(الصفحة 356)
ثمّ إنّ البكاء المبطل هل يختصّ بالبكاء مع الصوت أو يعمّه وما ليس فيه صوت؟ وجهان، والمحكيّ عن عدّة من اللغويّين أنّ البكاء ممدوداً عبارة عمّا فيه الصوت، ومقصوراً عمّا فيه خروج الدمع فقط، فقد صرّح الجوهري بأنّ الأوّل أي المقصور موضوع لخروج الدمع فقط، والثاني يعني الممدود، لخروج الدمع المقرون بالصوت(1). ومقتضى هذا الكلام أن تكون المشتقّات منهما موضوعة لمعنيين، وهذا بعيد جدّاً، بل يمكن دعوى القطع بخلافه، فالحقّ أنّ البكاء مقصوراً وممدوداً موضوع لمعنى واحد.
نعم، يظهر من عبارة بعض القدماء من اللغويّين أنّ العمل المزبور من جهة اشتماله على الحزن مصدره بكى على وزن فعل تشبيهاً بحزن يحزن، ومصدره حزن، ولأجل اشتماله على الصوت مصدره بكاء; وهذا لا يفيد، لأنّ البكاء على قسمين، وأنّ كلّ واحد من المصدرين موضوع لكلّ من المعنيين، كما عليه أكثر المتأخرين من الفقهاء(2)، وحينئذ قوله : سألته عن البكاء في الصلاة أيقطع الصلاة؟ على ما هو مضبوط في الكتب بالمدّ سؤال عن البكاء مع الصوت. بناء على قول الجوهري وغيره، إلاّ أنّ قوله(عليه السلام): «ان بكى» يحتمل الأمرين وهذا بعيد في الغاية، ووجهه أنّ الاشتراك المزبور ليس كاشتراك لفظ واحد بين معنيين، بل كاشتراك لفظ بين الأخذ عن المقصور تارةً وعن الممدود أُخرى، وهذا في غاية البعد كما لايخفى.
وبالجملة: صدور القول المزبور من مثل الجوهري بعيد، وحيث أنّ أصل العبارة في ذلك من الخليل(3)، فبعد التأمّل فيما ذكره يستفاد أنّ «بكى» له معنى واحد
- (1) لسان العرب 1 : 475; مجمع البحرين 1 : 235 ; الصحاح 6 : 2284 مادّة «بكى»; المصباح المنير 1 ، 2 : 59; المفردات: 58 مادّة «بكي»; العين 5: 417.
- (2) كصاحب الروضة البهيّة 1 : 233; وروض الجنان: 333; ومستند الشيعة 7 :53; ومدارك الأحكام 3: 466; وكشف اللثام 4: 178; وذخيرة المعاد: 357; وجواهر الكلام 11: 74 ـ 75; والحدائق 9: 50 ـ 51.
- (3) العين 5 : 417 .
(الصفحة 357)
وله مصدران باعتبارين، وعليه لا يكون البكاء على قسمين، بل البكاء في كلّ مورد قسم واحد ذو جهتين. قال في الصحاح : بكى، البكاء يمدّ ويقصر إذا مددت أردت الصوت الذي يكون في البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها، شعر:
- بكت عيني وحقّ لها بكاها
بكت عيني وحقّ لها بكاها
-
وما يغني البكاء ولا العويل(1)
وما يغني البكاء ولا العويل(1)
ولا يخفى أنّ ظاهر قوله: إذا مددت ...، إطلاق البكاء على نفس الدمع، لأنّه قال: أردت الصوت الذي يكون مع البكاء مع أنّه بصدد تعريف البكاء الممدود، وإطلاقه على الصوت الذي يكون مع البكاء، فعبارته مخدوشة من هذه الجهة، كما أنّ استشهاده بالبيت المزبور في غير محلّه، لأنّ المصرع الثاني ظاهر بمقتضى العطف في افتراق البكاء الممدود عن العويل الذي هو بمعنى الصوت، فالاستشهاد به لما ذكره من كون البكاء الممدود بمعنى الصوت الذي يكون في البكاء ممّا لا يستقيم.
