(الصفحة 26)
فليس تلك لهم بصلاة . . .»(1) .
فإنّ ظاهره نفي حقيقة الصلاة معوجودالحائل بين الإمام والمأموم، أو المأمومين بعضهم مع بعض، لانفي صحة الجماعة فقط، ومثله في الدلالة على ذلك خبر السكوني الوارد فيما لو صلّى اثنان فقال : كل منهما كنت إماماً أو قال كنت مأموماً حيث روى «عن أبي عبدالله(عليه السلام) عن أبيه قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في رجلين اختلفا فقال أحدهما : كنت إمامك وقال الآخر : أنا كنت إمامك فقال: صلاتهما تامّة. قلت : فإن قال كل واحد منهما : كنت أئتمّ بك؟ قال : فصلاتهما فاسدة وليستأنفا»(2) .
فإنّ الحكم ببطلان صلاتهما فيما لو قال كل واحد منهما: كنت أئتمّ بك مع ترك الاستفصال عن الاخلال بوظائف المنفرد وعدمه ، لا ينطبق إلاّ على كون وجود الإمام معتبراً في صحة صلاة المقتدي ، لا في صحة أصل الاقتداء حتى لا ينافي بطلانه صحة أصل الصلاة .
وبالجملة : لو كان وجود الإمام شرطاً في تحقق الاقتداء ، فمع عدمه لا وجه لبطلان الصلاة ولو فرادى كما لا يخفى ، والاعتراض على الرواية من حيث السند يندفع بأنّ ضعفها مجبور باشتهارها بين الأصحاب فتوى ورواية ، بل كما في المصباح(3) تكون العلّة في تعرّضهم لهذا الفرع مع كونه من الفروع الفرضية التي لايكاد يتفق الابتلاء بها إلاّ نادراً إنّما هو ورود الرواية في مورده ، فالظاهر أنّ الرواية مقبولة عند الأصحاب ولا وجه لطرحها أصلا .
- (1) الفقيه 1: 253 ح1144; الكافي 3 : 385 ح4; التهذيب 3: 52 ح182; الوسائل 8 : 410. أبواب صلاة الجماعة ب 62 ح 2 وص407 ب59 ح1 .
- (2) الكافي 3 : 375 ح3; الفقيه 1 : 250 ح1123; التهذيب 3 : 54 ح186; الوسائل 8 : 352. أبواب صلاة الجماعة ب29 ح1 .
- (3) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 655 .
(الصفحة 27)
ثمّ لا يخفى أنّ ما ورد في صحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها فيما لو انكشف كون الإمام فاقداً لشروط الإمامة ، مثل ما ورد فيما صلّى الرجل من خراسان إلى بغداد خلف رجل ثمّ ظهر كونه يهودياً من عدم وجوب الإعادة(1)، لايدل على الصحة في المقام، وإنّ فقدان الشرط لا يضرّ بصحّة الصلاة ، وذلك لأنّ الشرط ليس هو الإسلام الواقعي، بل إحرازه بالأمارة أو بالأصل ، والمفروض تحققه في مورد الرواية.
وبالجملة : فالنزاع في المقام إنّما هو فيما لو انكشف فقدان ما هو الشرط ، والمفروض في الرواية تحققه ، فلا يمكن الاستدلال بها للمقام ، مع أنّ الظاهر تحقّق الاخلال بوظائف المنفرد في الرواية ولو نادراً ، إذ يبعد عدم تحققه مع بعد المسافة بين خراسان وبغداد ، وطول المدّة في الطريق ، خصوصاً في الأزمنة السابقة، وحينئذ فلا يجوز التمسّك بها للمقام بعد كون البطلان في صورة الاخلال بوظائف المنفرد مورداً للاتّفاق هنا كما عرفت .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ القدر المتيقّن وإن كان هو اعتبار الأمور المعتبرة في صحة الجماعة في تحقّق أصل الاقتداء ، لا في صحة صلاة المقتدي إلاّ أنّك عرفت ظهور بعض الأخبار في البطلان ، فيما لو انكشف الخلاف ، فالأحوط إعادة الصلاة واستئنافها .
