(الصفحة 195)
فإنّ المصلحة المترتّبة على نفس الطبيعة منتفية بالنسبة إليه لفرض اختصاصها بصورة الجهل ، فيلزم أن يكون عمل العالم أنقص من عمل الجاهل كما لايخفى .
لا يقال : إنّ المصلحة القائمة بالطبيعة إنما تحدث بالنسبة إلى الجاهل الذي يعمل على خلاف الواقع ، فالجاهل الذي عمل على طبقه لا يترتب على عمله إلاّ مصلحة واحدة كالعالم .
فإنّا نقول : إنّ مرجع ذلك إلى مدخلية الجهر في موضع الاخفات ، أو الإخفات في موضع الجهر في ترتّب المصلحة ، وهو مضافاً إلى استبعاده بل استحالته ـ نظراً إلى أنّه كيف يمكن أن يؤثر الشيء وضدّه في شيء واحد، فإنّ الجهر في موضعه إذا كان دخيلا في ترتّب المصلحة على الصلاة ، فكيف يمكن أن يكون الاخفات في موضع الجهر أيضاً مؤثّراً في ذلك ـ مخالف لظاهر كلامه بل صريحه ، لأنّ مقتضاه قيام المصلحة بالطبيعة الجامعة ، وعلى المفروض تكون المصلحة الحادثة قائمة بالطبيعة المقيّدة بالجهر موضع الاخفات أو العكس ، فهو خلاف ما يقول به فتدبّر .
ثم إنّ ظاهر كلامه أنّ المصلحة القائمة بالطبيعة الجامعة إنما حدثت بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة عنه ، ولتوضيح الحال بحيث يرتفع الاشكال لابدّ أولاً من بيان بعض الموارد التي اجتمع فيها الحكمان ، مترتّباً أحدهما على الآخر ثم ملاحظة المقام .
فنقول : من تلك الموارد مسألة الترتّب المعنونة في الأصول ، والمقصود منها إثبات جواز الأمر بالضدّين في الرتبتين ، فعن بعضهم التصريح بالامتناع(1) ، وربما يقال في وجهه أنّ قوام التكليف إنما هو بالإرادة التشريعية التي مرجعها إلى إرادة المولى تحقق المبعوث إليه من العبد .
ومن الواضح أنّ الإرادة التشريعية تكون كالإرادة التكوينية ، فكما لا يصح
- (1) كفاية الاُصول 1: 213 .
(الصفحة 196)
تعلّق الإرادة التكوينية بالأمور الممتنعة ، كالطيران إلى السماء ، والجمع بين الضدّين في موضوع واحد ، في زمان واحد ، وإيجاد شيء واعدامه في آن واحد ، وغيرها من الأمور المستحيلة الممتنعة ، كذلك لا يصح تعلّق الإرادة التشريعية بها ، فلايصح البعث إلى شيء منها لتقوّمه بها ، وهي ممتنعة .
وكما أنّ التكليف الواحد بالجمع بين الضدّين في موضوع واحد في زمان واحد محال من العالم ، باستحالة المكلّف به ، وامتناع تحقّقه في الخارج ، كذلك التكليفان المتوجّه كلّ منهما إلى أحد الضدّين ، فإنّه كيف يمكن تعلّق إرادتين بتحققهما من العبد المكلّف في زمان واحد ، وهل هو إلاّ كإرادة واحدة متعلّقة بالجمع بينهما؟ ومن الواضح استحالتها .
والظاهر عدم تمامية هذا الوجه ، فإنّ المفروض أنّ هنا تكليفين مستقلّين تعلّق كلّ واحد منهما بشيء ممكن في نفسه ، فإنّ الأمر بانقاذ الولد تكليف متعلّق بأمر غير مستحيل ، وكذا التكليف بانقاذ الأخ ، وليس هذان التكليفان في نظر العقل بمنزلة تكليف واحد ، بالجمع بين انقاذ الغريقين المستحيل لكونه جمعاً بين الضدّين ، لأنّ في مرتبة التكليف بالأهم لا يكون إلاّ تكليف واحد متعلّق بأمر ممكن .
