(الصفحة 175)
فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته»(1) . وغيرها من الأخبار الظاهرة في الوجوب .
ومستند القول بالاستحباب، رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى(عليه السلام)قال : سألته عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة، هل عليه أن لا يجهر؟ قال : «إن شاء جهر وإن شاء لم يفعل»(2) .
وقد يجمع بينها وبين صحيحة زرارة بحمل هذه على التقية ، لأنّها موافقة للعامّة ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه لا معنى للتقيّة في مثل هذا الأمر الذي يكون عملهم مطابقاً لعمل النبي(صلى الله عليه وآله) ، خصوصاً مع ما عرفت من وجود القائل بالوجوب بينهم(3) ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية التساوي بين الاجهار وعدمه ، مع أنّ الاستحباب ورجحان الجهر في مواضعه والاخفات كذلك ، ثابت عندهم بلا خلاف .
وقد يقال : بأنّ مقتضى الجمع هو حمل الأولى على الاستحباب ، كما هو الحال في مطلق الدليلين المتعارضين ، اللذين كان أحدهما دالاًّ على الوجوب ، والآخر على الاستحباب ، لما قد حقّق في محلّه ، من أنّ الوجوب يستفاد من ظهور الطلب الذي هو معنى الأمر ، وفعل من الأفعال ، في كونه ناشئاً من الإرادة الحتميّة ، ومع الدليل على خلافه لا يبقى مجال لاستفادته .
ولكن لا يخفى ما في حمل صحيحة زرارة على الاستحباب من الاستبعاد ،
- (1) الفقيه 1 : 227 ح1003; التهذيب 2 : 162 ح635 ; الإستبصار 1: 313 ح1163; الوسائل 6 : 86. أبواب القراءة في الصلاة ب26 ح1.
- (2) التهذيب 2 : 162 ح636; الاستبصار 1 : 313 ح1164; قرب الإسناد: 175 ح782; الوسائل : 6 / 85 . أبواب القراءة في الصلاة ب25 ح6 .
- (3) وهو ابن أبي ليلى كما في المعتبر 2: 176; وتذكرة الفقهاء 3: 151.
(الصفحة 176)
وذلك لأنّ أصل رجحان الجهر والاخفات في مواضعهما كان مفروغاً عنه عند السائل ، ولذا عبّر بكلمة «لا ينبغي» وإنما كان مورد شكّه مدخليتهما في صحة الصلاة ، بحيث يجب عليه إعادتها مع الاخلال بهما ، أو أنهما يوجبان مجرّد الفضيلة والكمال .
ولا ريب أنّ ظاهر الجواب هو الأول ، وحمله على الاستحباب في غاية البعد ، فظاهرهما متعارضان ، والترجيح مع صحيحة زرارة ، الظاهرة في الوجوب ، لخلوّها عن الاضطراب ، دون الرواية الاُخرى ، لأنّ الجمع بين التعبير بكلمة «عليه» وبين إضافة كلمة «لا» في قوله : «هل عليه أن لا يجهر» ممّا لا ينبغي كما لايخفى ، مضافاً إلى أنّها موافقة لفتوى المشهور وللسّنة كما عرفت ، فالأحوط إن لم يكن أقوى مراعاتهما في مواضعهما .
ثم إنّ وجوب الاخفات في الظهرين على ما عرفت ، إنما هو في غير يوم الجمعة ، وأمّا يوم الجمعة ، فالمحكيّ عن العلاّمة في المنتهى(1) ، دعوى اتّفاق كلّ من يحفظ عنه العلم على الجهر بالقراءة في صلاتها ، أي الركعتين مع الخطبة ، والدليل عليه استمرار سيرة النبي(صلى الله عليه وآله) على الجهر بها ، كاستفادة أصل مشروعية صلاة الجمعة عن عمله(صلى الله عليه وآله) ، ولكن لم يعلم أنّ ذلك هل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب ؟ وكلام العلاّمة غير ظاهر في الثاني ، وعلى تقدير ظهوره غير مفيد ، لأنّه من المحتمل أن يكون القائل بالاستحباب هو الذي يقول باستحباب الجهر والاخفات في مواضعهما ، ولم يعلم اختيار القائل بوجوبهما في مواضعهما ذلك القول .
وبالجملة: فأصل الرجحان ممّا لا إشكال فيه ، لما عرفت من استقرار سيرة
(الصفحة 177)
النبي(صلى الله عليه وآله) والخلفاء بعده على الجهر بقراءة صلاة الجمعة ، مضافاً إلى دلالة الأخبار عليه أيضاً(1) .
وأمّا صلاة الظهر يوم الجمعة فقد اختلف في استحباب الجهر فيها والعدم ، ومنشأه اختلاف الأخبار الواردة في حكمها ، ويدلّ على الجهر رواية عمران الحلبي قال : سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يصلّي الجمعة أربع ركعات، أيجهر فيها بالقراءة؟ قال : «نعم، والقنوت في الثانية»(2) .
ورواية الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن القراءة في الجمعة إذا صلّيت وحدي أربعاً، أجهر بالقراءة؟ فقال : نعم، وقال : «إقرأ سورة الجمعة والمنافقين في يوم الجمعة»(3) .
ورواية محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال لنا: «صلّوا في السفر صلاة الجمعة جماعة بغير خطبة وأجهروا بالقراءة»، فقلت: إنّه ينكر علينا الجهر بها في السفر فقال : «أجهروا بها»(4) .
