(الصفحة 192)
البعث والزجر .
وبالجملة : فلا شبهة في استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم . والقول بمعذورية الجاهل في المقام، وكذا في مسألة القصر والاتمام ، مستلزم لهذا الأمر المحال .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه أجاب عن هذا الإشكال في المصباح بما حاصله : إنّا نمنع أن يكون وجوب الجهر والاخفات في مواضعهما مشروطاً بالعلم ، كيف! وصرّح بعض بل نسبه إلى ظاهر الأصحاب باستحقاقه للعقوبة الذي هو أثر للوجوب ، ومعنى معذوريته إنما هو خصوص تمامية الصلاة ، وعدم وجوب الإعادة عليه ، ولا استحالة في ذلك أصلا .
بيانه إنّه من الجائز أن يكون لطبيعة الصلاة من حيث هي مصلحة ملزمة مقتضية لايجابها ، وكونها في ضمن الفرد المشتمل على الجهر أو الاخفات ، مشتملة على مصلحة اُخرى ملزمة أيضاً ، فاجتماع كلتا المصلحتين في هذا الفرد أوجب تأكّد طلبه ، فإذا أتى المكلّف بها في ضمن فرد آخر ، فقد أحرز مصلحة نفس الطبيعة ، فلا يعقل بقاؤها بصفة الوجوب ، وعند ارتفاعه عنها يتعذّر عليه احراز مصلحة الخصوصية .
إذ المفروض أنّ المصلحة المقتضية لخصوص الفرد تعلّقت بإيجاده ، امتثالا للأمر بالطبيعة ، وقد فرضنا سقوط الأمر المتعلّق بها بايجادها في الخارج ، فهو وإن كان أوجد الطبيعة ، إلاّ أنّه فوّت المزيّة الواجبة فيستحق المؤاخذة ، ولا يمكنه تداركها بعد ذلك .
إن قلت : إذا وجب عليه الاجهار في صلاته فقد حصل بفعله مخالفة ذلك التكليف ، فيكون منهيّاً عنه ، فكيف يصحّ وقوعه عبادة .
قلت : مخالفة ذلك التكليف تحصل بترك الجهر الذي هو نقيض للمأمور به ، لا
(الصفحة 193)
بفعل الاخفات ، نعم لو قلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص ، وجب الالتزام بحرمته ، ولكنّه خلاف التحقيق .
لا يقال : مقتضى ما ذكرت عدم وجوب إعادة الصلاة على من أخلّ بهما عمداً ، وهو خلاف الفرض .
لأنّا نقول : لا ندّعي أنّ طبيعة الصلاة المعرّاة عن هذه الخصوصية مطلوبة مطلقاً كيفما اتّفقت ، وإنما المقصود بيان إمكان ذلك دفعاً لتوهّم الاستحالة ، وإلاّ فمن الجائز تقييد مطلوبية صرف الطبيعة بخلوصها عن شائبة التجرّي كي ينافيها التعمّد أو التردّد كما لا يخفى(1) ، انتهى .
وما أفاده في جواب الإشكال الأول الذي أورده على نفسه محلّ نظر ، لأنّه إذا كان الضدّان ممّا لا ثالث لهما كما هو المفروض في المقام ، تكون مخالفة الأمر المتعلّق بواحد منهما بنفس إيجاد الضدّ الآخر ، فإنّه إذا أمر المولى بالسكون الذي هو ضدّ للحركة ، تتحقّق مخالفته بنفس التحرّك كما لا يخفى .
ثم إنّ بعض المحقّقين من المعاصرين بعد الإشكال على الجواب المذكور ـ بأنّ لازمه صحة العمل وإن أتى بالطبيعة الجامعة متعمّداً ، فإنّ الإتيان بها على الفرض عبادة ، وإن قارن عصيان الأمر الآخر ، إلاّ أن يقال باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص ، فيلزم بطلان العبادة من حيث المضادّة ، ولكنّا لم نقل بذلك ـ أجاب عنه بوجه آخر حيث قال : وحلّ أصل الإشكال أنّ المصلحة القائمة بالطبيعة الجامعة إنما حدثت بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة ، وليس المقام من قبيل وجود المصلحة الملزمة ، في المطلق والمقيّد في عرض واحد ، حتّى يرد الإشكال المتقدّم .
- (1) مصباح الفقيه، كتاب الصلاة: 316 .
(الصفحة 194)
ويتفرّع على ذلك أمور ثلاثة من دون منافاة بعضها مع البعض الآخر :
أحدها : تمامية الصلاة التي ينطبق عليها الجامع عند الجهل بلزوم الخصوصية .
الثاني : استحقاق العقوبة على ترك الخاصّ ، إذا كان مستنداً إلى تقصيره .
الثالث : عدم الصحة لو تعمّد في ترك الخاصّ ، والإتيان بالجامع(1) ، انتهى .
أقول : مراده بالمصلحة القائمة بنفس الطبيعة الحادثة ، بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة ، هل هي المصلحة القائمة بالطبيعة المقيّدة ، أو مصلحة اُخرى قائمة بصرف الطبيعة حادثة عند الجهل؟
فإن كان الأول ، يلزم عود المحذور ، بيانه إنّ ترتّب المصلحة على الطبيعة المقيدة حينئذ بحيث يكون للقيد دخل فيها ، إنما هو في صورة العلم ، لأنّ المفروض أنّ في صورة الجهل تكون المصلحة قائمة بنفس الطبيعة وحينئذ تكون مدخلية القيد في ترتّب المصلحة مشروطة بالعلم بها ، وهو أصل الإشكال .
