(الصفحة 490)
صلاة الاحتياط جزءً حقيقة ومتمّمة واقعاً . هذا ما تقتضيه النصوص .
وأمّا الفتاوى فالظاهر أنّ فتاوى القدماء إلى زمان ابن إدريس كانت موافقة لما ذكرنا(1) ، لأنّهم عبّروا في كتبهم الفقهية بوجوب المبادرة إلى الإتيان بصلاة الاحتياط من غير تعرض لكونها هل هي صلاة مستقلّة أو جزء ، وذلك يدلّ على كون المتسالم عليه بينهم هو عدم كونها صلاة مستقلّة ، وأنّ المتبادر والمنسبق إلى أذهانهم من النصوص الواردة هو ما يدلّ عليه ظاهرها من كونها تمام ما نقص على تقدير النقص .
وبالجملة : فعدم تعرّضهم لهذه الجهة يكشف عن التسالم على ما هو ظاهر الروايات وأمّا ابن إدريس فقد ذهب إلى كونها صلاة مستقلّة بحيالها ، ولا يضرّ تخلّل الحدث بينها وبين الصلاة ، وهذا الفتوى منه صار منشأ لثبوت الاختلاف بين من تأخّر عنه من الفقهاء ، فبعضهم رجّح ما اخترناه ، وبعضهم تبع ابن إدريس(2) .
نعم ، قال فخر المحقّقين في محكيّ الإيضاح : إنّ في المسألة أقوالاً ثلاثة :
أحدها : إنّه صلاة برأسه ،
وثانيها : إنّه تمام ،
وثالثها : إنّه تمام من وجه وصلاة منفردة من وجه ، ثم قال : وهو اختيار والدي المصنّف ذكره لي مذاكرة جمعاً بين الأدلة ، وهو الأقوى(3) .
ولكنّ لم يعلم المراد من القول الثالث ، فانّه إن كان المراد أنّه تمام على تقدير نقص الصلاة وصلاة منفردة على تقدير تماميتها بحيث كان مرجعه إلى ما ذكر في الروايات من كونها تماماً على تقدير النقص ونافلة على تقدير عدمه ، فيرد عليه
- (1) المقنعة : 146 الانتصار : 156; النهاية : 91 ; الخلاف 1 : 445 مسألة 192; الكافي في الفقه : 148; المهذّب 1 : 155; الوسيلة : 102; المراسم : 89 .
- (2) السرائر1 : 256; الارشاد 1 : 270; التحرير 1 : 50; مستند الشيعة 7 : 255 .
- (3) إيضاح الفوائد 1 : 142 .
(الصفحة 491)
عدم المغايرة بينه وبين القول الثاني ، لوضوح أنّ الحكم بكونها متمّمة إنّما هو فيما إذا كانت الصلاة ناقصة ، لأنّه لا معنى للحكم بأنّ الاحتياط تمام مع فرض عدم نقصانها كما هو واضح .
وإن كان المراد أنّ الاحتياط في خصوص صورة النقص تمام من وجه وصلاة منفردة من وجه فلا معنى له أصلاً ، لأنّ الحكم بكونه تماماً إنّما هو لأنّ وظيفة المصلّي مع الشكّ في عدد الركعة لم ينقلب من الإتيان بالصلاة المشتملة على أربع ركعات ، بل لابدّ من الإتيان بها ، إمّا متّصلة وإمّا منفصلة ، ولا يلائم ذلك مع الحكم بكونه صلاة منفردة أيضاً من وجه كما لا يخفى .
فانقدح أنّ الأقوى ـ كما هو مقتضى النصوص وفتاوى القدماء ـ كون صلاة الاحتياط جزءً وتماماً ، وتخلّل الحدث بينها وبين الصلاة إنّما هو كتخلّله بين شيء من أجزائهما .
ثانيها : الشكّ بين الإثنتين والثلاث والأربع
المشهور أنّه يجب عليه البناء على الأكثر وإتمام الصلاة ثم الإتيان بركعتين قائماً وركعتين جالساً(1) ، وحكي عن الصدوق أنّه حكم بثبوت التخيير بينه وبين الإتيان بركعة قائماً وركعتين جالساً(2) .
