(الصفحة 100)
تعالى:
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}(1) فما هو معنى الاصر؟
يقول صاحب الصحاح في معنى الاصر: اصرهُ حبسه ، أي أ نّ الإصر بمعنى الحبس . ويقول أيضاً في معنى الإصر: وأصرت الشيء إصراً كسرته . ثمّ يقول: والإصر العهد ، والإصر الذنب ، والإصر الثقل . ويقول صاحب النهاية: الإصر الإثم والعقوبة ، وأصله من الضيق والحبس . ويرجعه إلى الضيق ، ويتّضح من أقوال اللغويين أ نّ لفظ الإصر نوعاً ما يستعمل بمعنى الحبس ، وفي الحقيقة الحبس يستلزم الضيق والشدّة . ولذلك أخذ في الإصر معنى الحبس ، وقوله في الصحاح: وأصله من الضيق والحبس ، فيه إشارة إلى أ نّ الإصر يعود في معناه إلى الضيق .
وجاء في القاموس: الإصر بالكسر ، العهد . إذن ما هي خصوصيّة العهد؟ نقول: إنّ العهد بموجب العقل يستلزم الوفاء . أي أ نّه يواجه الإنسان ضغطاً وضيقاً . فالإنسان إذا لم يكن قد تعهد بشيء ، فهو حرّ ، ولا يوجد هناك ضيق ولا ضغوطات مسلّطة عليه . ولكنّه إذا أبرم عهداً معيّناً ، حينئذ سيعيش ضيقاً معيّناً . ومن هنا يتّضح لدينا أ نّ العهد لمّا كان مستلزماً لشيء من الضيق والضغط ، لذلك عبّر عنه بالإصر .
ويصدق هذا القول في خصوص الذنب أيضاً ، فالذنب يجعل الإنسان في ضيق وشدّة .
أمّا الثقل ، فتارةً يلحظ به نفس مسمّى الثقل ، واُخرى يلحظ مايلزم عن الثقل ، وهو الضيق ، إذن ، فالملاك واحد وهو الضيق . ويستعمل الإصر لمعنى العهد والدين والثقل ، إلاّ أ نّه عادة مايستعمل الإصر بمعنى الحبس . يقول الراغب في
(الصفحة 101)
المفردات: الإصر عقد الشيء وحبسه بقهره . أي أنه يسلب الاختيار على الشيء .
ومن البديهي أ نّ مثل هذا العقد أو الحبس يستلزم الضيق . ثمّ يقول: والمأصر والمأصد كلاهما بمعنى حبس السفينة ، أي العمل على ربط فيها السفينة بالقرب من السواحل . فالمحبس هو المكان الذي تعاق فيها حركة السفينة ، ويضيّق عليها بأن لا تعطى مجالاً لأن تميل إلى هنا وهناك .
بعد ذلك يورد الراغب قوله تعالى:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}(1) فيقول: إصرهم أي الاُمور التي تثبّتهم وتقيّدهم عن الجزاء والوصول إلى الثواب ، ثمّ يقول: وعلى ذلك ـ أي على نفس المعنى ـ الآية الكريمة:
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} .
وورد في مجمع البحرين: أ نّ أصل الإصر الضيق والحبس ، وإنّما ذكر الحبس لإشتماله على معنى الضيق . يقال أصّره بإصره ، إذا ضيّق عليه وحبسه . يقال للثقل إصراً لأ نّه يأصر صاحبه عن الحركة ، أي ما يمنع الإنسان عن الحركة ويجعله في ضيق ، ثمّ يقول : إنّ قوله تعالى:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} هو مثل لثقل تكليفهم ، التكليف الذي كان عليهم والذي كان على الاُمم قبلهم . فهذه التكاليف كانت ثقيلة بالنسبة إليهم وكانت تسبّب لهم ضيّقاً وشدّة . ولذلك كان من بركات رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الاُمّة الإسلامية أن يضع عنهم إصرهم .
وما لاحظناه هنا هو أ نّ الإصر في الحقيقة معناه الضيّق . إذن نحن لم نتوصل بعد إلى الفرق بين العناوين الثلاثة: الضيق ، والحرج ، والإصر . فالحرج فسّر بالضيق . والإصر أيضاً وإن كان قد أخذ فيه معنى الحبس ، إلاّ أنه استعمل بهذا المعنى لكونه يفيد معنى الضيق .
وأمّا العنوان الأخير ، وهو عنوان العسر ، فقد ورد في الآية الكريمة:
{يُرِيدُ اللهُ
(الصفحة 102)
بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) جاء في النهاية: أ نّه ضدّ اليسر ، وهو الضيق والشّدة والصعوبة ، وكما هو واضح فإنّ هذه المعاني الثلاثة تعطي معنى واحد عبّر عنه بتعابير شتّى .
وورد في القاموس: العسر بالضم ضدّ اليسر ، وتعسّر عليه الأمر ، وتعاسر واستعسر ، اشتدّ وإلتوى ، الشّدة والالتواء هو تعبير آخر عن الضيق ، بدليل أ نّ صاحب النهاية أورد الضيق والشدّة معاً ، وفي القاموس قال: إشتدّ وإلتوى ويومٌ عسر ، أي شديدٌ أو شومٌ . إنّما جاء بالشؤم بلحاظ ما يرافقه من شدّة . فالشؤم عادةً يلازمه مصيبة مّا وشدّة عبرّ عنها بالعسر . وهنا نرى أ نّ هذا العنوان هو الآخر يرادف الضيق .
