(الصفحة 366)
أتمّ منها دلالة كما لا يخفى، ومضمونهما أنّه لو أحدث المصلّي عمداً وكان سببه الغمز أو الأذى في البطن أو الضربان بحيث اضطرّ إلى الإخراج، فعليه أن يتوضّأ ويبني على ما صلّى، وحينئذ فيبعد أن تكون الروايتان مستندتين لفتوى الأصحاب القائلين بلزوم البناء بعد التوضّي، لأنّ مورد فتواهم هو من سبقه الحدث، والظاهر منه صورة خروجه سهواً فاختلف الموردان.
ثمّ إنّ رواية فضيل تدلّ على أنّه لا بأس بالتكلّم ناسياً، وكذا لا بأس بالاستدبار، كما أنّ رواية أبي سعيد أيضاً نفت البأس عن قلب الوجه عن القبلة، وحينئذ فيحتمل لأجل ذلك صدور كلّ منهما تقية، خصوصاً مع الاستدلال في الرواية الأخيرة بسهو النبي(صلى الله عليه وآله) .
ثمّ إنّ قولنا : فلان أحدث من باب الإفعال، ليس على حدّ غيره من سائر أفعال هذا الباب، من جهة الظهور في كون صدوره عن قصد وإرادة، بل يقال: فلان أحدث ولو مع خروج الحدث عنه سهواً.
وليعلم أيضاً أنّ خروج الحدث على ثلاثة أقسام:
أحدها: الخروج عن عمد واختيار.
ثانيها: الخروج سهواً أي في حالة السهو عن كونه في الصلاة مع التوجّه إلى الإخراج.
ثالثها: سبق الحدث أي الخروج من غير اختيار. وهاتان الروايتان ناظرتان إلى القسم الأوّل، ومورد الفتاوى هو القسم الثالث كما عرفت آنفاً.
وأمّا رواية زرارة فظاهرها أنّه يبني على تلك الصلاة التي صلّى منها ركعة مع التيمم، خلافاً للمختلف وكشف اللثام، حيث نفيا ظهور الرواية في البناء على تلك الصلاة، واستدلّ على ذلك كاشف اللثام على ما حكي بأنّ الحديث في بعض النسخ
(الصفحة 367)
هكذا: ويبني على ما بقي من صلاته(1).
هذا، ولكن الصحيح ما ضبطه في الوسائل مما عرفت، فظهور الرواية في ذلك ممّا لا ينبغي الارتياب فيه; وعليه فيتحقق التعارض بينها وبين الروايات الدالة على البطلان، لأنّ المستفاد من تلك الروايات أنّ الطهارة المعتبرة للأكوان الصلاتية تبطل بسبق الحدث، وخروجه سهواً، وتوجب بطلان الصلاة من أوّل الأمر، بحيث يجب التوضّي ثم الإستئناف، فإذاكان الأمر في الطهارة المائية هكذا فالطهارة الترابية أولى بذلك،ومن الواضح أنّ الواجب الأخذ بتلك الروايات لكونهامطابقة لفتوى المشهور.
ثمّ إنّه قال الشيخ في الخلاف: إذا سبقه الحدث فخرج ليعيد الوضوء، فبال أو أحدث متعمّداً لا يبني إذا قلنا بالبناء على الرواية الاُخرى، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي على قوله القديم الذي قال بالبناء: إنّه يبني، قال: لأنّ هذا الحدث طرأ على حدث فلم يكن له حكم(2) . انتهى موضع الحاجة من كلامه.
ويظهر من هذا الكلام أنّه لو أحدث متعمّداً بعدما سبقه الحدث لا يجوز البناء بل عليه الاستئناف، وعليه إجماع الإمامية كما نقل في مفتاح الكرامة دعواه عن خمسة من العلماء(3)، بل وعليه إجماع العامّة أيضاً، لأنّ أبا حنيفة ـ القائل بالبناء ـ قال بالاستئناف هنا أيضاً(4).
ويظهر من الشافعي أنّه لولا طريان الحدث على الحدث لكان يحكم بالاستئناف، لأنّه أحدث متعمّداً(5)، فيظهر من مجموع ذلك إتّفاق الفريقين على خلاف خبري فضيل وأبي سعيد المتقدّمين الدالّين على البناء فيما لو أحدث متعمّداً ،
- (1) مختلف الشيعة 1 : 442; كشف اللثام 4: 161.
- (2) الخلاف 1: 412 مسألة 158.
- (3) مفتاح الكرامة 3: 3 .
- (4) بدائع الصنائع 1 : 220; تذكرة الفقهاء 3: 273 .
- (5) المجموع 4 : 74 .
