(الصفحة 38)
فبعض الأخبار يدلّ على أنّ منشأه قلّة العقل(1) ، وبعضها الآخر على أنّ تأثيره يسبّب الانحطاط في النفس ، وصيرورتها ذات حزازة ومنقصة ، بمرتبة يكون الإتيان بالعمل السوء ، ثم الندم عليه أولى من العمل الحسن العارض له هذا الأمر(2) . والطائفة الثالثة تدلّ على أنّ من فضل الله على العبد ، أن يحول بينه وبين العمل الحسن بتسليطه النعاس عليه(3) ، لأجل عدم اعجابه بذلك العمل ، على تقدير الإتيان به .
وبالجملة : فلا إشكال في كونه من الصفات المذمومة الكاشفة عن خسّة النفس ، وانحطاط درجتها ، ولكنّ الظاهر عدم الدليل على بطلان الصلاة به ، وقد يتوهّم دلالة بعض الروايات عليه ، وهو ما رواه يونس بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خالياً فيدخله العجب فقال : «إذا كان أوّل صلاته بنية يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخش الشيطان»(4) . فإنّ ظاهرها أنّه لو دخله العجب في أوّل الصلاة لكان مانعاً عن صحتها ، لمنافاته مع النية التي أريد بها الرب .
هذا ، ولا يخفى أنّ هذا المعنى يستلزم البطلان ، ولو دخله العجب في الأثناء ، فإنّه كما يجب الشروع في العمل بتلك النية ، كذلك تجب استدامتها إلى الفراغ منه ، ولا يجوز الإتيان ببعض الأجزاء بنية اُخرى ، فينافي ذلك مع الحكم بوجوب المضي وعدم كون الداخل مضرّاً بصحتها .
- (1) الكافي 1 : 27 ح31 .
- (2) الكافي 2 : 313 ح4 .
- (3) الوسائل 1 : 98 . أبواب مقدّمة العبادات ب23 ح1 و4 و6 .
- (4) الكافي 3 : 268 ح3; الوسائل 1 : 107 . أبواب مقدّمة العبادات ب24 ح3 .
(الصفحة 39)
فمعنى الرواية: إنّه لو كان الإتيان بالصلاة بداعي الرب فلا يضرّه العجب ، وهذا راجع إلى أنّه لو كان شرط صحتها موجوداً حين الشروع فلا ينافيه ذلك ، لا أنّ مجرّد الشروع بنية الرب يكفي في صحة الصلاة ، ولو عرض في أثنائها بعض الاُمور المنافية لتلك النية .
كيف وقد عرفت أنّ العجب ليس داعياً إلى العمل ، وإلاّ لأضرّ بصحة الصلاة ، ولو دخل في الأثناء كما لا يخفى . وفي الرواية إشعار بما ذكرنا ، من أنّ المعتبر في صحة العبادة ليس خصوص قصد الامتثال ، ولا قصد التقرب ، بل المعتبر هو الذي يقتضي طبع العبادة والعابد ، ووقوعها على ذلك النحو كما عرفت .
ثم إنّه لو ضمّ إلى القصد المعتبر في العبادة بعض الضمائم الراجحة أو المباحة ، كقصد الترغيب ، أو التعليم ، أو غيرهما ، فلا إشكال في عدم بطلان العبادة في الضمائم المباحة ، لو كانت تابعة لقصد الاخلاص والقربة ، بمعنى أنّ الداعي إلى الإتيان بالعبادة إنما هو الاخلاص والقربة ، بحيث لم يكن لتلك الضمائم مدخلية أصلا .
كما أنّه لا إشكال في بطلان العبادة فيما لو كان قصد التقرب تابعاً ، وكان الداعي المحرّك للمكلّف إلى الإتيان بها هي نفس تلك الضمائم ، كما إذا توضّأ بقصد التبرّد أو التسخن مثلا ، بحيث لو لم يكن له هذا القصد لم يتوضأ أصلا ، وكذا لا إشكال في بطلانها فيما إذا كان كلّ من الداعيين قاصراً في مقام التأثير وناقصاً عن التحريك ، بحيث لو لم يكن في البين إلاّ واحد منهما لم يتحقّق منه العمل أصلا .
