(الصفحة 259)
الجامع ثم يبدي الفارق(1) ، انتهى .
ويرد على ما أجاب به عن الدليل الثاني أنّ وضع الجبهة يسمى سجوداً بلا إشكال ، وأمّا وضع سائر الأعضاء مجرّداً فلا يسمى سجوداً كما يظهر بمراجعة العرف ، فلا يقال لمن وضع يديه على الأرض: أنّه سجدت يداه كما هو واضح .
ويدلّ على عدم مدخلية وضع سائر الأعضاء في تحقق حقيقة السجود ، ما ذكروه من أنّ زيادة الركن تتحقق بوضع الجبهة على الأرض مرتين أو مراراً ، وإن لم تتحقق الزيادة بالنسبة إلى وضع سائر الأعضاء .
وحينئذ فبعد قيام الدليل الشرعي على وجوب كون السجود على سبعة أعظم ، لابدّ وأن يقال: إمّا بكون وضع سائر الأعضاء واجباً في حال السجود ، وإن لم يكن ركناً ، أو يقال بأنّ الواجب في الصلاة هي الكيفية الحاصلة من السجود ، ومن وضع سائر الأعضاء الست على الأرض ، ولعلّه يجىء الكلام على هذه الجهة في مبحث ركنية السجود .
وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في وجوب السجدة على الجبهة ، وعدم كفاية ارغام الأنف والسجدة عليه ، كما دلّت عليه الروايات المتقدمة ، والمراد بالجبهة هو ما بين قصاص الشعر وطرف الأنف طولا وبين الجبينين عرضاً ، فالسجدة على أحد الجبينين غير مجزية .
والواجب من ذلك هو مسمّى السجود على الجبهة ، وما به يتحقّق عرفاً ، لأنّه من الأفعال التي تصدق بالبعض ، مضافاً إلى دلالة النصوص الكثيرة على ذلك مثل ما رواه زرارة عن أحدهما(عليهما السلام) قال : قلت : الرجل يسجد وعليه قلنسوة أو عمامة؟ فقال : «إذا مسّ جبهته الأرض فيما بين حاجبيه وقصاص شعره فقد أجزأ عنه»(2) .
- (1) المعتبر 2 : 207 .
- (2) الفقيه 1: 176 ح833 ; التهذيب 2: 85 و 236 ح314 و 931; الوسائل 6: 355. أبواب السجود ب9 ح1.
(الصفحة 260)
وما رواه زرارة أيضاً عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سألته عن حدّ السجود؟ قال : «ما بين قصاص الشعر إلى موضع الحاجب، ما وضعت منه أجزأك»(1) .
وما رواه مروان بن مسلم وعمّار الساباطي جميعاً قال : «ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد، أيّ ذلك أصبت به الأرض أجزأك»(2) .
وما رواه زرارة أيضاً عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «الجبهة كلّها ما بين قصاص شعر الرأس إلى الحاجبين موضع السجود، فأيّما سقط من ذلك إلى الأرض أجزأك مقدار الدرهم أو مقدار طرف الأنملة»(3) . وذكر الدرهم وطرف الأنملة إنما هو من باب المثال لا التحديد ، فلا تنافي الروايات المتقدمة كما لايخفى . هذا في الجبهة .
وأمّا الكفّان فلا إشكال أيضاً في وجوب وضعهما على الأرض ، وهما المراد باليدين المذكور في كثير من الروايات والمتبادر من الوضع وكذا المتعارف منه إنما هو وضع باطن الكفّين ، فلا يجزي وضع ظاهرهما في حال الاختيار ، وهل يجب فيهما الاستيعاب أم لا؟ الظاهر الوجوب ، لأنّ الاعتماد على الكفّين إنما يتحقّق بوضع مجموع باطنهما ، نعم لا يعتبر الاستيعاب الحقيقي ، بل يكفي الاستيعاب العرفي .
وأمّا الركبتان فقد اتفقت النصوص(4) والفتاوى(5) على اعتبار وضعهما ، والظاهر كفاية الاعتماد على بعضهما ، لصدق الاعتماد عليهما بالبعض كما لايخفى .
- (1) التهذيب 2: 85 ح313; الوسائل 6: 355. أبواب السجود ب9 ح2.
- (2) الفقيه 1: 176 ح836 و 837 ; التهذيب 2: 298 ح1201; الإستبصار 1: 327 ح1222; الوسائل 6: 356. أبواب السجود ب9 ح4 .
- (3) الكافي 3: 333 ح1; الوسائل 6 : 356. أبواب السجود ب9 ح5 .
- (4) راجع الوسائل 6 : 343; أبواب السجود ب4 ح2 و 8 و 9 .
- (5) المقنعة: 105; المقنع: 88 ; المسائل الناصريّات: 226; جمل العلم والعمل (رسائل المرتضى) 3: 32; الخلاف 1: 356; الكافي في الفقه: 119; الغنية : 80 ; الوسيلة: 94; المراسم: 71; المعتبر 2: 206; تذكرة الفقهاء 3: 185; مستند الشيعة 5: 235; جواهر الكلام 10: 139; كشف اللثام 4: 89 .
(الصفحة 261)
وأمّا إبهاما الرجلين كما في رواية زرارة المتقدمة(1) أو أطراف القدمين ، كما في رواية ابن عباس(2) ، أو الرجلان كما فيما رواه في قرب الإسناد(3) ، فلا إشكال في وجوب السجود عليهما ، وفي كون المراد بالرجلين وأطراف القدمين هو إبهاميهما ، ولكن لا دليل على لزوم أن يكون الاعتماد على رأسهما ، بل الظاهر كفاية ظاهرهما وباطنهما ، نعم الأحوط ذلك .
