(الصفحة 43)
مقابل الإكتفاء بالامتثال العلمي الاجمالي ، فيمن علم بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا على نحو الاجمال ، وأتى بهما جميعاً في مقام الامتثال ، مع التمكن من المراجعة إلى الأدلة ، واستنباط ما يكون واجباً بالخصوص عند زوال يوم الجمعة ، وكذا في الأقل والأكثر ، فيما إذا دار أمر الجزء الزائد بين أن يكون واجباً ، أو لغواً ، لا مستحبّاً .
فإنّ الظاهر أنّ الملاك فيهما واحد ، فإنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّ الامتثال هل يتحقّق بخصوص الأقل أو به مع ضمّ الجزء الزائد ، كما أنّ الآتي بصلاة الظهر لا يعلم أنّه يتحقّق بها الامتثال ، أو بصلاة الجمعة التي يأتي بها بعدها ، أو أتى بها قبلها ، فالتفصيل بين الصورتين ـ كما حكي عن بعض(1) ، حيث فرّق بين ما إذا كان الاحتياط مستلزماً للتكرار ، كما في المتبائنين فلا يجوز ، وبين ما إذا لم يكن مستلزماً له ، كما في الأقل والأكثر فيجوز ـ ممّا لم يعلم له وجه أصلا ، لما عرفت من أنّ الملاك فيهما واحد، هذا في الشبهة الحكمية .
وأمّا الشبهة الموضوعية فالحكم فيها أيضاً كذلك ، مثل ما إذا كان ثوبه الطاهر مشتبهاً بثوبه النجس مع تمكّنه من الصلاة في خصوص الثوب الطاهر ، إمّا لتمكّنه من الفحص والتمييز بينهما ، أو من غسل أحدهما والصلاة فيه ، أو كان له ثوب ثالث يتمكّن من الصلاة فيه .
فإنّه قد يقال بوجوب الامتثال العلميّ التفصيلي ، وعدم كفاية امتثال العلمي الاجمالي في جميع الصور ، نظراً إلى أنّ احتمال الأمر لا يكفي في مقام الامتثال ، مع التمكّن من الإتيان بما علم تعلّق الأمر به ، كما في المقام ، حيث إنّ المفروض هو صورة تمكّن المكلّف من الامتثال العلمي التفصيلي ، وإلاّ فالاكتفاء بالامتثال العلمي
- (1) السرائر 1: 185 ـ 186; وحكى عنه الشيخ الأنصاري في فرائد الاُصول مبحث القطع: 15.
(الصفحة 44)
الاجمالي ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف ، فالكلام إنما هو في صورة التمكّن منه ، ومعه لا يكفي الإتيان بداعي احتمال الأمر .
أقول : لا يخفى إنّ مسألة الإتيان بداعي احتمال الأمر لا ارتباط لها بالمقام أصلا ، فإنّه من الواضح أنّ الإتيان بالمأمور به فيما نحن فيه إنما هو بداعي الأمر المعلوم ثبوته ، والاجمال والاشتباه إنما حصل في ناحية المأمور به لا الأمر ، والإتيان بجميع الأطراف إنما هو لأجل تحصيل العلم بامتثال الأمر المعلوم المتعلّق إلى واحد منها معيناً في الواقع ، غير معيّن عند المكلّف .
وبالجملة : فالمكلّف إنما يقصد التقرب بما هو المأمور به واقعاً لا بكلّ واحد منها ، والمفروض تعلّق الأمر به يقيناً ، والإتيان بداعي احتمال الأمر انّما هو فيما لم يعلم بوجوده أصلا ، كما في جميع الشبهات البدوية الوجوبية ، وأمّا في مثل المقام ممّا علم بوجود الأمرفلاإشكال في أنّ الإتيان بجميع الأطراف إنماهو بداعي الأمر المعلوم.
بل يمكن أن يقال بأقوائية الداعي بالنسبة إلى المكلّف الذي يأتي بتمام الأطراف ، تحصيلا للعلم بتحقّق المأمور به ، لأنّه يتحمل في مقام الامتثال مشقّة كثيرة لكي يعلم بتحققه ، بخلاف المكلّف الذي لا يأتي إلاّ بما يكون هو المأمور به يقيناً كما هو واضح ، فالإشكال في الاكتفاء بالامتثال العلمي الاجمالي من هذه الجهة ، الراجعة إلى الاخلال بقصد القربة المعتبر في العبادة ممّا لاينبغي .
نعم يمكن أن يقال بأنّه يعتبر في العبادة زائداً على قصد القربة ، أن يعلم المكلّف تفصيلا; بأنّ المقرّب هل هذا الذي يأتي به أولاً ، أو الذي يأتي به ثانياً؟ ولكن هذا ادعاء بلا بينة وبرهان .
نعم استظهر الشيخ(رحمه الله) في رسالة القطع ، بل حكى عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط ، إذا توقّف على تكرار العبادة(1) ، واستظهر من
(الصفحة 45)
المحكي عن الحلّي في مسألة الصلاة في الثوبين المشتبهين ، عدم جواز التكرار للاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي(1) ، ومرجعه إلى سقوط شرطية الستر مع اشتباه الثوب الطاهر بالنجس .
ويظهر أيضاً ممّا ذكره في رسالة الاشتغال(2) ، إنّه قد يقال بعدم جواز الاحتياط ; للزوم التشريع ، وذلك لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع باحرازه في الواجب الواقعي ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقربة موجب للتشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي ، فيكون محرّماً ، فالاحتياط ممّا لا يمكن في العبادات ، وإنما يمكن في غيرها ، لعدم اعتبار قصد القربة فيها المستلزم لإتيان غير العبادة بوصف أنّها عبادة كما عرفت .