وجه البطلان ما عرفت من أنّ المعتبر في العبادة أن يكون الداعي والمحرّك إلى الإتيان بها هو التقرب ونظائره ، بحيث لا يكون للأمور الدنيوية مدخلية فيها
(الصفحة 40)
أصلا ، إنما الإشكال والخلاف فيما إذا كان كلّ من الداعيين مستقلاً في التأثير ، بحيث يؤثر كلّ منهما ولو مع عدم الآخر .
غاية الأمر إنّه حيث يكون اجتماع العلّتين وتواردهما على معلول واحد شخصيّ من المحالات العقلية ، فلا محالة يكون التأثير مستنداً إلى كليهما ، فالمحكيّ عن كاشف الغطاء أنّه استقرب الصحة في هذه الصورة(1) .
قال الشيخ(رحمه الله) في توجيهه : ولعلّه لدعوى صدق الامتثال حينئذ وجواز استناد الفعل إلى داعي الأمر ، لأنّ وجود الداعي المباح وعدمه حينئذ على السواء ، نعم يجوز استناده إلى الداعي المباح أيضاً ، لكن القادح عدم جواز الاستناد إلى الأمر ، لا جواز الاستناد إلى غيره ، ألا ترى إنّه لو أمر المولى بشيء وأمر الوالد بذلك الشيء ، فأتى العبد مريداً لامتثالهما ـ بحيث يكون كلّ منهما كافياً في بعثه لو انفرد ـ عدّ ممتثلا لهما .
ثم أورد عليه بما حاصله : منع جواز استناد الفعل إلى كلّ منهما ، لامتناع وحدة الأثر وتعدد المؤثر ، ولا إلى أحدهما للزوم الترجيح بلا مرجح ، بل هو مستند إلى المجموع ، والمفروض أنّ ظاهر أدلة اعتبار القربة ينفي مدخلية شيء آخر في العمل ، وأمّا المثال المذكور فيمنع فيه صدق امتثال كلّ من المولى والأب .
نعم لمّا اجتمع الأمران في واحد شخصيّ لا يمكن التعدد فيه ، لم يكن بدّ من الإتيان به مريداً لموافقة الأمرين ، وهذا غاية ما يمكن في هذا الفرض من موافقة الأمر ، بخلاف المقام ، فإنّه يمكن تخليص الداعي لموافقة الأمر ، وتحصيل التبرّد بغير وضوء إن أمكن ، وإلاّ تضعيف لداعي التبرّد ، وتقوية لداعي الاخلاص ، فإنّ الباعثين المستقلّين يمكن ملاحظة أحدهما من دون الآخر ، كما لو أمر الشارع بانقاذ ولده الغريق ، فإنّه قد ينقذه لمحبة الولد محضاً ، من غير ملاحظة أمر الشارع ، وقد
(الصفحة 41)
يكون الأمر بالعكس(1) ، انتهى .
واعترض عليه في المصباح بما ملخّصه : إنّ تضعيف الداعي النفساني قد لا يكون ميسوراً حتى يصح تعلّق التكليف به ، ألا ترى امكان تكليف الأب في المثال المذكور بوجوب أن لا يكون انقاذ الابن من حيث هو مقصوداً له ، نعم لو كان القصد المؤثر في الفعل مجرّد الملاحظة أو الاخطار الصوري لكان ذلك ميسوراً لكلّ أحد مطلقاً ، وإذ ليس فليس .
