(الصفحة 187)
فيه ، لو استمرّ كلّ واحد من هذه الأعذار إلى بعد الفراغ من الصلاة ، وكذا لو استمرّ إلى أن تجاوز عن محلّ القراءة ، بحيث لو كان الإخلال بالجهر والاخفات مضرّاً بصحة الصلاة مطلقاً ، حتّى مع الجهل واختيه ، لكان اللاّزم عليه وجوب إعادة الصلاة واستئنافها ، لا إعادة القراءة ، كما لو انكشف له الحال بعد الركوع ، فإنّ الحكم فيه يدور بين صحة الصلاة وتماميتها ، وبين بطلانها ووجوب الإعادة ، ولا ثالث لهما كما هو واضح ، وظاهر الرواية عدم وجوب إعادة الصلاة على الناسي ونظائره ، واختصاصه بالمتعمّد ، فتتمّ صلاة كلّ واحد منهم في المورد المفروض ولا شيء عليه .
وأمّا لو استمرّ كلّ واحد من تلك الاُمور إلى محلّ يمكن إعادة القراءة جهراً أو إخفاتاً ، كما إذا التفت الناسي أو علم الجاهل قبل الركوع ، فهل يجب عليهم إعادة القراءة ، أو أنّ مدلول الرواية هو الإخبار بعدم وجوب شيء عليهم لا إعادة الصلاة ولا أمر آخر؟ وجهان .
ولابدّ قبل الخوض في معنى الرواية من بيان ما يحتمل في اعتبار الجهر والاخفات في مواضعهما ثبوتاً .
فنقول : يحتمل أن يكون الجهر في الصلوات الجهرية ، والاخفات في الصلوات الاخفاتية ، معتبراً في نفس الصلاة مستقلاً بلا واسطة شيء ، بحيث كان الجهر في بعض الصلوات والاخفات في بعضها الآخر شرطاً لنفس تلك الصلوات ، نظير سائر الشروط المعتبرة فيها مستقلاً ، ولا ينافي هذا كونهما وصفين عارضين للقراءة كما هو واضح .
وحينئذ فالقراءة اخفاتاً في الصلوات الجهرية مثلا لا تخرج عن الجزئية للصلاة ، فلا تبطل الصلاة من حيث فقدانها لبعض الأجزاء ، بل بطلانها يكون مسبّباً عن فقدانها لبعض الشروط المعتبرة فيها .
(الصفحة 188)
ويحتمل أن يكون كلّ منهما معتبراً في القراءة ، وصيرورتها جزءً للصلاة ، بحيث يكون الجزء للصلوات الجهرية هي القراءة التي يجهر بها ، لا نفس القراءة ، وكذا في الصلوات الاخفاتية ، وحينئذ فلو أخلّ بشيء منهما في مواضعهما ، يكون بطلان الصلاة مستنداً إلى كونها فاقدة لجزئها الذي هي عبارة عن القراءة .
فعلى الأول : لو نسي الجهر في موضعه ، فذكر قبل أن يركع ، فالظاهر عدم وجوب إعادة القراءة أيضاً ، لعدم إمكان التدارك ، ضرورة أنّ الجهر المعتبر في الصّلاة إنما هو الجهر بالقراءة التي هي جزء لها ، والقراءة الموصوفة بهذا الوصف قد تحقّقت فاقدة للجهر المعتبر في أصل الصلاة ، والقراءة الثانية وإن كانت مشتملة على الجهر وموصوفة به ، إلاّ أنّها لا تكون جزءً للصلاة ، ضرورة أنّ أوّل وجودات الطبيعة يكفي في حصول الغرض منها ، والعدول عنه إليه بجعل الوجود الثاني جزءً ورفع اليد عن الأول غير ممكن .
ضرورة أنّ ما وقع متّصفاً بشيء لا يمكن أن يتغيّر عمّا وقع عليه ، فلا يصار إليه إلاّ فيما لو دلّ عليه الدليل ، وهو هنا مفقود .
وبالجملة : فالظاهر أنّه لا يمكن التدارك في هذه الصورة ، فلا يجب عليه إعادة القراءة أيضاً .
