضرورة أنّه كان قاصداً لامتثال الوظيفة الثابتة عليه ، بالنسبة إلى قراءة السورة التي هي جزء للصلاة ، بقراءة تلك السورة ، وحينئذ فكيف يمكن أن يكون العدول مؤثّراً فيما وقع بعنوان الجزئية ، ومخرجاً له عنه ، وهل هو إلاّ كتأثير الحادث فيما ثبت قبل حدوثه؟ وهو بديهي الاستحالة .
اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ وصف الجزئية للصلاة إنما يتصف به مجموع أجزاء سورة
(الصفحة 166)
واحدة ، وأمّا أجزاؤها فلا توصف بها ، فما دام لم يقرأ سورة تامّة ، لم يتحقّق الجزء ، ولكن لا يخفى أنّ الأمر بالصلاة التي تكون مركّبة من الحقايق المتبائنة الملحوظة بلحاظ الوحدة ، كما أنّه ينبسط على أجزائها ، ويصير كلّ جزء منها معروضاً لبعض ذلك الأمر الواحد ، كذلك بعض الأمر المتعلّق بالسورة ، لكونها جزءً منها ينبسط على أجزاء السورة ، ويتعلّق كلّ بعض منه بجزء منها .
وكماأنّ إتيان بعض أجزاء الصلاة يوجب سقوط بعض الأمرالمتعلّق به، سقوطاً مراعى باتمام الصلاة ، كذلك الإتيان ببعض أجزاء الجزء يوجب سقوط بعض الأمر الضمنيّ المتعلّق به ، سقوطاً مراعى بإتيان بقيّة أجزاء الجزء ، وأجزاء الصلاة .
وحينئذ فمرجع جواز العدول إلى إمكان امتثال ذلك الأمر الضمني المتعلّق بجزء الجزء الذي هو بعض من الأمر الضمنيّ المتعلّق بمجموع السورة ثانياً ، ومن الواضح أنّه لا يعقل ذلك مع سقوطه ، نظير الإتيان بسورة اُخرى بعد الإتيان بسورة تامّة ، فإنّه لا يعقل الامتثال ثانياً بعد سقوط الأمر، ولو كان أمراً ضمنيّاً .
ولقائل أن يقول : إنّ السورة بتمامها اعتبرت جزءً واحداً للصلاة ، وحينئذ فما لم تتحقّق بجميع أجزائها لا تتحقّق ما هو جزء لها ، وكما أنّ اتّصاف أجزاء سائر المركّبات بوصف الجزئية لها ، إنما يتوقّف على تحقق الكلّ بجميع أجزائه ، لأنّ وصف الجزئية والكلية من الاُمور المتضايفة ، ومن شأنها التلازم بينهما ، وعدم ثبوت أحدهما قبل الآخر ، فثبوت وصف الجزئية لأجزاء المركّب لا يمكن قبل تحقق الكلّ ، حتّى يصير متصفاً بالكلية ، فما لم يأت بالكلّ ، ولم يقع الفراغ منه ، يمكن له العدول والإتيان بفرد آخر من المركّب .
ولكنّه لا يخفى أنّ أجزاء السورة إنما تكون أجزاء للصلاة ، وإذا تحقق شيء منها يكون صالحاً لإلحاق سائر الأجزاء به ، وصيرورته جزءً فعليّاً للصلاة ، غاية