ثمّ إنّك عرفت أنّ الصلاة من العناوين القصدية التي لا ينصرف العمل المشترك إلى بعضها إلاّ بالنية ، فاعلم أنّ هذا القصد معتبر حين الشروع في العمل ، إذ مجرّد كونه قاصداً سابقاً لأداء الدين مثلا لا يوجب صرف العمل إلى ذلك العنوان ، وكذا الحكم في جميع العناوين القصدية التي منها عنوان الصلاة .
- (1) الكافي : 3 / 378 ح4 ; التهذيب 3: 40 ح141; الفقيه 1: 263 ح1200; الوسائل : 8 / 374 أبواب صلاة الجماعة ب37 ح1 و2 .
(الصفحة 28)
اعتبار قصد القربة في الصلاة
إنّ قصد القربة من الأمور المعتبرة في الصلاة زائداً على القصد إلى عنوانها ، توضيح ذلك: إنّه لا إشكال في أنّ كلّ فعل اختياريّ صادر عن الفاعل المختار لابدّ أن تسبقه الإرادة ، بخلاف الأفعال الطبيعية الصادرة من فاعليها ، بمقتضى طبيعتها من غير شعور ولا إرادة ، وكذا لا إشكال في أنّ الإرادة لا تتعلّق أولاً إلاّ بما هو محبوب للفاعل بالذات ، ومشتاق إليه بنفسه . ثم تتولّد من هذه الإرادة إرادة اُخرى متعلّقة بما يتوقّف عليه تحقق مطلوبه الأقصى ومحبوبه الأولى ، فالعطشان تتعلّق إرادته أولاً برفع العطش ، وثانياً بشرب الماء كذا سائر المقدّمات .
وبالجملة: تعلّق الإرادة بالأفعال الصادرة إنما هو لكونها محبوبة لنفس الفاعل بالذات ، أو دخيلا في تحقق ما هو محبوب كذلك ، وإلاّ فمع عدم المحبوبية مطلقاً لا يعقل تعلّق الإرادة بها . هذا في الأفعال الدنيوية التي لا يترتب عليها إلاّ الآثار الدنيوية .
وأمّا الأفعال العبادية فلا شبهة في أنّ تعلّق الإرادة بها مع عدم كونها محبوبة للنفس ومشتاقاً إليها أصلا لابدّ من أن يكون ناشئاً من الملائمة الحاصلة بينها وبين النفس في بعض المراتب ، إمّا لكون النفس مقهورة عند عظمة الحقّ جلّ جلاله وسطوته وجماله وجلاله ، فتأتي بالعبادة خضوعاً في مقابل عظمته ، وخشوعاً في مقابل الكمال المطلق الذي إليه يرجع كلّ الكمال ، وإمّا لكونها شائقة إلى شكر نعماء الله لتوجّهها إلى أنّه تعالى وليّ النِعم ، فتأتي بالعبادة شكراً لنعمه ، وإمّا لكونها شائقة إلى ما يترتب على فعل العبادة ، من حصول الثواب الأخروي ، أو خائفة عمّا يترتب على تركها من العقاب الاُخروي ، وإمّا لكونها شائقة إلى زيادة النعم
(الصفحة 29)
الدنيوية ، أو بقاء ما كان منها .
ولا يخفى أنّ هذه المراتب تختلف باختلاف الفاعلين في كمال النفس وضعفها ، والانصاف كفاية كلّ واحد منها في صحة العبادة ، ولولا ذلك يلزم بطلان عبادة عامة الناس ، وتكون الصحة حينئذ منحصرةً على عمل الأنبياء والأول ياء فقط ، مع أنّ هذه المراتب ليست اختيارية للنفس ، بل قد عرفت أنّ اختلافها يدور مدار ضعف النفس وكمالها ، فلو كان بعض المراتب العالية معتبراً في صحة العبادة ، لكان اللاّزم من باب المقدّمة تكميل النفس إلى تلك المرتبة ، مع أنّه لم يكن ذلك ثابتاً حتّى في زمان النبي(صلى الله عليه وآله) .
وبالجملة: لا إشكال في عدم اعتبار تلك المراتب ، وكفاية كلّ واحد منها ومن المراتب الذاتية .