هذا ، مضافاً إلى أنّه لو كان مراده ذلك لما كان وجه لاستحقاق الجاهل للعقوبة ، لأنّ المفروض إنّه لم يفت من المصلحة شيئاً إلاّ أن يقال باستحقاقه لها من حيث ترك تحصيل العلم ، وهو مع أنّه خلاف التحقيق ، مخالف لصريح كلامه حيث قال بأنّ استحقاقه لها إنما هو من حيث ترك المقيّد .
وإن كان الثاني ، يلزم أن يترتب على عمل الجاهل الذي عمل على طبق الواقع مصلحتان :
إحداهما : المصلحة القائمة بالطبيعة المقيّدة ، لعدم اختصاصها بصورة العلم كما هو المفروض .
والاُخرى : المصلحة القائمة بنفس الطبيعة الحادثة عند الجهل ، بخلاف العالم ،
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 194.
(الصفحة 195)
فإنّ المصلحة المترتّبة على نفس الطبيعة منتفية بالنسبة إليه لفرض اختصاصها بصورة الجهل ، فيلزم أن يكون عمل العالم أنقص من عمل الجاهل كما لايخفى .
لا يقال : إنّ المصلحة القائمة بالطبيعة إنما تحدث بالنسبة إلى الجاهل الذي يعمل على خلاف الواقع ، فالجاهل الذي عمل على طبقه لا يترتب على عمله إلاّ مصلحة واحدة كالعالم .
فإنّا نقول : إنّ مرجع ذلك إلى مدخلية الجهر في موضع الاخفات ، أو الإخفات في موضع الجهر في ترتّب المصلحة ، وهو مضافاً إلى استبعاده بل استحالته ـ نظراً إلى أنّه كيف يمكن أن يؤثر الشيء وضدّه في شيء واحد، فإنّ الجهر في موضعه إذا كان دخيلا في ترتّب المصلحة على الصلاة ، فكيف يمكن أن يكون الاخفات في موضع الجهر أيضاً مؤثّراً في ذلك ـ مخالف لظاهر كلامه بل صريحه ، لأنّ مقتضاه قيام المصلحة بالطبيعة الجامعة ، وعلى المفروض تكون المصلحة الحادثة قائمة بالطبيعة المقيّدة بالجهر موضع الاخفات أو العكس ، فهو خلاف ما يقول به فتدبّر .
ثم إنّ ظاهر كلامه أنّ المصلحة القائمة بالطبيعة الجامعة إنما حدثت بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة عنه ، ولتوضيح الحال بحيث يرتفع الاشكال لابدّ أولاً من بيان بعض الموارد التي اجتمع فيها الحكمان ، مترتّباً أحدهما على الآخر ثم ملاحظة المقام .
فنقول : من تلك الموارد مسألة الترتّب المعنونة في الأصول ، والمقصود منها إثبات جواز الأمر بالضدّين في الرتبتين ، فعن بعضهم التصريح بالامتناع(1) ، وربما يقال في وجهه أنّ قوام التكليف إنما هو بالإرادة التشريعية التي مرجعها إلى إرادة المولى تحقق المبعوث إليه من العبد .
ومن الواضح أنّ الإرادة التشريعية تكون كالإرادة التكوينية ، فكما لا يصح
- (1) كفاية الاُصول 1: 213 .
(الصفحة 196)
تعلّق الإرادة التكوينية بالأمور الممتنعة ، كالطيران إلى السماء ، والجمع بين الضدّين في موضوع واحد ، في زمان واحد ، وإيجاد شيء واعدامه في آن واحد ، وغيرها من الأمور المستحيلة الممتنعة ، كذلك لا يصح تعلّق الإرادة التشريعية بها ، فلايصح البعث إلى شيء منها لتقوّمه بها ، وهي ممتنعة .
وكما أنّ التكليف الواحد بالجمع بين الضدّين في موضوع واحد في زمان واحد محال من العالم ، باستحالة المكلّف به ، وامتناع تحقّقه في الخارج ، كذلك التكليفان المتوجّه كلّ منهما إلى أحد الضدّين ، فإنّه كيف يمكن تعلّق إرادتين بتحققهما من العبد المكلّف في زمان واحد ، وهل هو إلاّ كإرادة واحدة متعلّقة بالجمع بينهما؟ ومن الواضح استحالتها .
والظاهر عدم تمامية هذا الوجه ، فإنّ المفروض أنّ هنا تكليفين مستقلّين تعلّق كلّ واحد منهما بشيء ممكن في نفسه ، فإنّ الأمر بانقاذ الولد تكليف متعلّق بأمر غير مستحيل ، وكذا التكليف بانقاذ الأخ ، وليس هذان التكليفان في نظر العقل بمنزلة تكليف واحد ، بالجمع بين انقاذ الغريقين المستحيل لكونه جمعاً بين الضدّين ، لأنّ في مرتبة التكليف بالأهم لا يكون إلاّ تكليف واحد متعلّق بأمر ممكن .
غاية الأمر إنّه حيث لا تكون إرادة المولى انبعاث العبد وتحقق المبعوث إليه منه علّة تامّة لتحققه في الخارج ، إذ من الممكن أن لا تتحقّق الإطاعة والانبعاث منه ، فللمولى أن يوجّه تكليفاً آخراً إليه متعلّقاً بمحبوبه الآخر ، لئلاّ يفوت منه المحبوبان .
نعم لابدّ أن يعلّق التكليف الثاني بما إذا لم يؤثر التكليف الأول في نفس العبد ، وحصل منه عصيانه ، ومع هذا الوصف لا نرى في عقولنا استحالة التكليف الثاني المشروط بعدم تأثير الأول ، بل نقول : لا وجه لعدم توجيهه إلى العبد ، مع ثبوت ملاكه واشتراكه مع الأول ، في المحبوبية الأكيدة .