(الصفحة 368)
فهما معرض عنهما بالإجماع من المسلمين على خلافهما.
ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لذكر الشيخ رواية الفضيل في المسألة السابقة على هذه المسألة المعنونة بقوله: من سبقه الحدث، التي ذكر أنّ فيها روايتين: إحداهما أنّه تبطل الصلاة، والرواية الاُخرى أنّه يعيد الوضوء ويبني، حيث قال: وأمّا الرواية الاُخرى فرواها فضيل بن يسار قال: قلت: ...(1) . فتدبّر جيّداً.
- (1) الخلاف 1: 409 ـ 411 ، مسألة 157 .
(الصفحة 369)
القاطع السابع:
الكلام
الكلام إذا صدر عن عمد ولم يكن ذكراً، ولا دعاء، ولا قرآناً، يدلّ عليه مضافاً إلى إجماع المسلمين واتّفاقهم(1)، الأخبار المستفيضة التي تدلّ بظاهرها على ذلك ويستفاد أيضاً من بعض الروايات الاُخر الدالة على جواز التكلّم ببعض الكلمات الظاهرة في أنّ ذلك إنّما وقع على سبيل الاستثناء كالأخبار الدالة على أنّ كلّ ما كان من ذكر أو قرآن فهو من الصلاة; وغيرها ممّا يستفاد منه مبطلية الكلام في غير موارد الاستثناء.
وبالجملة: فلا ينبغي الإشكال في أصل الحكم بعد اتفاق المسلمين عليه،
- (1) المجموع 4 : 85 ; المغني لابن قدامة 1 : 740; سنن ابن ماجة 1 : 659 ب16; الخلاف 1: 403 مسألة 154 وص407 مسألة 155; الغنية: 82 ; المسائل الناصريات: 234 مسألة 94; المقنع: 106; المقنعة : 148; السرائر 1: 225; شرائع الإسلام 1: 91; قواعد الأحكام 1: 280; تذكرة الفقهاء 3: 274 مسألة 319; الذكرى 4: 12; مدارك الأحكام 3: 463; جامع المقاصد 2: 341; مستند الشيعة 7 : 28 .
(الصفحة 370)
ووجود الرواية من طرق الفريقين، فقد روي من طريق العامّة عن النبي(صلى الله عليه وآله) : «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنّما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»(1). وعن زيد بن أرقم قال: كنّا نتكلّم في الصلاة يتكلّم أحدنا صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت:
{وقوموا لله قانتين}(2)، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام(3). إنّما الإشكال والكلام في تعيين الموضوع.
فنقول: إنّ القدر المتيقّن من ذلك ما إذا كان اللفظ أي الصوت الخارج من الفم المتكئ على مقطع من مقاطع الحروف مركّباً من حرفين فصاعداً، مع كونه موضوعاً بإزاء معنى مفيداً مفهماً، وأمّا إذا لم يكن كذلك بأن كان مركّباً من حرفين فصاعداً ولكن لم يكن مستعملاً، أو كان حرفاً واحداً سواء كان مفيداً موضوعاً كفعل الأمر من الأفعال المعتلّة الطرفين مثل (ع) و (ق)، أو لم يكن كذلك ففيه إشكال.
والمنسوب إلى المشهور البطلان في المركّب من حرفين مطلقاً، وفي المركّب من حرف واحد إذا كان مفيداً مستعملاً(4)، واستدلّ على ذلك بالاجماع على البطلان في هذه الصور، وعلى عدمه في غيرها، ولكنّ الظاهر أنّ ذلك مجرّد إدّعاء بلا بيّنة وبرهان، بل التتبع والتفحّص التامّ يقتضي خلافه، فإنّه لم يوجد في كلمات قدماء أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم، التعرّض لتحقيق الموضوع وأنّه بمَ يتحقق؟
نعم، ذكر الشيخ في كتاب المبسوط ـ الذي عرفت غير مرّة أنّه من الكتب
- (1) صحيح مسلم 3 : 18 ، ح537; سنن البيهقي 2: 249 ـ 250; مسند احمد 5: 447 ـ 448; وفيهما «ان صلاتنا هذه لا يصلح...» .
- (2) البقرة: 238 .
- (3) صحيح مسلم 5: 22 ح35; سنن النسائي 3: 19 ح1215.
- (4) الخلاف 1: 407; السرائر 1: 225; شرائع الاسلام 1: 91; قواعد الأحكام 1: 280; المنتهى 1: 309; تذكرة الفقهاء 3: 274; الذكرى 4: 13 ـ 14; جامع المقاصد2: 341; مستند الشيعة 7: 28.