أمّا الروايات الواردة :
فمنها : ما رواه الصدوق بإسناده عن عبدالرحمن بن الحجاج ، عن
- (1) المقنعة : 146; الانتصار : 156; جمل العلم والعمل (رسائل المرتضى) 3 : 37; المبسوط 1 : 123; الخلاف 1 : 445; السرائر 1 : 254; المعتبر 2 : 393; تذكرة الفقهاء 3 : 343 مسألة 356; الدروس 1 : 203; مسالك الأفهام 1 : 294 .
- (2) الفقيه 1 : 231 ذح1021; وحكاه عن والد الصدوق أيضاً في مختلف الشيعة 2 : 384 .
(الصفحة 492)
أبي إبراهيم(عليه السلام) قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : رجل لا يدري أثنتين صلّى أم ثلاثاً أم أربعاً؟ فقال : «يصلّي ركعة من قيام ثم يسلّم ثم يصلّي ركعتين وهو جالس»(1) .
ومنها : مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل صلّى فلم يدر أثتنين صلّى أم ثلاثاً أم أربعاً؟ قال : «يقوم فيصلّي ركعتين من قيام ويسلّم ، ثم يصلّي ركعتين من جلوس ويسلّم ، فإن كانت أربع ركعات كانت الركعتان نافلة ، وإلاّ تمّت الأربع»(2) .
وعن الفقه الرضوي قال : «وإن شككت فلم تدر أثنتين صلّيت أم ثلاثاً أم أربعاً؟ فصلّ ركعة من قيام وركعتين من جلوس»(3) .
ومستند الاكتفاء بركعة واحدة قائماً وركعتين جالساً إن كان هو الفقه الرضوي فيرد عليه عدم اعتباره كما مرّ مراراً ، وإن كان هو صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج فيرد عليه ـ مضافاً إلى غرابة سنده ، لأنّ الظاهر ثبوت كلمة «(عليه السلام)» بعد أبي إبراهيم كما في نسختين من الفقيه المصححتين اللّتين أجاز رواية إحداهما المولى ميرزا الشيرواني للعلاّمة المجلسي ورواية أخراهما العلاّمة المجلسي لتلميذه ـ أنّ في بعض النسخ بدل ركعة ركعتين ، وهذا المقدار يكفي في عدم تماميّة الاستدلال ، ولايحتاج إلى استظهار كون الصادر كلمة ـ ركعتين ـ كما في مفتاح الكرامة(4) نظراً إلى أنّ الصدوق قال بعد ذلك : «وقد روي أنّه يصلّي ركعة من قيام وركعتين وهو جالس»(5) .
هذا ، والظاهر أنّه على تقدير صحّة نسخة «ركعة من قيام» يتم الاستدلال ،
- (1) الفقيه 1 : 230 ح1021; الوسائل 8 : 222 .أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب13 ح1 .
- (2) الكافي 3 : 353 ح6; التهذيب 2 : 187 ح742; الوسائل 8 : 223 .أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب13 ح4 .
- (3) فقه الرضا (عليه السلام)
- : 118; مستدرك الوسائل 6 : 411 .أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب12 ح1 .
- (4) مفتاح الكرامة 3 : 354 .
- (5) الفقيه 1 : 231 ح 1024; الوسائل 8 : 223 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب13 ح3 .
(الصفحة 493)
ولا مجال لما ذكره في المفتاح ، وذلك لأنّ الصدوق نقل بين هذه العبارة وبين رواية عبدالرحمن بن الحجاج روايتين :
1 ـ رواية عليّ بن أبي حمزة ، عن رجل صالح(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يشكّ فلا يدري أواحدة صلّى أو إثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً تلتبس عليه صلاته؟ قال : كلّ ذا؟ قال : قلت : نعم قال : «فليمض في صلاته ويتعوّذ بالله من الشيطان ، فإنّه يوشكّ أن يذهب عنه»(1) .