غاية الأمر إنّه حيث لا تكون إرادة المولى انبعاث العبد وتحقق المبعوث إليه منه علّة تامّة لتحققه في الخارج ، إذ من الممكن أن لا تتحقّق الإطاعة والانبعاث منه ، فللمولى أن يوجّه تكليفاً آخراً إليه متعلّقاً بمحبوبه الآخر ، لئلاّ يفوت منه المحبوبان .
نعم لابدّ أن يعلّق التكليف الثاني بما إذا لم يؤثر التكليف الأول في نفس العبد ، وحصل منه عصيانه ، ومع هذا الوصف لا نرى في عقولنا استحالة التكليف الثاني المشروط بعدم تأثير الأول ، بل نقول : لا وجه لعدم توجيهه إلى العبد ، مع ثبوت ملاكه واشتراكه مع الأول ، في المحبوبية الأكيدة .
(الصفحة 197)
وحينئذ فلو تحقّقت المخالفة بالنسبة إلى كليهما يستحق العبد لعقوبتين ، لأنّه تحقق منه عصيانان ، ولا مانع من الالتزام بذلك أصلا كما لا يخفى .
بالجملة : فلا استحالة في الترتّب بهذا التقريب ، لأنّ في مرتبة التكليف بالأهم لا يكون إلاّ تكليف واحد متعلّق بواحد من الضدّين ، والتكليف الثاني معلّق على صورة قصور الأول عن التأثير ، وحصول العصيان من العبد ، وقد عرفت إنّه مع إمكانه لا وجه لعدمه بعد ثبوت ملاكه كالأول .
اجتماع الحكم الواقعي مع الظاهري
المحكيّ عن السيد الاصفهاني(قدس سره)أنّه أفاد في وجه الجمع بين الحكمين ، وعدم المنافاة بينهما ما ملخّصه : إنّه لا إشكال في أنّ الأحكام إنما تتعلّق بالمفاهيم المتصوّرة في الذهن ، لكن لا من حيث أنّها حاكية عن الخارج ، ثم إنّ المفهوم المتصوّر تارة يكون مطلوباً على نحو الاطلاق ، واُخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في ذلك المقيّد ، وقد يكون لوجود المانع .
مثلا قد يكون عتق الرقبة مطلوباً على سبيل الاطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصّة ، وقد يكون في المطلق إلاّ أنّ عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر ، ولأجله قيّد العتق المطلوب بما إذا تحقق في الرقبة المؤمنة ، فتقييده في هذا القسم إنما هو من جهة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضي، وذلك موقوف على تصوّر العنوان المطلوب أولاً مع العنوان الآخر المتّحد معه في الوجود المخرج له عن المطلوبية الفعلية ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن ، فلايعقل تحقق الكسر والانكسار .
فاللاّزم من ذلك ـ والكلام للسيّد الاصفهاني ـ إنّه متّى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً صرفاً من دون تقييد ، وكذا العنوان الذي فيه جهة المغضوبيّة ، والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلّق للأحكام
(الصفحة 198)
الظاهرية ممّا لا يجتمعان في الوجود الذهني ، مثلا إذا تصوّر الآمر صلاة الجمعة ، فلا يمكن أن يتصوّر معها إلاّ الحالات التي يمكن أن تتّصف بها في هذه الرتبة ، مثل كونها في المسجد أو في الدار مثلا ، وأمّا اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكاً ، فليس ممّا يتصوّر في هذه الرتبة ، لأنّ هذا الوصف إنما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم والأوصاف المتأخّرة عنه لا يمكن إدراجها في موضوعه ، فلا منافاة حينئذ بين الحكمين ، لأنّ جهة المطلوبية ملحوظة في ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وجهة المبغوضية ملحوظة مع لحاظه(1) انتهى .
