(الصفحة 17)
وَفِي هَذَا . . .} وكما قلت فإن بحثنا معنى تفسيري ويرتبط أيضاً بمسألة الإمامة وبعلم الإمام ، ومن جانب آخر له علاقة بقاعدة لا حرج الّتي هي محل بحثنا بالأساس ، وبما أ نّ هذه الآية الكريمة بالذات هي من أهمّ الآيات التي يستدلّ بها على قاعدة لا حرج ـ فلذلك يجب أنْ تدرس وتناقش بدّقة . . .
الآية الثانية:
يقول الله تعالى :
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}(1) بناءاً على الشواهد التأريخية فإنّ إبراهيم (عليه السلام) هو الذي بنى الكعبة وساعده في ذلك إسماعيل (عليه السلام) وخلال عملية البناء يرفعان أيديهما ويدعوان الله بعدّة دعوات:
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
ومن هنا يتّضح لنا إنّهما إنّما قاما بهذا العمل بأمر من الله تعالى ، وتزامناً مع امتثالهما لأمر الله رفعا أيديهما بالدعاء بأن يتقبّل منهما ذلك .
الدعاء الثّاني الذي دعوا به هو:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}(2) هذا الدعاء يحتاج إلى وقفة وتأمّل ، واستعراض الظروف التي كانت تحيط بالنبي إبراهيم (عليه السلام)عند دعائه بهذا الدعاء ، ففي ذلك الوقت كان إبراهيم (عليه السلام) يمتاز بمقام النّبوة وبمقام الإمامة أيضاً نظراً لمقتضى الآية الكريمة:
{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (3) ، وبحسب الرّوايات والقرائن فإنّ أهمّ الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم (عليه السلام) هو ذبح إسماعيل (عليه السلام) وتقديمه قرباناً ، وفي الحقيقة فإنّ ذبح إسماعيل من الإبتلاءات التي لم يسبق لها مثيل ، كما أ نّها لا مثيل لها في اللاحق أيضاً ،
- 1 . البقرة: 127 .
- 2 . البقرة: 128 .
- 3 . البقرة: 124 .
(الصفحة 18)
حيث يتلقّى أب ونبيّ أمراً من الله تبارك وتعالى أن يذبح إبنه بيده ، ذلك الابن الذي رزقه الله إيّاه في أواخر عمره .
والآن لننظر إلى إسماعيل في غضون تلك الحادثة حيث يعمل مساعداً لإبراهيم في بناء الكعبة ، فيحتمل أن يكون عمر إسماعيل في ذلك الوقت خمس وعشرين سنة إلى ثلاثين سنة ، وبالطبع فإنّ إبراهيم (عليه السلام) في ذلك الوقت كان حائزاً لمقام النبوّة ، وباعتقادي أ نّه كان حائزاً على مقام الإمامة أيضاً ، ومع ذلك نراه يقول داعياً: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، وهذا تحصيل حاصل بالنسبة لإبراهيم ، ومع ذلك نجده (عليه السلام) يطلب شيئاً محصّلاً ، أو أ نّه يطلب ديمومة ما كان حاصلاً ، وهذا يشبه ما نقول نحن في الصلاة : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
ويشبه الطريقة التي نوجّه بها هذا الدعاء لأنفسنا ونفسّره . فهنا نبحث في الآية الكريمة: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فظاهر الآية أن المقام الذي كان الأب والابن يدعوان الله سبحانه تعالى للوصول إليه ، مقام رفيع جدّاً ، تتوفّر فيه جهتان وخصيصتان :
أحدهما في قوله ـ مسلمين ـ أي التسليم المطلق بدون أيّ قيد مهما صغر ، وبدون أيّ تعليق ولو مختصر .