هذا، ولكن مع ذلك كلّه فلا خفاء في ظهور عبارته في أنّ البكاء الممدود والمقصور متباينان من حيث المعنى، ولو اتّفقا في مصداق واحد، وهذا بخلاف ما يستفاد من عبارة الخليل، فإنّك عرفت أنّ التأمّل فيها يقضي بكون مراده هو وجود مصدرين باعتبارين مختلفين.
ولا يخفى أنّ العرب لما يطلق فعل أو فعل على الداء القلبي بلا محبوبية ولا مبغوضية وما على وزن فعال على ما له صوت أراد الخليل أن يبيّن وجه كون البكاء بالمدّ والقصر، وأنّ البكاء بالقصر لأجل اشتماله على الداء القلبي الباعث لخروج الدمع جعل مصدراً لمادّة (ب ك ى)، وأنّ البكاء بالمدّ أيضاً جعل مصدراً له
- (1) صحاح اللغة 6 : 84 22; ونقله عنه في «مفتاح الكرامة 3 : 30».
(الصفحة 358)
لأجل اشتماله على الصوت، ففي الحقيقة كلام الخليل يكون تعليلاً لوجود مصدرين مختلفين.
وكيف كان، فلو قلنا بأنّ الأصل في الاشتقاق هو المصدر، فإمّا أن يقال: بأنّ المشتقّات كلّها مشتقّة من أحد المصدرين دون الآخر، وإمّا أن يقال: باشتقاق كلّها من المصدرين، فعلى الأوّل يحتاج إلى دليل معيّن لذلك، مع أنّ من الواضح عدم وجوده، وعلى الثاني يلزم الاشتراك بحسب اللفظ، بناءً على تباين المصدرين بحسب المعنى، كما عرفت من الجوهري.
وحينئذ فقولنا: بكى يبكي محتمل لكلّ من المعنيين، فلابدّ من وجود قرينة على إرادة كلّ منهما نظير باب المشترك، وإن كان بين المقام وباب المشترك فرق، من جهة أنّ اللفظ هناك واحد والمعنى متعدّد لأجل الأوضاع المتعدّدة، وأمّا هنا فالمفروض أنّ اللفظ متعدّد كالمعنى، ومن هنا يظهر أنّ الاحتياج إلى القرينة هناك إنّما هو لتعيين المستعمل فيه وهنا لتعيين المستعمل، وأنّ لفظ «بكى» مثلاً هل يكون مأخوذاً من المصدر المقصور أو الممدود، فيحتاج إلى قرينة معيّنة، وحينئذ فهل المخصّص والمعيّن قصد المتكلّم، وإرادته كون لفظ «بكى» المستعمل مأخوذاً من المقصور أو الممدود أو غيره؟ أمّا الأوّل فليس كذلك، وأمّا الثاني فليس بثابت، وحينئذ فلابدّ من القول بوحدة المشتقّات من حيث المعنى، ومن وحدتها يستكشف وحدة المشتقّ منه، كما عليه الخليل.
نعم، لو قلنا: بأنّ الأصل في الاشتقاق هو الفعل، فيمكن القول بمقالة الجوهري، نظراً إلى أنّ الفعل وإن كان واحداً من حيث اللفظ والمعنى إلاّ أنّه اشتقّ منه مصدران مختلفان من حيث المعنى، وكذا يمكن الالتزام بذلك لو قلنا: بأنّ الأصل في الاشتقاق هي طبيعة (ب ك ى) لا الفعل ولا المصدر.
وكيف كان، فما ذكره الجوهري غير ثابت، مع انّه على الظاهر أخذ ذلك من
(الصفحة 359)
الخليل، وقد عرفت عدم دلالة كلامه عليه.
ويؤيّد ما ذكرنا أنّه ورد في الحديث: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»(1) فإنّ الظاهر أنّ البكاء فيه بمعنى خروج الدمع، وإلاّ فلو كان البكاء الممدود عبارة عن خروج الدمع مع الصوت فالتباكي حاصل قهراً، ويؤيّده أيضاً إسناد البكاء في كلمات العرب نثراً ونظماً إلى العين، ولو كان البكاء الممدود عبارة عمّا فيه الصوت، لكان الأنسب إسناده إلى الفم لأجل الصوت، لا إلى العين لأجل خروج الدمع.