وعلى الثاني : لو نسي الجهر في موضعه فالتفت قبل الركوع ، فلا إشكال في إمكان التدارك في هذه الصورة ، لأنّ الاخلال بالجهر مرجعه إلى الاخلال بالقراءة التي هي جزء لها ، والمفروض أنّ محلّها باق ، كمن نسي أصل القراءة ، وحينئذ فهل يجب عليه إعادة القراءة بعد الفراغ عن عدم وجوب إعادة الصلاة أو لا؟ قد يقال بالثاني نظراً إلى قوله(عليه السلام) في الرواية : «فلا شيء عليه» ، الظاهر في عدم تعلّق تكليف وجوبي متعلّق بإعادة الصلاة أو القراءة بمثل هذا الشخص أصلا .
ولكن يمكن أن يقال : إنّ الرواية متعرّضة لجهة وجوب إعادة الصلاة وعدمه
(الصفحة 189)
فقط ، بيانه إنّه لا إشكال في أنّ الجملة الأولى المتعرّضة لحكم المتعمّد ، ظاهرة في وجوب إعادة الصلاة ، والجملة الثانية تفريع على هذا الحكم ، وبيان لمفهوم الجملة الأولى الدالة على اختصاص الحكم بصورة التعمّد .
ويؤيده ذكر كلمة الفاء الظاهرة في التفريع ، ومن الواضح أنّ المنفي في طرف المفهوم إنما هو الحكم المذكور في المنطوق ، لا هو مع شيء آخر ، فالمراد بقوله : «فلا شيء عليه» هو عدم وجوب إعادة الصلاة عليه ، ويؤيده قوله(عليه السلام) بعده : «وقد تمّت صلاته» فلا ينافي وجوب إعادة القراءة في مثل الفرض .
وبالجملة : فالتأمّل في الرواية يقضي بأنّ محطّ نظر الامام(عليه السلام) خصوص مسألة التمامية وعدمها ، ولكنّ الظاهر منها هو الاحتمال الأول ، فليتأمّل .
ثم إنّ الرواية كما عرفت تدلّ على عدم وجوب الإعادة على الناسي والساهي ، ومن لا يدري ، أي الجاهل ، ولكن هنا رواية اُخرى لزرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)تشتمل على ذكر الأول ين فقط حيث قال : قلت له رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي الجهر فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، وترك القراءة فيما ينبغي القراءة فيه، أو قرأ فيما لا ينبغي القراءة فيه، فقال : «أيّ ذلك فعل ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه»(1) .
هذا ويحتمل قويّاً اتحاد الروايتين ، خصوصاً مع كون الراوي عن زرارة فيهما واحداً ، وهو حريز ، والاختلاف في السؤال والجواب يكون ناشئاً من الروات المتأخّرين عنه . وكيف كان فعبارات القدماء أيضاً خالية عن عدّ الجاهل في عداد الناسي والساهي ، ولكن هذا المقدار لا يوجب الاعراض عن الرواية ، بحيث يسقطها عن الحجيّة رأساً ، خصوصاً مع ذهاب جلّ المتأخّرين بل كلّهم إلى عدم
- (1) التهذيب 2 : 147 ح577; الوسائل 6 : 86 . أبواب القراءة في الصلاة ب26 ح2 .
(الصفحة 190)
الفرق بين الناسي والجاهل(1) .
نعم هنا شيء ، وهو إنّ الجاهل قد جعل في الصحيحة الأولى مقابلا للمتعمّد ، لما عرفت من أنّ الجملة الثانية في الرواية بيان لمفهوم الجملة الأولى الدالة على وجوب الإعادة بالنسبة إلى خصوص المتعمّد ، مع أنّ الجاهل متعمّد أيضاً ، لأنّ الجهل لا ينافي العمد الذي هو بمعنى القصد ، إلاّ أن يقال: بأنّ المراد من المتعمّد هو الذي جهر في موضع الاخفات أو عكس ، قاصداً لمخالفة الشرع ، فيخرج الجاهل عن المتعمّد بهذا المعنى ، أو يقال بأنّ ذكر الجاهل في عداد الناسي والساهي إنما هو لمجرّد اشتراكه معهما في الحكم ، بعدم وجوب الإعادة ، لا لكونه مثلهما من مصاديق غير المتعمّد الذي هو الموضوع في القضية المفهومية ، وبعبارة اُخرى هو مستثنى من المتعمّد حكماً لا موضوعاً فتدبّر .
