(الصفحة 25)
دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) بحق هؤلاء أن يكونوا اُناساً مؤمنين ومتديّنين ، إذن الهدف أكبر وأهمّ ، وهو مسألة الإمامة ، فمسألة الإمامة ليست مسألة عامّة يمكن لأيّ شخص أن يتّصف بها ، وبرأيي أ نّ الآية الكريمة رائعة في تعبيرها فما الذي أراد إبراهيم وإسماعيل أن يقولا في هذا الدعاء؟
ويبدو جليّاً من خلال الشواهد والقرائن أ نّ إبراهيم (عليه السلام) كان يقصد في دعائه جماعة من بني هاشم ، نسمّيهم بعترة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فإبراهيم في حال بنائه الكعبة وإحداث عمارة الايمان وتأسيس مركز التوحيد ، يدعو لإمامة هؤلاء ، ولعلّ السّنخية بين الأثنين [بين الكعبة والإمامة] أنّ إمامة هؤلاء لها علاقة ببقاء وديمومة مركز ورمز التوحيد ، ولها الدور الأساسي في حفظ الكعبة وبيت الله . . . إنّ إمامة هؤلاء تعطي للناس المعنى الصحيح للحجّ والمناسك ، كما أ نّ إمامة هؤلاء لها علاقة وثيقة بالكعبة .
إذن يجب أن نلاحظ ظرف الدعاء ، لماذا صدر هذا الدعاء عن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) عند بنائها للكعبة؟ فقد كان بامكانهما أن يدعوا بهذا الدعاء في وقت آخر ، أمّا في ذلك الوقت بالخصوص وفي تلك الظروف الخاصّة ، فإنّ مثل هذا الدعاء يشعرنا أ نّ هناك إرتباطاً تامّاً وصلةً وثيقة بين إمامة هذه الامّة المسلمة له
{اُمّة مسلمة لك} ، وبين الكعبة مركز التوحيد ورمزه ، وأ نّ الإمامة هي التي بمقدورها أن تحقّق هدف التوحيد بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وتنجّز الهدف من بناء الكعبة ، وقد شاهدنا عن كثب فداحة الخطب ، الخطب في المسارات البعيدة عن مسار الإمامة والأئمّة (عليهم السلام) .
المراد من الأب والذّرية
وبعد أن تقول الآية:
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
(الصفحة 26)
الرَّحِيمُ}(1) نلاحظ أن الدعاء يستمر:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2) هنا وبعد أن دعوا الله
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} طلبا من ربّ العزّة أن يبعث في هذه الاُمّة المسلمة ، رسولاً يكون منهم ، وهناك تأكيد من قبل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)على كلمتي:
{من ذريتي} ، والآية التي قرأناها سابقاً والتي سنعود إليها فيما بعد بلحاظ حديثنا عن قاعدة
{لا حرج} يقول فيها تعالى:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
إذن ، فهل من الصحيح أن نغضّ الطرف عن كلّ هذه الشواهد ، ونقول بأنّ الأب هنا يعني الأب الروحي ، وأ نّ الذريّة هم الأتباع؟ كما في قول المعلّم لتلميذه : يابنيّ ، هذا الكلام لايتناسب مع القرآن الكريم ، وهذا الكلام قد نجد له ما يبرّره إذا كنّا غير محتفظين على المعنى الحقيقي للقرآن ، أمّا عندما يرد في الآية السابقة قوله:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ} وفي هذه الآية قوله:
{من ذريّتنا} والآية التي تتحدّث عن الإمامة والتي وردت فيها عبارة:
{ومن ذريّتي} ، فهل يصحّ الإعراض عن كلّ هذه الدلائل؟
إنّنا إذا استطعنا أن نحتفظ بالمعنى الحقيقي لهذه المفردات وأن نهتدي إلى مغزاها خلال المعنى الحقيقي لها سنتوصّل بالتالي إلى الهدف الأساسي الذي يرده القرآن الكريم ، بقطع النظر عن الروايات الواردة في تفسير هذه الآيات ، وإلاّ فمع الإستعانة بالروايات في هذا الباب ـ والتي سأذكر بعضها فيما بعد إن شاء الله ـ مضافاً إلى الروايات في المسألة الاُخرى لايبقى هناك أدنى شكّ أو ترديد في المراد من الآيات .
ولكن ما اُريد قوله أنّه حتى لو لم تكن هناك هذه الروايات ، ولو كنّا نحن وظاهر القرآن ، نحن والنصّ ، نحن والقرآن الذي يقول عنه العلاّمة الطباطبائي (قدس سره):
- 1 . البقرة: 127 ـ 128 .
- 2 . البقرة: 127 ـ 128 .
(الصفحة 27)
إن القرآن الذي فيه بيان كلّ شيء لابدَّ وأن يبيّن بعضه بعضاً (1) . أي من خلال التمعّن في الآيات مجتمعه ، ومن خلال التوفيق والملائمة فيما بينها ، يتّضح لنا المعنى بصورة كاملة . فإبراهيم (عليه السلام) يقول: إنّ الرسول منهم ، وأنّهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يعني إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) من ذريّة إبراهيم وإسماعيل ، والاُمّة كذلك من ذريّة إبراهيم وإسماعيل . أي: ابعث فيهم رسولاً بينهم ممّن يتّصف بمقام الإمامة ، واعطه ميزة اُخرى وهي ميزة الرسالة والنّبوة ، فميزة النّبوة تختص بأحدهم ، وأمّا ميزة الإمامة فتتعلّق بهم جميعاً ، فالرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) بالإضافة إلى اختصاصه بمنصب الرسالة فإنّه يختصّ أيضاً بالإمامة ، فالرسول (صلى الله عليه وآله) تتوفّر لديه كلتا الجهتين: الإمامة والرسالة
{وابعث فيهم رسولاً منهم} ، وضمير الجمع للغائب [ هم] يدل على قوله
{ومن ذريتنا} بقرينة الآية السابقة .