الثانية إنّ الجهة التي نسلّم إليها هي {مسلمين لك} ، وهذا مقام رفيع جدّاً ، وهو المقام الذي يكون فيه الإنسان أمام الله تعالى في حالة من التسليم المحض ، لا في مقام العمل فقط ، وإنّما في مقام الإعتقاد ، وفي مقام الفكر . لأ نّنا قد نرى مسلماً يعيش حالة التسليم في مقام العمل ، لكنّه في مقام الإعتقاد قد يحمل بعض الأفكار غير السليمة ، فقد يذهب هذا الشخص إلى مكّة وهو يعيش حالة التسليم والامتثال ، ولكن قد تخطر في باله بعض الأفكار من قبيل أن يقول لنفسه: أليس من الأفضل أن تبنى هذه الكعبة على سفوح الجبال الخضراء ذات الحدائق ،
(الصفحة 19)
ليرتوي الإنسان من الماء البارد هناك؟
وهذا اللون من الخواطر والتفكير معناه أ نّ هذا الشخص ليس لديه تسليم قلبيّ خالص ، فالتسليم القلبيّ الخالص يعني أن لايخطر في باله شيء من هذا القبيل قيد أنملة .
وبعبارة اُخرى: إنّنا في البحوث العلميّة قد تواجهنا ثمّة إشكالات نحاول أن نردّ عليها ، أمّا التسليم الخالص فمعناه أن لا يوجد هناك أيّ إشكال ، وهذا يكشف عن اعتقاد راسخ ، وإيمان ويقين في مستوى عال جداً ، بحيث لا يرقى إليه أيّ إشكال ، فلا إشكال في البين كي يستتبع تبرير .
مثل هذا الإنسان ذو الأيمان الصلب لايرد عليه مثل هذا الإشكال ليبرّره بعد ذلك بأ نَّ الله أعلم بما يصلح ، وأ نّه أحاط بكل شيء علماً ، والأجوبة من هذا القبيل تجاه الواردات القلبية لاتمثّل حالة التسليم المطلق ، فالتسليم المطلق أعلى وأرفع مقاماً ورتبةً بكثير ، ويتمثّل بالانقياد التامّ لله تبارك وتعالى في جميع المجالات .
فعلى سبيل المثال فإن كلام سيدنا آدم (عليه السلام) بحسب الظاهر دون مستوى التسليم المطلق ، حيث طرأ على ذهنه هذا الإشكال وهو: لماذا نهاني الله عن الأكل من هذه الشجرة؟ ولو لم يخطر هذا التسأول على باله لما استطاع الشيطان بوسوسته أن يغيّر شيئاً من الأمر ، ومع التسليم المطلق لايبقى أيّ مجال لخطور مثل هذه الأفكار في مخيّلة الإنسان .
وهنا نقول: إنّ الدعوى المطروحة للبحث هي قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، لقد دعا إبراهيم بهذا الدعاء في أواخر عمره وفي حال بنائه للكعبة رمزاً لتوحيده ومركزه حتّى تقوم القيامة ، ومن ثمّ يكمل دعاءه بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ولنا وقفة طويلة مع هذه الآية ، حيث نرى إبراهيم وإسماعيل (عليه السلام) وفي ظلّ تلك الظروف الحسّاسة دعوا الله سبحانه وتعالى أن يجعل من ذريّتهما ـ أي من
(الصفحة 20)
ذريّة الابن والتي تنتهي بالتالي إلى الأب ـ اُمَّة مسلمة ، فجمع بين ذريّة الأب وذريّة الابن بضمير الجمع للمتكلم «نا» ، وهذا الدعاء على وزان قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} لقد أراد إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) لذريّتهما من إسماعيل (عليه السلام) أن تكون لديها حالة التسليم {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، كما أرادا ذلك لأنفسهما من قبل {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} .