وأما الاجماع فلا حجية له في نظائر المسألة ، وقد حقّقنا في الاُصول(3) أنّ حجيّته منحصرة بما إذا كان معقده من المسائل الأصلية المدونة في الكتب(4)الموضوعة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة الطاهرة(عليهم السلام) ، بعين ألفاظها الصادرة عنهم ، وذلك لكشفه عن وجود نصّ معتبر لم يصل إلينا ، فحجّيته تكون من حيث الكشف الراجع إلى حجية المكشوف، لا الكاشف .
وأمّا المسائل التفريعية غير المذكورة في تلك الكتب ، بل الأصحاب ذكروها في كتبهم المعدّة لمثلها ، فلا يكون الاجماع فيها حجّة ، خصوصاً في مثل المسألة التي لم يتعرّضها إلاّ قليل من الأصحاب .
- (1) السرائر 1 : 185 ـ 186 ، أحكام النجاسات.
- (2) فرائد الاُصول : 266 .
- (3) نهاية الاُصول: 538 .
- (4) كالمقنعة والنهاية والمقنع والإنتصار والغنية والوسيلة.
(الصفحة 46)
وأمّا التشريع فلا يخفى عدم استلزام الاحتياط له ، لأنّ اعتبار قصد التقرب في العبادة لا يقتضي قصده في كلّ من المحتملين ، حتّى يلزم التشريع ، بل اللاّزم الإتيان بما هو الواجب في الواقع بوصف أنّها عبادة مقرّبة ، فيقصد في كلّ منهما حصول التقرب به أو بصاحبه الذي يأتي به بعده ، أو أتى به قبله ، وهذا واضح جدّاً .
فتحصّل من جميع ما ذكرنا جواز الاكتفاء بالاحتياط ، ولو مع التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ، بلا فرق بين ما إذا كان متوقّفاً على التكرار ، كما في المتبائنين ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، كما في الأقل والأكثر ، وقد عرفت أيضاً أنّ القائل بالمنع في الأول ، يلزمه القول بالمنع في الثاني أيضاً ، في خصوص ما إذا كان أمر الجزء الزائد مردّداً بين أن يكون واجباً ، أو لغواً ، لا مستحبّاً كما لايخفى .
العدول إلى صلاة أخرى
قد عرفت أنّه كما يجب قصد عنوان الصلاة ، كذلك يجب قصد الأنواع المندرجة تحتها من الظهرية والعصرية وغيرهما ، من العناوين التي لا ينصرف العمل المشترك من حيث الصورة إلاّ بالقصد إلى بعضها، وحينئذ فيقع الكلام في أنّه إذا شرع في الصلاة مع قصد بعض تلك العناوين ، فهل يجوز له العدول في الأثناء إلى بعضها الآخر .
كما إذا شرع فيها بقصد صلاة العصر ، ثم التفت في الأثناء إلى أنّه لم يأت بصلاة الظهر بعد ، فعدل إليها ، أو العكس .
وكما إذا شرع في نافلة الفجر بقصدها ، ثم عدل إلى فريضته ، أو العكس .
وكما إذا شرع في الصلاة بقصد عنوان الظهر في وقته ، ثم التفت إلى أنّه فاتت منه صلاة الغداة فعدل منها إليها .
(الصفحة 47)
فإنّه لا فرق بين أن يكون كلّ من المعدول عنه والمعدول إليه في وقته ، بأن كانا أدائيين ، أو كان واحد منهما قضاءً ، بل يظهر من كلمات الأصحاب(1) كون كلّ منهما قضاءً ، كما إذا شرع في قضاء العصر ، ثم التفت إلى أنّه فات منه الظهر أيضاً ، فعدل منه إليه .
ولا يخفى أنّ مقتضى الأصل والقاعدة عدم جواز العدول ، بحيث لو عدل تقع الصلاة فاسدة ، ولا تصلح لأن تصير مصداقاً للمعدول عنه ، ولا للمعدول إليه ، امّا عدم وقوعها مصداقاً للمعدول عنه ، فلأنّه تعتبر استدامة النية إلى آخر الصلاة ، فقصد عنوان الظهرية لا يؤثر في صيرورة الصلاة صلاة الظهر ، إلاّ إذا كان باقياً إلى الفراغ منها .
وأمّا عدم وقوعها مصداقاً للمعدول إليه ، فلأنّ القصد المحقّق لبعض العناوين ، لا يؤثر في تحقّقه بحيث يوجب تخصّص العمل بتلك الخصوصية ، إلاّ إذا كان ثابتاً حين الشروع في العمل ، وتأثير القصد الحادث في الأثناء في الأجزاء المأتيّ بها قبله ، بحيث صار موجباً لصيرورتها أجزاءً للمعدول إليه .
مضافاً إلى أنّه خلاف الأصل ـ لأنّ الأصل عدم التأثير ـ ومخالف لحكم العقل أيضاً ، فإنّه كيف يمكن أن يؤثر الشيء الحادث فيما يكون ثابتاً قبل حدوثه كما هو واضح ، ووقوعها مصداقاً لكلّ من المعدول عنه والمعدول إليه مستلزم لكلا المحذورين ، مضافاً إلى أنّه كيف يمكن أن تقع صلاة واحدة مصداقاً لأزيد من عنوان واحد ، كما هو أظهر من أن يخفى؟! .
وممّا ذكرنا ـ جواز العدول مخالف للأصل والقاعدة بل لحكم العقل ـ يظهر إنّه
- (1) المعتبر 2: 409; تذكرة الفقهاء 2: 361; جامع المقاصد 2: 495; مفتاح الكرامة 2: 47، وج3: 399; جواهر الكلام 13: 106; كشف اللثام 4: 438 .