(الصفحة 86)
القول بتعيّن الأخيرة(1) ، وعن جماعة من المتأخرين ، كشيخنا البهائي ، والسيد نعمة الله الجزائري ، وصاحب الحدائق ، القول بتعيّن الأولى(2) ، وعن والد المجلسي(قدس سره) ، القول بوقوع الافتتاح بمجموع ما يختاره المكلّف من السبع ، أو الخمس ، أو الثلاث(3) .
ثم إنّ ظاهر المشهور القائلين بالتخيير إنّه يشترط في صيرورة واحدة منها تكبيرة الاحرام ، أن ينويها بها ، فلو فرض أنّ المصلّي افتتح صلاته بالسبع ، من دون أن يجعل واحدة منها تكبيرة الاحرام بسب القصد ، فلازمهم القول ببطلان صلاته لكونها فاقدة لتكبيرة الاحرام .
كما أنّ مقتضى كلام القائلين بتعيّن الأولى والأخيرة ، البطلان في الفرض المزبور ، بناءً على أن يكون مرادهم بوجوب تعيين الأولى أو الأخيرة ، وجوب جعلها كذلك بالقصد والنية ، لأنّه في الفرض لم يقصد المصلّي تكبيرة الاحرام بشيء من السبع .
وأمّا لو كان مرادهم من ذلك إنّه تتعيّن الأخيرة أو الأولى لتكبيرة الافتتاح ، ولو لم يقصدها بها ، فاللاّزم الحكم بالصحة كما هو ظاهر ، كما أنّ ظاهر ما حكي عن والد المجلسي ، من القول بوقوع الافتتاح بالمجموع ، إنّه لو قصد الافتتاح بواحدة منها دون السبع ، لم يتحقّق امتثال الأمر الاستحبابي المتعلّق بالافتتاح بالسبع ، لأنّ المستحبّ إنما هو الافتتاح بمجموع السبع لا بواحدة منها ، وعليه فتكون الست الباقية مستحبة من باب ذكر الله تعالى ، فإنّه حسن على كلّ حال .
- (1) الغنية: 83 ; الكافي في الفقه: 122; المراسم: 70 .
- (2) الحدائق 8: 21، ونقله فيه (عنهما (رحمهما الله)) أيضاً.
- (3) روضة المتّقين 2: 280 ـ 284 .
(الصفحة 87)
ثم لا يخفى أنّ ما نسب إلى المشهور ، من أنّ المصلّي بالخيار في التكبيرات ، أيّتها شاء جعلها تكبيرة الافتتاح ، خلاف ما يستفاد من كلماتهم ، فإنّ التأمّل فيها يقضي بأنّ مرادهم هو جعل التكبيرة الأولى تكبيرة الافتتاح ، لا كونه مخيّراً في ذلك ، ولا بأس بنقل بعض العبارات فنقول :
قال المفيد(رحمه الله) في المقنعة : وليستفتح الصلاة بالتكبير ، ويرفع يديه وليرسلهما مع آخر لفظه بالتكبير ، ثم يرفعهما ويكبّر اُخرى ، ويرسلهما ويكبّر ثالثة ، رافعاً يديه بها ويرسلهما ، ويقول : اللهمّ أنت الملك الحقّ ، إلى آخر الدعاء ، ثم يكبّر ويرفع يديه(1) ، إلى آخر ما ذكره ، فإنّ ظاهر صدر كلامه أنّ استفتاح الصلاة إنما يجب أن يقع بالتكبيرة الأولى كما لا يخفى .
وقال في الباب العاشر الذي عقده لتفصيل المفروض من أفعال الصلاة ، والمسنون منها ما لفظه : والتوجه بالتكبيرات السبع سنّة ، من تركه واقتصر من جملته على تكبيرة الافتتاح أجزأه ذلك(2) ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بالتوجّه بالتكبيرات ، التوجه بها على أن تكون من الصلاة ، ويدلّ عليه ذكرها في جملة المسنون من أفعال الصلاة ، مع أنّه لو نوى الافتتاح بغير الأولى يلزم وقوع التكبير المتقدّم على تكبيرة الإحرام ، خارج الصلاة لا جزءً منها كما لا يخفى .