هنا مسائل:
المسألة الأولى : اعتبار عدم علو موضع الجبهة عن الموقف
يجب أن ينحني المصلّي للسجود حتّى يتساوى موضع جبهته مع موقفه ، إلاّ أن يكون العلوّ بمقدار لبنة ، ويدلّ عليه استمرار السيرة من الأزمنة المتقدمة إلى زماننا هذا على ذلك ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ استمرار السيرة على بعض أفراد الطبيعة ، لا يدلّ على عدم كفاية غيره في مقام امتثال الأمر بالطبيعة ، ومع الشكّ في اعتبار التساوي يكون المرجع هو أصل البراءة الجاري في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين .
هذا ، ولكن وردت هنا روايات ظاهرة في كون العلوّ الزائد على مقدار اللبنة مخلاًّ ومانعاً عن تحقق الصلاة شرعاً :
منها : ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن
- (1) الوسائل 6: 343. أبواب السجود ب4 ح2.
- (2) سنن البيهقي 2: 101 و 103 .
- (3) قرب الإسناد: 36 ح69 .
(الصفحة 262)
عبدالله بن سنان قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن موضع جبهة الساجد أيكون أرفع من مقامه؟ فقال : «لا ، ولكن ليكن مستوياً»(1) .
ومنها : ما رواه أيضاً عنه، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير يعني المرادي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يرفع موضع جبهته في المسجد؟ فقال : «إنّي أحبّ أن أضع وجهي في موضع قدمي، وكرهه»(2) .
ومنها : ما رواه أيضاً بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن النهدي، عن ابن أبي عمير، عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن السجود على الأرض المرتفع؟ فقال : «إذا كان موضع جبهتك مرتفعاً عن موضع بدنك قدر لبنة فلا بأس»(3) . وقد نوقش في سندها باشتراك النهدي بين جماعة لم يثبت توثيق بعضهم ، ولكن يدفعها ـ مضافاً إلى انجبارها بفتوى الأصحاب على طبقها ـ أنّ المراد بالنهدي هو الهيثم بن أبي مسروق ، لرواية محمّد بن عليّ بن محبوب عنه ، وهو ممدوح في كتب الرجال ، كما أنّه قد يناقش في الرواية بأنّ في بعض النسخ بدل «بدنك» «يديك» باليائين المثناتين ، فلا دلالة لها حينئذ على حكم الموقف ، ولكن الظاهر أنّ هذا الاحتمال نشأ من اشتباه النساخ ، لأنّ ما ذكرنا هو الموجود في كتب الاستدلال والأخبار .
ودعوى أنّه يمكن الاستدلال بها على هذا التقدير أيضاً بالفحوى وأولويّة الموقف من اليدين كما في الجواهر(4) ، ممّا لانعرف له وجهاً .
ولا يخفى أنّ ظاهر الرواية الأولى ، هو وجوب التساوي بين موضع الجبهة
- (1) التهذيب 2 : 85 ح315; الكافي 3: 333 ح4; الوسائل 6 : 357 . أبواب السجود ، ب10 ح1.
- (2) التهذيب 2: 85 ح316; الوسائل 6: 357. أبواب السجود ب10 ح2.
- (3) التهذيب 2 : 313 ح1271; الوسائل 6 : 358 . أبواب السجود ب11 ح1 .
- (4) جواهر الكلام 10 : 151 .
(الصفحة 263)
والمقام ، وصريح الرواية الأخيرة هو نفي البأس عمّا إذا كان الارتفاع بمقدار لبنة ، فيجب حمل الأولى على الاستحباب ، كما تدلّ عليه الرواية الثانية ، فظهر من مجموعها عدم جواز الارتفاع الزائد عن مقدار اللبنة .
ويؤيده عدم صدق عنوان السجود فيما إذا كان الارتفاع كثيراً ، والمراد باللبنة هي المعروفة في ذلك الزمان ، وقد قدر بأربع أصابع مضمومة ، ويؤيده اللبن الموجود الآن في أبنية بني عباس في سرّ من رأى ، فإنّها بهذا المقدار تقريباً . هذا في الارتفاع .
وأمّا الانخفاض ، فمقتضى القاعدة عدم البأس به ، لأنّه يوجب مزية الخضوع ، ولكن مقتضى رواية عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) عدم الجواز ، إذا كان زائداً على قدر آجرة حيث قال : سألته عن المريض أيحلّ له أن يقوم على فراشه ويسجد على الأرض؟ قال: فقال : «إذا كان الفراش غليظاً قدر آجرة أو أقلّ استقام له أن يقوم عليه ويسجد على الأرض، وإن كان أكثر من ذلك فلا»(1) .
ويحتمل أن يكون المراد من الرواية هو كون المصلّي في حال القيام على الفراش ، وفي حال السجود على الأرض بالانتقال من الفراش إليها ، لا أن يكون المراد هو السؤال عن عدم مساواة المقام مع المسجد ، وانخفاض الثاني بالنسبة إلى الأول ، ولكن هذا الاحتمال بعيد جدّاً .
فانقدح أنّه لا يجوز الارتفاع ولا الانخفاض إلاّ بمقدار أربع أصابع مضمومة الذي هو مقدار اللبنة والآجرة ، والظاهر أنّه لم يظهر الفتوى بذلك من الأصحاب في الانخفاض ، بل صرّح العلاّمة في محكيّ النهاية بوجوب تساوي الأسافل والأعالي ، أو انخفاض الأعالي(2) ، بل عن الشهيد في الذكرى ، الفتوى باستحباب
- (1) الكافي 3 : 411 ح13; التهذيب 3 : 307 ح949; الوسائل 6 : 358 . أبواب السجود ب11 ح2 .
- (2) نهاية الأحكام 1: 488; الذكرى 3: 389 .