(الصفحة 449)
ساه، بل يتوجّه إليه بما أنّ سهوه لم يصر سبباً لترك جزء معتبر في الصلاة مطلقاً عمداً وسهواً، فصحّة صلاته إنّما هي لتماميّتها وعدم كونها فاقدة للأجزاء المعتبرة فيها، وخلوّها عن بعض الأجزاء لا يضرّ بعد كون اعتباره مختصّاً بحال العمد.
وبالجملة: كما أنّ الحكم بوجوب الإعادة فيما لو سهى عن جزء ركنيٍّ يتوجّه إلى الساهي لا بما أنّه ساه، بل بما أنّه ترك ما هو معتبر فيها مطلقاً، كذلك الحكم بعدم وجوب الإعادة فيما لو سهى عن جزء غير ركنيّ يتوجّه إليه بما أنّه لم يترك شيئاً من الأجزاء المعتبرة مطلقاً وكانت صلاته صحيحة تامّة، وخلوّها عن الأجزاء المعتبرة في خصوص حال العمد لا يقدح في صحّتها بعد عدم كون تركها مستنداً إلى التعمّد.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الأخبار النافية للسهو في الاوّلتين ظاهرة في نفي الأحكام المترتّبة على السهو في حاله، والسهو الذي يترتّب عليه الحكم في حاله هو السهو المستتبع للشكّ، لما عرفت من أنّ الساهي بالسهو المصطلح لا يكون الحكم متوجّهاً إليه بما أنّه ساه، لا في حال سهوه ولا بعد زواله وانعدامه، فلا مجال للمناقشة فيما ذكرنا.
نعم، يبقى الكلام بعد ذلك في أنّ الأخبار هل تختص بخصوص الشكّ في عدد الركعتين الأوّلتين أو يعمّ ذلك؟ والشكّ في أجزائهما كما عرفت أنّه المحكيّ عن الشيخ(قدس سره)والظاهر هو الاحتمال الثاني، لأنّ الأخبار بظاهرها تعمّ الصورتين، وليس فيها ما يدلّ أو يشعر بالاختصاص بالصورة الاُولى.
لكن تقع المعارضة حينئذ بينها وبين الأخبار الواردة في الشكّ في الأجزاء الدالة على عدم الاعتناء بالشك مع تجاوز المحل، ووجوب الرجوع والتدارك مع عدم التجاوز، والمعارضة إنّما هي بالعموم والخصوص من وجه، لأنّ هذه الأخبار تشمل الشكّ في عدد الركعتين وفي الأجزاء معاً، وتلك الأخبار تشمل الشكّ في الأجزاء مطلقاً سواء كان في الركعتين الأوّلتين أو في الأخيرتين.
(الصفحة 450)
ومورد الاجتماع هو الشكّ في الأجزاء في خصوص الركعتين الأوّلتين، فهذه الأخبار ظاهرة في البطلان بمجرّد الشكّ فيها، وتلك ظاهرة في التفصيل المتقدّم، ولكن حيث يكون في تلك الأخبار، روايات صريحة في جريان هذا التفصيل في الركعتين الأوّلتين، فلابدّ من تقديمها وتقييد الأخبار النافية للسهو في الأوّلتين بما إذا شكّ في عددهما لا في أجزائهما.
ومن جملة الروايات الدالة صريحاً على ذلك، رواية زرارة قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال: يمضي. قلت: رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قال: يمضي ـ إلى أن قال: ـ ثم قال: «يازرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء»(1).
وبالجملة: لابدّ من تقييد الأخبار النافية للسهو في الأوّلتين بما إذا شكّ في عددهما لما عرفت من نصوصيّة كثير من تلك الأخبار بالنسبة إلى الركعتين الأوّلتين.