ورواية محمّد بن مروان قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن صلاة الظهر يوم الجمعة كيف نصلّيها في السفر؟ فقال : «تصلّيها في السفر ركعتين والقراءة فيها جهراً»(5) .
وبإزاء هذه الأخبار خبران آخران ، مدلولهما اختصاص الجهر بصلاة الجمعة في يومها ، وهما رواية جميل قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الجماعة يوم الجمعة في
- (1) الوسائل 6: 160. أبواب القراءة في الصلاة ب73 .
- (2) الفقيه 1 : 269 ح1231; التهذيب 3 : 14 ح50 ; الإستبصار 1: 416 ح1594; الوسائل 6 : 160. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح1.
- (3) الكافي 3: 425 ح5; التهذيب 3: 14 ح49; الوسائل 6: 160. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح2.
- (4) التهذيب 3: 15 ح51; الوسائل 6: 161. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح6.
- (5) التهذيب 3: 15 ح52; الوسائل 6: 161. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح7.
(الصفحة 178)
السفر؟ فقال : «يصنعون كما يصنعون في غير يوم الجمعة في الظهر، ولا يجهر الإمام فيها بالقراءة، إنما يجهر إذا كانت خطبة»(1) .
ورواية محمّد بن مسلم قال : سألته عن صلاة الجمعة في السفر؟ فقال : «تصنعون كما تصنعون في الظهر، ولا يجهر الإمام فيها بالقراءة، وإنما يجهر إذا كانت خطبة»(2) .
هذا ونقل في الوسائل عن الشيخ(رحمه الله) أنّه حمل هذين الخبرين على التقية والخوف ، ثم قال : ويحتمل أن يكون المراد نفي تأكّد الاستحباب في الظهر ، وإثباته في الجمعة ، واستجود هذا الاحتمال صاحب الجواهر ، وقرّبه في المصباح(3) .
وكيف كان فلا خفاء في ظهور الأخبار الأربعة المتقدمة في وجوب الجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم الجمعة ، وفي ظهور الأخيرتين في النهي عنه ، وربما يجمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على الاستحباب ، والثانية على نفي تأكّده ، نظراً إلى أنّ النهي فيها وارد مورد توهّم الوجوب ، فلا يدلّ إلاّ على الجواز ، ومقتضى الجمع بينها وبين الأخبار السابقة حمل الأمر فيها على الاستحباب .
ولكن لا يخفى أنّ النهي عن الجهر بالقراءة في الظهر ظاهر في عدم الجواز ، وأنّ الجهر الواجب أو المستحبّ يختصّ بما إذا كانت خطبة ، فلا يمكن الجمع بالنحو المذكور، وكيف يمكن حمل النهي الظاهر في عدم الجواز على ما ذكروه ، فالظاهر أنّ العرف لا يساعد على ذلك أصلا ، فالأخبار متعارضة .
وحينئذ فلو قدمت أخبار الوجوب ينبغي حملها على الاستحباب ، لعدم معروفية القول بالوجوب من أحد من المسلمين ، مضافاً إلى كون المسألة ممّا تعمّ به
- (1) التهذيب 3 : 15 ح53 ; الوسائل 6 : 161. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح8 .
- (2) التهذيب 3: 15 ح54، الوسائل 6: 162. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح9.
- (3) جواهر الكلام 9: 371، مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 300 .
(الصفحة 179)
البلوى ، ومعه كيف يمكن خفاء حكمها على المسلمين بحيث استقرّت سيرتهم على خلافه ، كما يشعر به قول الراوي في بعض الروايات المتقدمة بعد أمر الإمام(عليه السلام)بالجهر : «إنّه ينكر علينا الجهر بها» ، فإنّ ظاهره كون الجهر عندهم من المنكرات ، ومن هنا يمكن ترجيح أخبار المنع ، لموافقتها للسيرة المستمرّة ، فالأحوط لو لم يكن أقوى هو الإخفات كما لا يخفى .
هنا مسائل
المسألة الأولى : معنى الجهر والاخفات
المعروف بينهم أنّ معنى الجهر هو أن يسمع غيره ، ومعنى الاخفات أن يسمع نفسه(1) ، ولكن يرد عليه أنّ إسماع النفس المأخوذ في تعريف الاخفات لا ينافي إسماع الغير ، فيلزم إمكان تصادقهما على مورد واحد ، ولو سلّم كون المراد إسماع النفس فقط ، نقول من الواضح أنّ إسماع الغير وعدمه لا ربط لهما بما هو معنى الجهر والاخفات حقيقة .
ضرورة أنّ المراد بالأول هو إظهار جوهر الصوت ، وبالثاني اخفاؤه كما يظهر بمراجعة العرف الذي هو المرجع في المقام ، لعدم ورود التحديد من الشارع ، نعم لازم الاظهار سماع الغير غالباً، كما أنّ لازم الاخفاء هو العدم ، مضافاً إلى أنّ هذا التعريف لم يصدر من أحد من قدماء أصحابنا رضوان الله عليهم أجمعين ، بل لم يفسروا الجهر والاخفات أصلا .
- (1) الكافي في الفقه: 117; السرائر 1: 223; المعتبر 2 : 177; شرائع الإسلام 1: 72; تذكرة الفقهاء 3: 153; المنتهى 1 : 277; الدروس 1: 173; مستند الشيعة 5 : 162; كشف اللثام 4 : 36; جواهر الكلام 9 :376 .