ثم إنّ الوجه في عدم تعرّض الأخبار لمسألة قصد القربة واعتباره في العبادات ، إنما هو ما عرفت من أنّ الأفعال العبادية لا تكون محبوبة للنفس مع قطع النظر عن الأمر بها ، فالآتي بها مع كونها كذلك لا يكاد ينفكّ من ذلك القصد بإحدى المراتب المتقدّمة ، وحيث إنّه قد يعرضها بعض الأغراض الدنيوية ، فيمنع عن وقوعها على ما هي عليه بمقتضى طبعها الأول ي كالرياء ونحوه ، فلذا قد تكرّر في الأخبار ذكره(1) وأنّه موجب لبطلان الصلاة .
وبالجملة: فلا إشكال في اعتبار قصد القربة في العبادات ، وإن لم تتعرضه الأخبار ، كما أنّه لا خلاف فيه بين علماء الإسلام(2) . والقول بعدم اعتباره في
- (1) الوسائل 1: 70. أبواب مقدّمة العبادات ب12 .
- (2) الخلاف 1: 71، مسألة 18; مستند الشيعة 2 : 45 ـ 49; جواهر الكلام 9 : 156; تذكرة الفقهاء 3 : 100 مسألة 200; مدارك الاحكام 3 : 309 ـ 310; الذكرى 3 : 245 ; بداية المجتهد 1: 33.
(الصفحة 30)
الطهارات الثلاث ـ كما حكي عن أبي حنيفة(1) ، ـ وفي الزكاة والخمس(2) ـ كما ربما يمكن توجيهه خلافاً للمتأخّرين من الإمامية(3) ـ إنما هو لعدم كونها عبادة عند القائل بعدم اعتباره فيها ، لا لأجل عدم اعتبار قصد القربة في العبادة كما هو واضح .
ثم إنه ما اشتهر في ألسنة المتأخّرين(4) ، وتكرّر في كلماتهم بأنه يجب الاتيان بالعبادة بقصد إطاعة الأمر المتعلّق بها وامتثاله ، وأنّه يجب توسيطه ، وجعله مقدّمة لحصول القرب ، أو ترتّب الثواب ، أو غيرهما من المراتب المتقدّمة ، وكأنّه لايحتاج إليه في صيرورة العبادة عبادة ، فإنّه يكفي في ذلك مجرّد الإتيان بها ، لكونها محبوبة للمولى ، وموجبة لحصول القرب وترتّب الثواب .
فإنّه إذا لم يكن للعبد غرض دنيوي مترتب على إتيانها ـ لعدم كونها محبوبة للنفس بالذات ، أو بالتّبع ، حتّى تتعلّق الإرادة بها من هذه الجهة ـ فالإتيان بها لا محالة يكون لغرض اُخرويّ ، ولكونها عبادة لله تعالى ، محبوبة له جلّ شأنه ، وقد عرفت أنّ هذا هو الوجه في عدم تعرّض الأخبار لاعتباره في العبادات .
وبالجملة : فصيرورة الشيء عبادة إنما تتوقّف على أن لا تكون الإرادة المتعلّقة بإتيانها ناشئة من المبادئ الدنيوية ، والأغراض المرتبطة بهذا العالم ، نعم يعتبر مع
- (1) الخلاف 1 : 71 مسألة 18; بداية المجتهد 1 : 33; كشف اللثام 1 : 502; وهو قائل بعدم الاشتراط في الطهارة المائيّة فقط لا مطلقاً . راجع المجموع 1: 313; تذكرة الفقهاء 1: 139.
- (2) القائل هو الأوزاعي: المجموع 6: 180; المغني لابن قدّامة 2: 502; الشرح الكبير 2: 673; تذكرة الفقهاء 5: 327، مسألة 238.
- (3) المعتبر 2: 559; تذكرة الفقهاء 5: 327; مستند الشيعة 9: 374; جواهر الكلام 15: 471; رياض المسائل 5: 136; مدارك الأحكام 5: 299.
- (4) تذكرة الفقهاء 3: 101 ـ 102; كشف اللثام 3: 408 ـ 409; جواهر الكلام 9: 154 ـ 156; مستند الشيعة 5: 11; الحدائق 8 : 13 ـ 18; مدارك الأحكام 3: 309.