ودعوى أنّه يمكن الجمع بين الطائفتين بحمل الأخبار النافية للسهو بعد عدم رفع اليد عن ظاهرها والالتزام بشمولها للشك في أجزاء الركعتين الأوّلتين أيضاً، على الشكّ في الأجزاء قبل تجاوز المحل، وحمل الأخبار الواردة في الشكّ; على الشكّ بعد التجاوز، ومقتضاه حينئذ الالتزام بأنّ الشكّ في الأوّلتين قبل التجاوز يوجب البطلان وبعد التجاوز لا يعتنى به.
مدفوعة مضافاً إلى خلوّها عن الشاهد وعدم كونه من الجمع المقبول عند العقلاء بأنّه قول ثالث مخالف للشيخ والمشهور معاً كما لا يخفى.
فالإنصاف أنّ ما ذكرنا في مقام الجمع هو الموافق للذوق السليم، ومقتضاه
- (1) التهذيب 2: 352 ح 1459 ; الوسائل 8 : 237. أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب23 ح1.
(الصفحة 451)
اختصاص مورد الأخبار النافية للسهو في الأوّلتين بخصوص الشكّ في عددهما فيصير مدلولها أنّ الشكّ في الأوّلتين في عددهما يوجب الإعادة، فإنّ اللاّزم باعتبار كونهما فرض الله إحراز سلامتهما، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون متلوّ كلمة ـ في ـ وهو الركعتان الاُولتان، ظرفاً لنفس صفة الشكّ بحيث كانت هذه الصفة واقعة فيهما، أو تكون الركعتان الاُولتان متعلّقتين للشكّ، بحيث تعلق الشكّ بهما وصارتا مشكوكتين، لأنّه على التقدير الأول أيضاً يكون متعلّق الشكّ هو الركعتان الاُولتان كما في التقدير الثاني.
ولكن ذلك كلّه إنّما هو بعد عدم تماميّة الركعة الثانية، وإلاّ فلو فرض تماميّتها بما ستعرف تحقيقه لا يكون الشكّ فيهما حينئذ، بل الشكّ في تحقق الركعة الثالثة وعدمه، ضرورة مفروغيّة تحقق الأوّلتين، فإطلاق الشكّ بين الاثنتين والثلاث إنّما هو فيما لو فرغ عن الإثنتين قطعاً، وشكّ في تحقق الثالثة وعدمه.
ولذا اعترضنا في حاشية العروة على القول بأنّه يجب في الشكّ بين الأربع والخمس في حال القيام الجلوس لينقلب شكّه إلى الشكّ بين الثلاث والأربع فيعمل عمله(1)، بأنّه لم يدلّ دليل على وجوب هذا الجلوس ليتحقق الانقلاب، بل ذكرنا أنّ الوجه في ذلك هو أنّ هذا الشاك حيث يكون في حال القيام وهو ابتداء الركعة فلم يحرز الركعة الرابعة بعد، بل هو بالنسبة إلى الركعات التامّة في ذلك الحال شاك بين الثلاث والأربع، لأنّه لا يدري ثلاثاً صلّى أم أربعاً.
فاللاّزم بمقتضى وجوب البناء على الأكثر الذي مرجعه في المقام إلى لزوم البناء عملاً على أنّه صلّى أربعاً، هدم القيام لكونه زيادة، كما إذا علم مثلاً بكونه صلّى أربعاً والقيام زيادة، فمنشأ هدم القيام ما ذكرنا لا ما ذكروه، فإنّه يرد عليهم أنّه لا موجب له ولا مصحّح كما هو واضح.
- (1) العروة الوثقى في احكام الشكّ : 289، فصل في الشك في الركعات مسألة 2، الشكّ بين الأربع والخمس.
(الصفحة 452)
وبالجملة: فلا إشكال في أنّ الشكّ في الأوّلتين إنّما يتحقق قبل إكمالها، وإلاّ فبعد الإكمال لا يكون متعلّق الشكّ إلاّ ركعة أُخرى غيرهما .
بما يتحقّق إكمال الركعتين؟
يقع الكلام فيما به يتحقق إكمال الركعتين وفيه وجوه أربعة:
أحدها: أنّه يتحقق برفع الرأس من السجدة الأخيرة من الركعة الثانية، وقد استظهر ذلك من المشهور(1).