2 ـ ما رواه سهل بن اليسع في ذلك عن الرضا(عليه السلام) أنّه قال : «يبني على يقينه ويسجد سجدتي السهو بعد التسليم ويتشهّد تشهّداً خفيفاً(2) ، ثم قال الصدوق : وقد روي أنّه يصلّي . . .» . ولا يعلم أنّ المراد من مرجع الضمير في قوله «يصلّي» هو الشاك بين الإثنتين والثلاث والأربع ، مضافاً إلى أنّ في بعض النسخ أيضاً بدل ـ ركعة من قيام ـ في عبارة الصدوق هو الركعتان ، وحينئذ فلا يبقى وجه للاستظهار المتقدّم كما لايخفى .
وكيف كان ، فلم يثبت في المقام ما يدلّ على جواز الاكتفاء بركعة من قيام وركعتين من جلوس ، بل الظاهر بمقتضى مرسلة ابن أبي عمير لزوم أن يصلّي ركعتين وهو قائم وركعتين وهو جالس . ويؤيّده الشهرة العظيمة بين الفقهاء على ذلك كما عرفت .
ثمّ إنّه هل يجب تقديم الركعتين من قيام على الركعتين من جلوس على ما هو مقتضى العطف بكلمة «ثمّ» في مرسلة ابن أبي عمير وصحيحة عبدالرحمن بن الحجاج المتقدّمتين ، أو يتعيّن العكس كما حكي عن بعض(3) ، أو يتخيّر بينهما كما هو
- (1) التهذيب 2 : 188 ح746; الإستبصار 1 : 374 ح1421; الفقيه 1 : 230 ح1022; الوسائل 8 : 229 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب16 ح4 .
- (2) الفقيه 1 : 230 ح1023; الوسائل 8 : 223 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب13 ح2 .
- (3) حكاه عن ابن ابي عقيل في مختلف الشيعة 2 : 384 .
(الصفحة 494)
مقتضى العطف بالواو في كثير من العبارات؟ وجوه ، لا سبيل إلى الوجه الثاني بعد خلوّه عن مستند ظاهر ، بل ثبوت الدليل على خلافه .
وأمّا الوجه الثالث ، فيبتنى على إلغاء الخصوصية من النصوص الظاهرة في وجوب تقديم الركعتين من قيام ، بدعوى أنّ إيجاب الركعتين من قيام إنّما هو لتدارك نقصان الصلاة على تقدير كونها ركعتين ، وإيجاب الركعتين من جلوس إنّما هو لتدارك نقصانها على تقدير كونها ثلاث ركعات ، ولا فرق في مقام تدارك النقص المحتمل بين تقديم جبران النقص الأكثر وبين تقديم تدارك النقص الأقلّ .
ولكنّ لا يخفى أنّ دعوى إلغاء الخصوصية إنّما تصحّ فيما لو لم يكن في البين خصوصية محتملة ، لأن تكون دخيلة أصلاً ، مع أنّه ليس الأمر في المقام كذلك ، فإنّه يحتمل أن يكون الشارع قد اعتبر أصالة عدم الإتيان بالأكثر المقتضية لكون الصلاة ناقصة بركعتين من هذه الجهة ، أي إيجابها لوجوب ركعتين منفصلتين قائماً ، وإن لم يعتبرها من حيث وجوب البناء على الأقلّ والإتيان بركعتين متصلتين ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال لدعوى إلغاء الخصوصية فتدبّر .
ثمّ إنّ الشهيدين في الذكرى والروضة ذكرا : أنّ القول بالاكتفاء بركعة قائماً وركعتين جالساً أقوى من حيث الاعتبار ، ولكنّه مخالف للنص والاشتهار(1) . ويرد عليهما منع الأقوائية ، بل الظاهر تساوي هذا القول مع القول الآخر من حيث الإحتياج إلى ورود التعبد لأجل المخالفة للاعتبار ، وذلك لأنّ لازم القول بلزوم الاتيان بركعتين من قيام وركعتين من جلوس أنّه لو كانت الصلاة ناقصة بركعة يكون الجابر لها هو الركعتين من قعود المأتيّ بهما بعد الركعتين قائماً ، وحينئذ فيلزم تحقق الفصل بين الصلاة وبين ما يكون جابراً لنقصها بركعتين قائماً .
ولازم القول بالاكتفاء بركعة واحدة قائماً وركعتين جالساً أنّه لو كانت الصلاة
- (1) الذكرى 4 : 77 ; الروضة البهيّة 1 : 330 ; مستند الشيعة 7 : 154 .