ومنه ينقدح أنّ الأظهر بعد عدم ثبوت ما ذكره الجوهري من الفرق بين الممدود والمقصور. هو كون البكاء مطلقاً بمعنى خروج الدمع فقط الناشئ عن الحزن الحاصل للقلب من غير اعتبار الصوت فيه أصلاً، لما عرفت من الإسناد إلى العين، ومن الحديث الآمر بالتباكي إذا لم يجد البكاء، وبعض الروايات الواردة في أنّ البكّائين خمسة كما عن الخصال(2); وفي أنّ اليتيم إذا بكى اهتزّ له العرش(3).
وما في البحار في قضية فوت إبراهيم بن النبي(صلى الله عليه وآله) وأنّه لمّا مات بكى النبي(صلى الله عليه وآله) (4)، لا يدلّ على أنّ المراد بالبكاء ما هو المشتمل على الصوت كما في مورد الروايات المزبورة، لأنّ خصوصية المورد في كلّ منها قد اقتضت ذلك، وامّا معنى البكاء من حيث هو فليس إلاّ خروج الدمع فقط. قارنه الصوت أم لا. هذا كلّه فيما يتعلّق بمفهوم البكاء.
وأمّا حكمه إذا وقع في الصلاة فحكى في مفتاح الكرامة عن جمع من المحقّقين كالأردبيلي والخراساني والسيّد في المدارك، التوقّف في مبطلية البكاء للصلاة(5).
- (1) سنن ابن ماجة 2: 1403 ح4196; بحار الانوار 89 : 191 ح 2.
- (2) الخصال : 272. باب الخمسة ح15.
- (3) بحار الانوار 72 : 5 ح 12 نقلا عن ثواب الاعمال : 237 ح1.
- (4) بحار الانوار 22 : 157 ح16; وفيه: «ثمّ قال النبي
(صلى الله عليه وآله)
- : تدمع العين ويحزن القلب».
- (5) مجمع الفائدة والبرهان 3: 73 ـ 74; ذخيرة المعاد: 357; مدارك الأحكام 3: 466.
(الصفحة 360)
ونقل عن الذكرى والمفاتيح أنّه إنّما يكون مبطلاً إذا كان من الفعل الكثير(1)، فيرجع إلى عدم مبطليّة البكاء بما هو هو، وعن الموجز الحاوي وحاشية الإرشاد وكشف اللثام والميسية، أنّ المبطل ما اشتمل على النحيب، وإن خفي لاُفيض الدمع بلا صوت(2).
وعن إرشاد الجعفرية، وفوائد الشرائع، والروض، والروضة، والمقاصد العلية، والمدارك، أنّ المبطل منه ما اشتمل على صوت لا مجرّد خروج الدمع(3); وجعله في الحدائق مشهوراً استناداً إلى هؤلاء الأعاظم(4)، وعن الروض والروضة والمقاصد، احتمال الاكتفاء في الإبطال بخروج الدمع، لاحتمال القصر في البكاء الوارد في النصوص، وعن المسالك فيه نظر(5)،(6) انتهى. ولعلّ وجه النظر التأمّل في الفرق بين المقصور والممدود، أو اشتراك الفعل الواقع في الجواب; وكلام المفتاح ظاهر في أنّ الباقين لم يتعرّضوا للتفصيل وحينئذ فالإطلاق والتقييد من الفقهاء يبتني على اعتقادهم في معنى البكاء، فلو ثبت أنّ معتقدهم في البكاء كان مطلق خروج الدمع، تثبت الشهرة بالنسبة إليه، ولكن ذلك غير معلوم.
وقال المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك: أنّ القدماء لو كان نظرهم ـ مثل الجوهري ـ التفصيل بين المقصور والممدود كان عليهم التعرّض، فعدم تعرّضهم يكشف عن عدم اعتقادهم ذلك. وهذا الكلام ـ بضميمة ما عرفت منّا من ضعف القول بالتفصيل وأنّ اسناد البكاء إلى العين يدلّ على كون المراد به هو خروج
- (1) الذكرى 4 : 10; مفاتيح الشرائع 1: 173 .
- (2) كشف اللثام 4 : 178; الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 85 .
- (3) الروضة البهيّة 1 : 233; روض الجنان : 333; مدارك الأحكام 3: 466.
- (4) الحدائق 9 : 50 .
- (5) مسالك الأفهام 1: 228.
- (6) مفتاح الكرامة 3 : 31.