إذن ، تبيّن لنا أ نّ أحد أدعية إبراهيم (عليه السلام) هو أن تكون هناك اُمّة من ذريّة إبراهيم عن طريق إسماعيل مسلمة لله ، ويبدو أ نّ الله تعالى عندما نقل هذا الدعاء عن لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، وسكت قد استجاب لهذه الأدعية بقرينة الآية الكريمة: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ، وهنا قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فأجاب الله على الفور {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . أي: لا تتصوّر يا إبراهيم أ نّ الأمر سيكون إلى جميع ذرّيتك ، وأعلم أ نّ الظالم لاينال مقام العهد والإمامة ، فمقام الإمامة ومقام الظالم لا يلتقيان أبداً ، هنا بيَّن الله سبحانه وتعالى المسألة إلى إبراهيم وأجابه بسرعة ، لكنّه بعد أن ينقل دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ويسكت عن بيان النتيجة والجواب ، فإنّ هذا السكوت يعني أ نّ هذا الدعاء مقبول: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَةً لَكَ} مقبول: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}أيضاً مقبول . فما نلاحظه هو أ نّ إبراهيم (عليه السلام) بعد أن استجيبت دعوته بأن يكون هو وإسماعيل مسلمين ، دعا بأن تكون هناك اُمّة ميزتها وخصوصيّتها أنّها {مُسْلَِمةً لَكَ} .
المراد بالظلم في المفهوم القرآني
وكيف كان ، فإنّ الآيتين تشتركان نوعاً في هذه المسألة ، وهي أ نّ إبراهيم في دعائه كان يطمع أن تصير الإمامة والقيادة ـ قيادة المجتمع مثلاً ـ إلى ذريّته ، وتتمثّل
(الصفحة 21)
فيهم كما اختصّها الله سبحانه وتعالى به وتلطّف بها عليه حيث نصبه بقوله تعالى: {جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ، ولكن في تلك الآية فإنّ القضيّة طرحت بصيغة السؤال ، حيث سأل إبراهيم (عليه السلام) ربّه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي هل للبعض من ذرّيتي نصيباً في الإمامة والقيادة قيادة الإمامة ، فجاء الردُّ من قبل الله سبحانه وتعالى ، وهو قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
ويبدو لنا إذا قارنّا بين هذه الآية وتلك ـ خاصّة بعد الأخذ بنظر الاعتبار ـ ما أشرنا إليه من أ نّ الآيات: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ . . .} تحكي عن الظروف التي انطلق الدعاء في أجوائها . حيث تصوّر لنا الآية أ نّ إسماعيل كان شابّاً ذا نظارة وممتلئاً بالطاقة والحركة ، وبإمكانه مساعدة إبراهيم في بنائه للبيت الحرام ، وبناءاً على أ نّ هذه الآية جاءت بعد الآية التي يقول فيها تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} ، فعمر إبراهيم (عليه السلام) يدلّنا على أ نّ هذه الآيات في تسلسلها الزمني تأتي متأخّرة عن تلك الآية ـ والآن إذا قرنّا بين الآيتين ، نرى أ نّه في الآية الأولى يسأل إبراهيم ربّه قائلاً: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فيردّ عليه تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
في الحقيقة هنا حصل إبراهيم على معيار أو ملاك معيّن حيث فهم أ نّ المرشّح لأمر الإمامة بالجعل الإلهي والعطاء الإلهي يجب أن لايمت إلى الظلم بأيّة صلة . واستناداً إلى الرّوايات ، وكذلك بحكم التناسب أو السنخية الموجودة بين الحكم والموضوع فإنّ عدم التلبّس بالظلم هو شرط ليس فقط عند التصدّي لأمر الإمامة ، بل يجب أن يكون الإمام غير متلبّس بالظلم في الماضي أيضاً ، أي أن يكون بعيداً عن الظلم طوال عمره . والمقصود من الظلم هنا ليس المعنى المتداول بيننا وفي استعمالاتنا العرفيّة . والظلم له معنى خاص ، وفهم العامّة للظلم هو أن يسرق شخص مال شخص آخر ، أو أن يضرب إنسان إنساناً آخر بلا أي مبرّر ،