هنا يعترضنا السّؤال التالي : ما هو الدّور الذي يؤدّيه الرسول في هذه الاُمّة المسلمة؟
الجواب: أ نّ دور الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو دور المعلّم والمربّي والمزكّي ، وهؤلاء تلامذة الرسول (صلى الله عليه وآله)
{يتلو عليهم} على الاُمّة المسلمة
{آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
حلّ التعارض الظاهري بين الآيات
هنا قد يثبّ إلى الأذهان هذا السؤال وهو: أ نّ التعبير بقوله:
{ يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة } قد ورد بنفسه ومن دون تغيير في آية اُخرى مطلعها قوله تعالى:
{لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ
(الصفحة 28)
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ . . .} (1) ، أليس المراد بالمؤمنين هنا جميع المؤمنين؟ وقوله تعالى:
{إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فقد كرّر الشطر الثّاني منه في الآية
{لقد منَّ الله . . .} في حين أ نّ الآية الثانية تفيد العموم ، ولا تختصّ بالأئمّة (عليهم السلام) قطعاً .
ويمكننا أن نجيب على هذا الإشكال بتقديم إشارة ومقدّمة وهي أ نّ الآية الثانية
[{لقد منَّ الله على المؤمنين}] تنتهي بقوله تعالى:
{وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} ، أمّا في الآية التي نحن بصددها
[{إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا . . .}] إنتهت بقوله
{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} ولم تختم بما اختتمت الآية السابقة .
وهذا ما يوصلنا إلى الجواب وهو: إنّنا نلاحظ أ نّ الدروس التي نتلقّاها والمسائل العلميّة التي نبحثها تنطوي على مراحل ، فالذي يدرس كتاب المعالم يدرس الاُصول ، والذي يدرس الرسائل هو أيضاً يدرس الاُصول ، والكفاية أيضاً هي من علم الاُصول ، وكذا الحال بالنسبة للذي يدرس الاُصول الخارج مدّة عشرين سنة ، فهو أيضاً يدرس الاُصول ، ولكن دروس الاُصول هذه تختلف فيما بينها اختلافاً شاسعاً ، فلا نستطيع أن نقارن بين هذه الدروس من حيث المرحلة والرتبة .
ومن هنا نقول: إنّ كون الرسول معلّماً وكونه مزكّياً ومربّياً يختلف باختلاف التلاميذ ، ففي الآية:
{لقد منَّ الله على المؤمنين . . .} عندما نلاحظ تتمّتها وهي قوله تعالى:
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} تتّضح لدينا نقطة مهمّة جدّاً ، وهي أ نّ تزكية وتعليم الرسول لهؤلاء ، إنّما كانت لإخراجهم من الظلالة التي تحيط بهم من جوانب مختلفة ، فالهدف من تربية وتزكية وتعليم الرسول هو إنقاذ هؤلاء
(الصفحة 29)
من الجهل الذي يعيشوه ، وإنقاذهم من العشوائية التي يتخبّطون فيها ، سواء على الصعيد الفكري ، أو على الصعيد السلوكي والعملي ، وهذا ما يتمثّل بالشرك والسلوك اللا إنساني والمنحرف الذي كان يمارسه هؤلاء ، إذن تعليم الرسول وتربيته وتزكيته في هذه الآية تشمل الجميع بقرينة قوله تعالى:
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} .
ولكن نفس هذا المربّي والمعلّم عندما يكون تلاميذه على حدّ تعبير الآية الكريمة
{أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فإنّ دروس التّربية والتعليم تكون في قمّة مدارج التعليم والتربية ، وفي آخر مراحل التربية والتزكية ، ولذا لانجد في هذه الآية عبارة:
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} وإنّما اكتفت الآية بالتطرّق إلى التربية والتعليم بالذات ، وهذا هو عين الحقِّ والصواب . إذ لا يمكننا القول أ نّ الرسول (صلى الله عليه وآله) ربّى علياً (عليه السلام) كما ربّى غيره من النّاس العاديين ، فهل بمقدورنا أن نقول: إنّ العلم الذي علّمه الرسول (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) ، علّمه سلمان (رحمه الله) أيضاً ؟
وهنا لابأس من الإشارة إلى الرواية التي ذكرناها في بحث التعادل والترجيح عن كتاب سليم بن قيس الهلالي ، فقد ورد في الفقرة الأخيرة من هذه الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:
«علّمني رسول الله (صلى الله عليه وآله)
الف باب من العلم ، يفتح من كلّ باب ألف باب»(1) .
إذن نعود فنقول : هل التعليم الّذي يتلقّاه أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس التعليم الذي يتلقّاه عامّة النّاس عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ؟ وهل التربية نفس التربية والتزكية ، أو أ نّ الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعليمه لعلي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) يعلّمهم آخر مراحل التعليم والتربية والتزكية ؟
- 1 . بحار الأنوار 38: 331 .