ثم إنّ الجهل إمّا أن يكون بالنسبة إلى الحكم ، بأن لا يعلم بوجوب الجهر والاخفات في مواضعهما ، وهو وإن كان فرضه بعيداً بملاحظة ما عرفت ، من استقرار سيرة المسلمين من صدر الإسلام إلى هذه الأزمنة ، إلاّ أنّه يمكن فرضه بملاحظة اشتهار الفتوى بالاستحباب من فقهاء العامة ، الذين كانوا مرجعاً لأكثر المسلمين في مقام الفتوى ، وبيان الأحكام الشرعية .
وإمّا بالنسبة إلى محلّ الجهر والاخفات ، وموضعهما بأن يعلم أنّ الصلوات في الشريعة على قسمين : بعضها جهرية وبعضها اخفاتية ، ولكن لا يميّز بينهما ، فيتخيّل أنّ المغرب مثلا من الصلوات الاخفاتية .
وإمّا بالنسبة إلى الموضوع ، بأن لا يعلم حدّ الجهر أو الاخفات ، والظاهر شمول الرواية لجميع الصور ، نعم الظاهر خروج الجاهل المتردّد والشاكّ عن قوله :
- (1) المنتهى 1 : 277; مفاتيح الشرائع 1: 134; جواهر الكلام 10 : 24 ـ 25; كشف اللثام 4 : 38; مستند الشيعة 5 : 161 ـ 162 ; جامع المقاصد 2: 261.
(الصفحة 191)
«لا يدري» ، لانصرافه عنه ، لأنّ ظاهر الرواية نفي وجوب الإعادة بالنسبة إلى من جهر في موضع الاخفات ، أو عكس بمقتضى طبعه ، والشاكّ ليس كذلك كما هو ظاهر .
وهنا إشكال عقليّ ، وهو أنّه بناءً على اشتراك الجاهل مع الناسي ، واختصاص الحكم بوجوب الإعادة بالمتعمّد العالم ، يلزم أن يكون وجوب الجهر والاخفات في مواضعهما مشروطاً بالعلم به .
وهذا محال، إمّا للزوم الدور الصريح بحسب الواقع ، كما في المصباح(1) وتقريره: إنّه لا خفاء في توقّف العلم بوجوب الجهر والاخفات على نفس الوجوب ، فلو كان الوجوب أيضاً متوقّفاً على العلم به كما هو المفروض يلزم الدور . وإمّا للزوم الدور في نظر العالم ، بناءً على منع توقّف العلم بشيء على وجوده ، لإمكان القطع بشيء معدوم ، غاية الأمر عدم موافقته للواقع ونفس الأمر .
وبالجملة: فمرتبة المعلوم في نظر العقل مقدّمة على مرتبة تعلّق العلم به ، فلو أخذ العلم بالحكم في موضوعه يلزم تأخّره عنه ، لتقدّم رتبة المعلوم عليه ، وتقدّمه عليه لتقدّم الموضوع على الحكم ، ومن الواضح استحالة اتّصافه بالتقدّم على شيء ، والتأخّر عن ذلك الشيء في زمان واحد .
وقد حقّقنا في الأصول(2) أنّ البعث والزجر يتوجّه إلى طبيعة المكلّف المعراة عن خصوصية العلم والجهل ، وإن كانت الإرادة الباعثة على البعث والزجر ، والغرض منهما ـ وهو تحقق الانبعاث والانزجار بسببهما ـ لا يتحقّق إلاّ في صورة العلم ، ضرورة أنّ في غير هذه الصورة لا يكون الانبعاث مسبّباً عن نفس البعث ولا الانزجار مستنداً إلى نفس الزجر ، إلاّ أنّ ذلك القصور في ناحية الغرض ، لا في
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 316.
- (2) نهاية الاُصول، مقدّمة الواجب: 202; ومبحث القطع: 420.