وقال الشيخ في كتاب النهاية ـ المعدّ لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة(عليهم السلام)بعين ألفاظها الصادرة عنهم في باب كيفية الصلاة ، وبيان ما يعمل الإنسان فيها من الفرائض والسنن ـ : إذا أردت الدخول إلى الصلاة بعد دخول وقتها ، فقم مستقبل القبلة ، بخضوع وخشوع ، وأنت على طهر ، ثم ارفع يديك بالتكبير حيال وجهك . وذكر نحو ما في المقنعة .
- (1) المقنعة: 103 .
- (2) المقنعة: 139 .
(الصفحة 88)
ثم قال : وهذه التكبيرات السبع، واحدة منها فريضة ، ولا يجوز تركها ، والباقي سنّة وعبادة(1) ، وظهورها في صيرورة الأولى تكبيرة الاحرام ، مبنيّ على ما ذكرناه سابقاً ، من أنّه لو أمر المولى عبده بايجاد شيء ، وأمره بايجاده ثانياً على وجه الاستحباب ، فلو أوجده في ضمن فرد من أفراد ذلك الشيء يتحقّق امتثال الأمر الوجوبي قهراً ، ويترتب عليه سقوط هذا الأمر ، بحيث لا يكون للمولى المؤاخذة على المخالفة ، فإنّ المفروض أنّ ما لا يرضى بتركه إنما هو إيجاد العبد تلك الطبيعة ، مع أنّه أوجدها في ضمن الفرد الأول ، فلا وجه للمؤاخذة كما هو واضح .
وقال الحلّي في السرائر في باب كيفية فعل الصلاة على سبيل الكمال المشتمل على الفرض والنفل : ينبغي لمن أراد الصلاة وكان منفرداً بعدما شرطنا من التوجه إلى القبلة والنية والاذان والإقامة وغير ذلك ، أن يبتدئ فيكبّر ثلاث تكبيرات متواليات يرفع بكلّ واحدة منهنّ يديه حيال وجهه إلى أن قال : ومن اقتصر على تكبيرة واحدة ، وهي تكبيرة الافتتاح أجزأه ، وهي الواجبة التي بها وبالنية معاً تنعقد الصلاة ، ويحرم عليه ما كان يحلّ له قبلها ، فلذلك سمّيت تكبيرة الاحرام وتكبيرة الافتتاح ، لأنّ بها تفتتح الصلاة(2) ، انتهى .
فإنّ ظاهره أنّ الافتتاح والابتداء إنما يقع بمجرّد الشروع في التكبيرات ، فلو كان المصلّي مخيّراً في جعل أيّتها شاء تكبيرة الافتتاح ، يلزم على تقدير جعل غير الأولى تكبيرة الافتتاح ، وقوع التكبيرات السابقة عليها خارجة من الصلاة ومقدّمة لها ، مع أنّ ظاهر العبارة كونها بمجموعها من الصلاة ، غاية الأمر كونها من الأجزاء المستحبة التي بها يحصل الكمال فيها ، ووقوعها بمجموعها من الصلاة لا يتحقق إلاّ بتحقق الافتتاح بأوّل التكبيرات كما لا يخفى .
- (1) النهاية: 69 ـ 70 .
- (2) السرائر 1 : 216 .
(الصفحة 89)
وقال ابن حمزة في الوسيلة في عداد المندوبات التي يقارن حال الصلاة : والتوجه بسبع تكبيرات ، واحدة منها تكبيرة الاحرام(1) . فإنّ ظاهره كون السبع من الأفعال المندوبة للصلاة ، وهو لا ينطبق إلاّ على تحقق الافتتاح باُولاها .
وقال القاضي في المهذّب : أمّا الندب فهو افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات منها تكبيرة الاحرام(2) . فقد ظهر من هذه العبارات ، أنّ ما نسب إلى المشهور من القول بالتخيير لا يوافق عباراتهم ، بل الظاهر عدم الاختلاف بينهم وبين الشيخ البهائي ومتابعيه ، القائلين بتعين الأولى لافتتاح الصلاة بها .