فحينئذ إمّا أن يلتزم بارتفاع وجوب الوضوء وانتقال فرضه إلى التيمّم ، أو يقال بكفاية إيجاد الفعل بداعي القربة ، مع انضمامها إلى إرادة حصول أمر مباح ، لكونه هو القدر الممكن في مقام الاطاعة ، والأول مع مخالفته لظاهر الأدلة; بديهي الفساد ولا يلتزم به أحد، فيتعيّن الثاني(2) . انتهى .
أقول : ويمكن الفرق بين الداعي وبين العلّة الغائية ، فإنّ مع تعددها لا يمكن استناد التأثير إلى واحد منها دون الآخر بعد اشتراكها فيه ، وهذا بخلاف الداعي ، فإنّه يمكن للفاعل إيجاد الفعل ببعض الدواعي بالخصوص ، وإن كان في نفسه بعض الدواعي الاُخر ، الصالح للتحريك والدعوة فتأمّل .
هذا كلّه في الضمائم المباحة ، وأمّا الضمائم الراجحة ، فحكمها حكم الضمائم المباحة ، فتبطل العبادة مع تبعية قصد القربة ، أو كون الداعي هو المجموع ، وفي صورة استقلالهما اشكال ، والأحوط وجوب الإعادة والله أعلم .
اعتبار قصد التعيين وبيان المراد منه
يظهر من بعض الأصحاب اعتبار قصد التعيين في العبادات زائداً على قصد
- (1) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري بحث الوضوء: 95 .
- (2) مصباح الفقيه، كتاب الطهارة: 116 .
(الصفحة 42)
القربة(1) ، بمعنى أنّه يجب أن ينوي خصوص الأمر المتعلّق بالمأتي به ، فلو أمر المولى بفردين من طبيعة واحدة مرتين ، كما إذا أمر يوم السبت مثلا بتحرير رقبة ، ويوم الخميس أيضاً بذلك ، وعلم التعدد من الخارج لا التأكيد ، فيجب عند الاعتاق أن ينوي خصوص الأمر الصادر يوم السبت ، أو يوم الخميس ، ولا يكفي مجرّد الاعتاق بداعي مطلق الأمر ، وطبيعته من غير تعيين الخصوصيات .
وأنت خبير بأنّ ذلك مجرّد ادعاء بلا بينة ، إذ لا يعتبر في العبادة إلاّ أن يكون الداعي إلى إتيانها ، هو الذي يقتضي طبع العبادة والعابد والإتيان بها بذلك النحو . وبعبارة اُخرى أن لا يكون الداعي إلى إتيانها هي الأغراض الدنيوية .
وأمّا خصوصية الأمر فلا دليل عليه ، نعم لو كان المراد من قصد التعيين ما ذكرنا من قصد العنوان الذي لا ينصرف العمل المشترك من حيث الصورة بين عنوانين أو أزيد إلى واحد معيّن منهما أو منها إلاّ بمجرّده كعنوان الصلاة ، وكذا الأنواع الواقعة تحتها كالظهر والعصر وغيرهما ، فلا إشكال في اعتباره كما عرفت سابقاً .
ولكن لا يخفى أنّ ذلك لا يتوقّف على تعدد الأمر ، بل لو كان هنا أمر واحد متعلّق بصلاة الظهر مثلا ، يجب الإتيان بها بقصد ذلك العنوان ، لأنّ صيرورتها كذلك تتوقّف على القصد ، بل قد عرفت عدم اختصاصه بالعبادات لاعتباره في بعض التوصليات أيضاً ، كما عرفت مثاله فيما تقدّم ، بل لا يختصّ بالأحكام التكليفية ، لاعتباره في المعاملات أيضاً كما مرّ .
ثم إنّه قد يطلق قصد التعيين ويراد به الامتثال على طريق العلم التفصيلي في
- (1) مستند الشيعة 5 : 11; كشف اللثام 3 : 408 ـ 409 ; جواهر الكلام 9 : 156; تذكرة الفقهاء 3 : 101; الحدائق 8 : 13 ـ 18; مدارك الاحكام 3 : 309 .