(الصفحة 190)
الفرق بين الناسي والجاهل(1) .
نعم هنا شيء ، وهو إنّ الجاهل قد جعل في الصحيحة الأولى مقابلا للمتعمّد ، لما عرفت من أنّ الجملة الثانية في الرواية بيان لمفهوم الجملة الأولى الدالة على وجوب الإعادة بالنسبة إلى خصوص المتعمّد ، مع أنّ الجاهل متعمّد أيضاً ، لأنّ الجهل لا ينافي العمد الذي هو بمعنى القصد ، إلاّ أن يقال: بأنّ المراد من المتعمّد هو الذي جهر في موضع الاخفات أو عكس ، قاصداً لمخالفة الشرع ، فيخرج الجاهل عن المتعمّد بهذا المعنى ، أو يقال بأنّ ذكر الجاهل في عداد الناسي والساهي إنما هو لمجرّد اشتراكه معهما في الحكم ، بعدم وجوب الإعادة ، لا لكونه مثلهما من مصاديق غير المتعمّد الذي هو الموضوع في القضية المفهومية ، وبعبارة اُخرى هو مستثنى من المتعمّد حكماً لا موضوعاً فتدبّر .
ثم إنّ الجهل إمّا أن يكون بالنسبة إلى الحكم ، بأن لا يعلم بوجوب الجهر والاخفات في مواضعهما ، وهو وإن كان فرضه بعيداً بملاحظة ما عرفت ، من استقرار سيرة المسلمين من صدر الإسلام إلى هذه الأزمنة ، إلاّ أنّه يمكن فرضه بملاحظة اشتهار الفتوى بالاستحباب من فقهاء العامة ، الذين كانوا مرجعاً لأكثر المسلمين في مقام الفتوى ، وبيان الأحكام الشرعية .
وإمّا بالنسبة إلى محلّ الجهر والاخفات ، وموضعهما بأن يعلم أنّ الصلوات في الشريعة على قسمين : بعضها جهرية وبعضها اخفاتية ، ولكن لا يميّز بينهما ، فيتخيّل أنّ المغرب مثلا من الصلوات الاخفاتية .
وإمّا بالنسبة إلى الموضوع ، بأن لا يعلم حدّ الجهر أو الاخفات ، والظاهر شمول الرواية لجميع الصور ، نعم الظاهر خروج الجاهل المتردّد والشاكّ عن قوله :
- (1) المنتهى 1 : 277; مفاتيح الشرائع 1: 134; جواهر الكلام 10 : 24 ـ 25; كشف اللثام 4 : 38; مستند الشيعة 5 : 161 ـ 162 ; جامع المقاصد 2: 261.
(الصفحة 191)
«لا يدري» ، لانصرافه عنه ، لأنّ ظاهر الرواية نفي وجوب الإعادة بالنسبة إلى من جهر في موضع الاخفات ، أو عكس بمقتضى طبعه ، والشاكّ ليس كذلك كما هو ظاهر .
وهنا إشكال عقليّ ، وهو أنّه بناءً على اشتراك الجاهل مع الناسي ، واختصاص الحكم بوجوب الإعادة بالمتعمّد العالم ، يلزم أن يكون وجوب الجهر والاخفات في مواضعهما مشروطاً بالعلم به .
وهذا محال، إمّا للزوم الدور الصريح بحسب الواقع ، كما في المصباح(1) وتقريره: إنّه لا خفاء في توقّف العلم بوجوب الجهر والاخفات على نفس الوجوب ، فلو كان الوجوب أيضاً متوقّفاً على العلم به كما هو المفروض يلزم الدور . وإمّا للزوم الدور في نظر العالم ، بناءً على منع توقّف العلم بشيء على وجوده ، لإمكان القطع بشيء معدوم ، غاية الأمر عدم موافقته للواقع ونفس الأمر .
وبالجملة: فمرتبة المعلوم في نظر العقل مقدّمة على مرتبة تعلّق العلم به ، فلو أخذ العلم بالحكم في موضوعه يلزم تأخّره عنه ، لتقدّم رتبة المعلوم عليه ، وتقدّمه عليه لتقدّم الموضوع على الحكم ، ومن الواضح استحالة اتّصافه بالتقدّم على شيء ، والتأخّر عن ذلك الشيء في زمان واحد .
وقد حقّقنا في الأصول(2) أنّ البعث والزجر يتوجّه إلى طبيعة المكلّف المعراة عن خصوصية العلم والجهل ، وإن كانت الإرادة الباعثة على البعث والزجر ، والغرض منهما ـ وهو تحقق الانبعاث والانزجار بسببهما ـ لا يتحقّق إلاّ في صورة العلم ، ضرورة أنّ في غير هذه الصورة لا يكون الانبعاث مسبّباً عن نفس البعث ولا الانزجار مستنداً إلى نفس الزجر ، إلاّ أنّ ذلك القصور في ناحية الغرض ، لا في
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 316.
- (2) نهاية الاُصول، مقدّمة الواجب: 202; ومبحث القطع: 420.
(الصفحة 192)
البعث والزجر .
وبالجملة : فلا شبهة في استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم . والقول بمعذورية الجاهل في المقام، وكذا في مسألة القصر والاتمام ، مستلزم لهذا الأمر المحال .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه أجاب عن هذا الإشكال في المصباح بما حاصله : إنّا نمنع أن يكون وجوب الجهر والاخفات في مواضعهما مشروطاً بالعلم ، كيف! وصرّح بعض بل نسبه إلى ظاهر الأصحاب باستحقاقه للعقوبة الذي هو أثر للوجوب ، ومعنى معذوريته إنما هو خصوص تمامية الصلاة ، وعدم وجوب الإعادة عليه ، ولا استحالة في ذلك أصلا .