ثم إنّه يظهر أيضاً من الروايات الواردة في المسألة ، أنّ الافتتاح إنما يقع بمجرّد الشروع في التكبيرات ، لأنّ التعبير فيها إنما هو باستفتاح الصلاة بها كما في صحيحة زرارة قال : رأيت أبا جعفر(عليه السلام) أو قال: سمعته استفتح الصلاة بسبع تكبيرات ولاءً»(3) ، وكما في رواية أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا افتتحت الصلاة فكبّر إن شئت واحدة، وإن شئت ثلاثاً، وإن شئت خمساً، وإن شئت سبعاً، وكلّ ذلك مجز عنك، غير أنّك إذا كنت إماماً لم تجهر إلاّ بتكبيرة»(4) .
وكما في رواية الحسن بن راشد قال : سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن تكبيرة الافتتاح؟ فقال : «سبع» قلت : روي أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان يكبّر واحدة فقال : «إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان يكبّر واحدة يجهر بها ويسرّ ستّاً»(5) .
فإنّ ظاهر هذه الروايات أنّ افتتاح الصلاة إنما يقع بمجرّد الشروع في
- (1) الوسيلة: 94 .
- (2) المهذّب 1 : 92 .
- (3) التهذيب 2 : 287 ح1152 ; الخصال: 347 ح17; الوسائل 6 : 21. أبواب تكبيرة الاحرام ب7 ح2.
- (4) التهذيب 2: 66 ح239; الوسائل 6: 21. أبواب تكبيرة الإحرام ب7 ح3.
- (5) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1 : 278; الخصال : 347 ح16; الوسائل 6 : 33. أبواب تكبيرة الاحرام ب12 ح2 .
(الصفحة 90)
التكبيرات ، بمعنى كون المجموع داخلا فيها وجزءً أولياً لها ، إذ لا يصدق الاستفتاح بها مع كون بعضها واقعاً في خارجها ومقدمة لها ، كما هو ظاهر ، فالقول بالتخيير ـ كما نسب إلى المشهور(1) أو بتعيّن الأخيرة ، كما حكي عن بعض القدماء(2)ـ مخالف للأخبار .
نعم، يقع الكلام بعد ذلك في أنّ المستفاد منها هل هو وقوع الافتتاح بمجموع التكبيرات الثلاث أو الخمس أو السبع ، كما عن والد المجلسي(3) ، أو وقوعه بالأولى وكون الباقي من الأفعال المستحبة الواقعة في الصلاة؟ وتظهر الثمرة بين القولين في جواز الاتيان بمنافيات الصلاة بعد التكبيرة الأولى وقبل إتمام الثلاث أو الخمس أو السبع ، وعدم الجواز .
فعلى القول الأول يجوز ، لأنّه بناءً عليه لم يدخل في الصلاة بعد ، حتى يحرم عليه ما كان محلّلا له قبلها ، لأنّ نسبة التكبيرات حينئذ إليها كنسبة أجزاء تكبيرة الاحرام إليها . وهذا بخلاف القول الثاني ، فإنّه لا يجوز بناءً عليه الإتيان بالمنافيات ، لأنه دخل في الصلاة بعد التكبيرة الأولى .
وتظهر الثمرة أيضاً في جواز الاقتداء في الجماعة بعد التكبيرة الأولى بناءً على القول الثاني ، وعدم جوازه بناءً على الأول ، لما نسبه الشيخ في الخلاف إلى علمائنا الإمامية رضوان الله عليهم ، من أنّ جواز الاقتداء بالإمام إنما هو بعد فراغه من تكبيرة الافتتاح(4) ، خلافاً للعامّة القائلين بجواز الاقتداء بمجرّد الشروع الذي يتحقّق بذكر أوّل جزء من تكبيرة الاحرام .
ثم إنّ ظاهر الأخبار المتقدمة وإن كان هو حصول الافتتاح بمجموع الثلاث ،
- (1 و 2) راجع 2 : 85 ـ 86 .
- (3) روضة المتّقين 2: 280 ـ 284 .
- (4) الخلاف 1: 317 مسألة 69 .