وورد في المفردات ـ وهو برأيي من أدقّ الكتب اللغوية ـ : أعسر فلان ، أي ضاق فلان ، وتعاسرا لقوم طلبوا تعسير الأمر . ويوم عسير يتعصّب فيه الأمر . ثمّ بعد أن أتى بلفظ يتعصّب . قال بعدها مباشرةً: ضاق: تعصّب فيه الأمر ، من هنا نجد أ نّ صاحب النهاية استعمل الضيق والشدّة والصعوبة التي عبرّ عنها في المفردات بالقول «يتعصّب فيه الأمر» في رديف واحد .
إذن ، فما يفهم من اللغة أ نّ عنوان الحرج ، وعنوان الإصر ، وعنوان العسر كلّها بمعنىً واحد ، وهو الضيق ، والضيق هو الرتبة العليا من الصعوبة والشدّة وما شابه ذلك . وكما لاحظتم في ما سبق فإنّ هناك جملة من الروايات فسّرت الحرج في الآية الكريمة بالضيق .
لكن المحقّق النّراقي (قدس سره) في كتابه «العوائد» يرى أ نّ العسر في قوله تعالى:
{وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} هو أعمّ من الضيق ، والنسبة بين الضيق والعسر هي العموم
(الصفحة 103)
والخصوص المطلق ، وكلّ ضيق يمكن أن نقول عنه أنّه عسر ، ولكنّ كلّ عسر لاينطبق عليه أنه ضيق . وهناك مصاديق في العسر ، لاينطبق عليها الضيق ، ثمّ يوردّ عدّة أمثلة في هذا المجال(1) ، فيقول: لو أ نّ مولى من الموالي كان له عبد ، وأجبر هذا المولى عبده على تناول دواء كريه . ولنفرض أن هذا الدواء كريه بدرجة أنه لايوجد هناك انسان يرغب في تناوله . هنا يتحقّق عنوان العسر ، فيقال : إنّ المولى أجبر العبد على القيام بعمل شاقّ . ولكن في نفس الوقت ، لايعبرّ عنه بأنه ضيّق عليه ، فلا يقال: إنّ المولى ضيق عليه بسبب شرب هذا الدواء .
ومثال آخر: لو فرضنا أن هناك شخصاً يقوى على حمل مائة كيلو غرام من الثقل ، وليس بمقدوره أن يحمل أكثر من هذا الثقل ، فلو اُعطي لهذا الشخص حمولة بوزن تسعين كيلو على أن يحملها مسافة فرسخ واحد . هذا العمل على حدّ تعبير المرحوم النّراقي (قدس سره) هو عملٌ شاقّ . ولكن لو تكرّر هذا العمل منه ، بأن يقال له: عليك أن تحمل هذا القدر من الثقل إلى المكان الفلاني يوميّاً . هذا التكرار للعمل يبدّل حالة العسر الذي كان عليها إلى ضيق . هنا يقال عنه: إنّ الأمر قد ضيّق عليه .
من هنا يتضح لدينا أ نّ هناك فرق بين العسر والضيق . ماهو الملاك الذي استند عليه في هذا المثال؟ هل هو اللغة أم العرف؟ فإذا كان الملاك في الإختلاف المفروض هو اللغة ، فهذا ما أجبنا عنه في خلال نقلنا لآراء كبار اللغويين . حيث لاحظنا أ نّ الراغب في مفرداته يصرّح بأ نّ قوله : أعسر فلان ، نحو أضاق ، أي مثل أضاق فلان . وهنا لايقصد أ نّ هناك مماثلة أدبيّة ولغوية . إنّما هذه المماثلة هي مماثلة معنويّة . فقوله : أعسر فلان نحو أضاق ، أي مثل أضاق في المعنى ، يعني أ نّ معنى أعسر هو نفس معنى أضاق ، فلو كان الملاك هو اللغة ، فإنّ تتبّع أقوال
(الصفحة 104)
اللغويين والتدقيق في تعبيراتهم يؤكّد لنا أ نّه لايوجد هناك فرق بين العسر والضيق ، والعسر لايكون أعمّ من الضيق .
معنى العسر في العرف العامّ
إذا قلتم أ نّ الملاك في ذلك هو العرف العامّ ، ففي حال مخالفة العرف العامّ للّغة ، ينبغي أن نحمل ألفاظ الكتاب والسنّة على العرف العامّ ، بدليل أن النّاس هم المخاطبون ، وأن الحديث إنّما يدور مع الناس . بناءً على ذلك ، إذا حصل هناك أختلاف بين اللغة وبين العرف ، أي بين الفهم اللغوي والفهم العرفي ، فالملاك هو العرف . والعرف العامّ في خصوص هذا المورد يرى أن العسّر أعمّ من الضيق .
وفي معرض الرّد على هذا الإستدلال نشير إلى نقطتين هامتين:
النقطة الأوّلى إن التعبير باليسر والعسر في الآية الشّريفة جاء في سياق الحديث عن الصوم . حين ابتدأت الآية بالكلام عن الصوم وهو قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، وورد في تتمة الآية:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ} {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) وقلنا سابقاً في تفسير هذه الآية ، أ نّ قوله
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} إنّما هو لبيان الحكم الإثباتي ، أي الجانب الإثباتي في الآية ، وأمّا قوله
{وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فهو بيان لجانب النفي الذي يتضمّنه الحكم الشرعي .
بعبارة أوضح: إنّه إشارة إلى المريض والمسافر ، وأ نّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يعلّل عدم إيجابه للصوم في شهر رمضان على المريض والمسافر بأن قال:
{وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ، وأمّا قوله:
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} فهل المقصود منه أن