أقول : قد حقّقنا في الأصول(2) أنّ معنى الاطلاق ، سواء كان راجعاً إلى الموضوع أو إلى المتعلّق ، عبارة عن كون ذلك الموضوع مثلا هو تمام الموضوع للحكم المجعول ، وأنّه لا مدخلية لشيء آخر ، فأصالة الإطلاق الجارية في متعلّق قوله : أعتق رقبة ، معناها أنّ مطلوب الأمر ومحبوبه الذي بعث عبده إليه ، إنما هو هذا العنوان فقط ، بحيث لا مدخلية لشيء من العناوين المتّحدة معه في الخارج في ذلك أصلا .
فكلّ مصداق تحقق في الخارج وصدق عليه هذا العنوان ، يكفي الإتيان به في تحقق الاطاعة ، بما أنّه مصداق لذلك العنوان ، وإن صدق عليه العناوين الاُخر ، مثلا إذا أعتق المكلّف رقبة مؤمنة ، فقد أوجد مطلوب المولى بما أنّه أعتق رقبة ، لا بما أنّه أعتق رقبة مؤمنة ، وكذا الإطلاق الجاري في موضوع الحكم ، مثل عنوان المستطيع الذي يكون موضوعاً لوجوب الحجّ ، فإنّ معناه أنّ من وضع عليه هذا التكليف إنما هو من صدق عليه عنوان المستطيع بما أنّه مصداق لهذا العنوان ،
- (1) حكاه عنه المحقّق الحائري(رحمه الله) في درر الفوائد : 351 ـ 352 . ولم نعثر عليه في كتاب (الرسائل الفشاركيّة) تأليف السيد الفشاركي(رحمه الله).
- (2) نهاية الاُصول : 376 .
(الصفحة 199)
فالمستطيع الذي يكون عالماً ومتّصفاً بهذا الوصف إنما يجب عليه الحج لكونه مستطيعاً ، لا لكونه مستطيعاً عالماً .
وبالجملة فمعنى الإطلاق بلا ريب عبارة عن كون الشيء المأخوذ متعلّقاً للحكم أو موضوعاً له تامّاً في ذلك ، بلا مدخلية لشيء آخر ، ومحبوباً أو مبغوضاً بنفسه ، بلا ملاحظة شيء من الخصوصيات ، وليس معناه راجعاً إلى ملاحظة جميع العناوين التي يمكن أن تتحد معه في الخارج موضوعاً وحكماً ، حتى يقال بلزوم الاقتصار من تلك العناوين على ما يمكن تصوره في هذه الرتبة .
فالعناوين الحادثة بعد تعلّق الحكم لا يعقل أن تكون ملحوظة للأمر ، مثل عنوان العلم ، والجهل ، والاطاعة ، والعصيان ، ونحوها من الحالات المتأخّرة عن جعل الحكم ، بل الاطلاق إنما هو بالمعنى الذي عرفت .
وعليه فلا فرق بين العناوين أصلا ، فإنّ صلاة الجمعة مطلوبة مطلقاً ، بمعنى أنّه لا مدخلية لشيء آخر في اتّصافها بذلك ، فمتى تحقّقت تتصف بذلك ، سواء تحقّقت من العالم بحكمها ، أو من الجاهل به ، وسواء عصاه المكلّف ، أم أطاعه ، فإنّه في جميع هذه الصور تكون مطلوبة بما أنّها صلاة الجمعة ، لا بما أنّها صدرت من العالم مثلا . وحينئذ فالحكم الواقعي المتعلّق بالمطلق كما أنّه ثابت بالنسبة إلى العالم ، كذلك يكون ثابتاً في صورة الجهل أيضاً كما عرفت ، فالإشكال لا يندفع بما أفاده السيد .
والذي ينبغي أن يقال في حلّ الاشكال بناءً على ما ذكرنا في معنى الاطلاق : أنّ البعث الصادر من المولى وإن كان مطلقاً ، ولا اختصاص له بالمكلّف العالم به ، للزوم الدور كما عرفت ، إلاّ أنّه لا ريب في قصوره من التأثير في نفس المكلّف الجاهل ، إذ لا يعقل الانبعاث من البعث مع الجهل به ، فالإرادة الباعثة عليه لا محالة تكون مقصورة بصورة العلم بالتكليف .