ثانيها: تحقق الإكمال بالركوع من تلك الركعة، وقد نقله في محكيّ المصابيح عن السيد ابن طاووس في البشرى، وحكي عن بعض آخر أيضاً(2).
ثالثها: الإكتفاءبوضع الجبهة في السجدة الثانية وإن لم يشتغل بالذكر. ومال إليه في ظاهر الذكرى حيث قال في محكيه: لم أستبعد صحته، لحصول مسمّى الركعة(3).
رابعها: الاكتفاء بإكمال الذكر الواجب في السجدة الثانية، وإن لم يرفع رأسه منها، واختاره الشهيد الثاني في محكيّ الروض والروضة والمسالك، ونسب إلى الشهيد الأوّل أيضاً(4). وعن بعض متأخّري المتأخّرين، الالتزام بكفاية مسمّى السجود الذي يتحقق بالفراغ من السجدة الاُولى(5). واحتمل بعض الأعاظم من
- (1) مدارك الأحكام 4 : 257 ; جواهر الكلام 12: 337 .
- (2) جواهر الكلام 12: 339.
- (3) الذكرى 4 : 81; جواهر الكلام 12: 340.
- (4) روض الجنان : 351; الروضة البهيّة 1: 329; مسالك الأفهام 1 : 294; الذكرى 4: 81 ; جواهر الكلام 12: 340; مدارك الاحكام 4 : 257 .
- (5) مجمع الفائدة والبرهان 3 : 179.
(الصفحة 453)
المعاصرين توقّف تحقق الإكمال على الفراغ من التشهد لو لم يكن مخالفاً للإجماع(1).
وكيف كان، فاعلم أنّ هذه المسألة لم تكن معنونة في كتب قدماء الأصحاب رضوان الله عليهم، والظاهر أنّ أوّل من تعرّض لها هو السيد ابن طاووس الذي كان يعيش في النصف الثاني من القرن السادس، فإنّه قد تعرّض لها في كتاب البشرى على ما حكي عنه.
وحينئذ فدعوى الاجماع على شيء من الوجوه المتقدّمة أو ردّ شيء منها بمخالفته للإجماع ممّا لا وجه لها أصلاً، لكون المسألة مستحدثة، ولم يكن في الأزمنة السالفة منها ذكر ولا أثر، فاللازم ملاحظة نفس الوجوه.
فنقول: منشأ القول بتحقق الإكمال بالركوع هو دعوى كون المراد بالركعة هو الركوع الواحد، فإذا تحقق الركوع في الركعتين يصدق إكمالهما، ولكن قد عرفت أنّ المتبادر عن المتشرّعة هو مجموع القراءة والركوع والسجود، وقد استعملت الركعة بهذا المعنى في كثير من النصوص الواردة في الأبواب المتفرقة، والمتحصل من ملاحظة مجموعها أنّ الركعة حقيقة شرعية في المجموع.
ومنشأ القول بتحقّقه بمسمّى السجود هو ملاحظة أنّ عدم تحمّل الركعتين الأوّلتين للشك والسهو إنّما هو من جهة كونهما فرض الله، ومن المعلوم أنّ فرض الله هو طبيعة السجود لأنّ الإخلال بالسجدة الواحدة لا يوجب الإعادة، بل اللاّزم قضاؤها بعد الصلاة.
ويرد عليه أنّ عدم إيجاب الإخلال بالسجدة الواحدة للإعادة لا يقتضي خروج السجدة الثانية من الركعة، فإنّ الاخلال بالقراءة مثلاً أيضاً يكون كذلك مع وضوح كونها من أجزاء الركعة، بناءً على ما عرفت من أنّ المراد منها ليس هو الركوع الواحد بل المجموع المركّب منه، ومن القراءة والسجدتين.
- (1) كتاب الصلاة للمحقق الحائري: 355.