بيانه إنّه من الجائز أن يكون لطبيعة الصلاة من حيث هي مصلحة ملزمة مقتضية لايجابها ، وكونها في ضمن الفرد المشتمل على الجهر أو الاخفات ، مشتملة على مصلحة اُخرى ملزمة أيضاً ، فاجتماع كلتا المصلحتين في هذا الفرد أوجب تأكّد طلبه ، فإذا أتى المكلّف بها في ضمن فرد آخر ، فقد أحرز مصلحة نفس الطبيعة ، فلا يعقل بقاؤها بصفة الوجوب ، وعند ارتفاعه عنها يتعذّر عليه احراز مصلحة الخصوصية .
إذ المفروض أنّ المصلحة المقتضية لخصوص الفرد تعلّقت بإيجاده ، امتثالا للأمر بالطبيعة ، وقد فرضنا سقوط الأمر المتعلّق بها بايجادها في الخارج ، فهو وإن كان أوجد الطبيعة ، إلاّ أنّه فوّت المزيّة الواجبة فيستحق المؤاخذة ، ولا يمكنه تداركها بعد ذلك .
إن قلت : إذا وجب عليه الاجهار في صلاته فقد حصل بفعله مخالفة ذلك التكليف ، فيكون منهيّاً عنه ، فكيف يصحّ وقوعه عبادة .
قلت : مخالفة ذلك التكليف تحصل بترك الجهر الذي هو نقيض للمأمور به ، لا
(الصفحة 193)
بفعل الاخفات ، نعم لو قلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص ، وجب الالتزام بحرمته ، ولكنّه خلاف التحقيق .
لا يقال : مقتضى ما ذكرت عدم وجوب إعادة الصلاة على من أخلّ بهما عمداً ، وهو خلاف الفرض .
لأنّا نقول : لا ندّعي أنّ طبيعة الصلاة المعرّاة عن هذه الخصوصية مطلوبة مطلقاً كيفما اتّفقت ، وإنما المقصود بيان إمكان ذلك دفعاً لتوهّم الاستحالة ، وإلاّ فمن الجائز تقييد مطلوبية صرف الطبيعة بخلوصها عن شائبة التجرّي كي ينافيها التعمّد أو التردّد كما لا يخفى(1) ، انتهى .
وما أفاده في جواب الإشكال الأول الذي أورده على نفسه محلّ نظر ، لأنّه إذا كان الضدّان ممّا لا ثالث لهما كما هو المفروض في المقام ، تكون مخالفة الأمر المتعلّق بواحد منهما بنفس إيجاد الضدّ الآخر ، فإنّه إذا أمر المولى بالسكون الذي هو ضدّ للحركة ، تتحقّق مخالفته بنفس التحرّك كما لا يخفى .
ثم إنّ بعض المحقّقين من المعاصرين بعد الإشكال على الجواب المذكور ـ بأنّ لازمه صحة العمل وإن أتى بالطبيعة الجامعة متعمّداً ، فإنّ الإتيان بها على الفرض عبادة ، وإن قارن عصيان الأمر الآخر ، إلاّ أن يقال باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص ، فيلزم بطلان العبادة من حيث المضادّة ، ولكنّا لم نقل بذلك ـ أجاب عنه بوجه آخر حيث قال : وحلّ أصل الإشكال أنّ المصلحة القائمة بالطبيعة الجامعة إنما حدثت بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة ، وليس المقام من قبيل وجود المصلحة الملزمة ، في المطلق والمقيّد في عرض واحد ، حتّى يرد الإشكال المتقدّم .
- (1) مصباح الفقيه، كتاب الصلاة: 316 .
(الصفحة 194)
ويتفرّع على ذلك أمور ثلاثة من دون منافاة بعضها مع البعض الآخر :
أحدها : تمامية الصلاة التي ينطبق عليها الجامع عند الجهل بلزوم الخصوصية .
الثاني : استحقاق العقوبة على ترك الخاصّ ، إذا كان مستنداً إلى تقصيره .
الثالث : عدم الصحة لو تعمّد في ترك الخاصّ ، والإتيان بالجامع(1) ، انتهى .
أقول : مراده بالمصلحة القائمة بنفس الطبيعة الحادثة ، بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة ، هل هي المصلحة القائمة بالطبيعة المقيّدة ، أو مصلحة اُخرى قائمة بصرف الطبيعة حادثة عند الجهل؟
فإن كان الأول ، يلزم عود المحذور ، بيانه إنّ ترتّب المصلحة على الطبيعة المقيدة حينئذ بحيث يكون للقيد دخل فيها ، إنما هو في صورة العلم ، لأنّ المفروض أنّ في صورة الجهل تكون المصلحة قائمة بنفس الطبيعة وحينئذ تكون مدخلية القيد في ترتّب المصلحة مشروطة بالعلم بها ، وهو أصل الإشكال .
هذا ، مضافاً إلى أنّه لو كان مراده ذلك لما كان وجه لاستحقاق الجاهل للعقوبة ، لأنّ المفروض إنّه لم يفت من المصلحة شيئاً إلاّ أن يقال باستحقاقه لها من حيث ترك تحصيل العلم ، وهو مع أنّه خلاف التحقيق ، مخالف لصريح كلامه حيث قال بأنّ استحقاقه لها إنما هو من حيث ترك المقيّد .
وإن كان الثاني ، يلزم أن يترتب على عمل الجاهل الذي عمل على طبق الواقع مصلحتان :
إحداهما : المصلحة القائمة بالطبيعة المقيّدة ، لعدم اختصاصها بصورة العلم كما هو المفروض .
والاُخرى : المصلحة القائمة بنفس الطبيعة الحادثة عند الجهل ، بخلاف العالم ،
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 194.