(الصفحة 109)
بالنسبة للمغبون في المعاملة يكون ضررياً . هنا بناءً على قاعدة لا ضرر ، يثبت الخيار .
إذن ، رأي الشيخ الأنصاري (قدس سره) هو أن ما يأتي بعد «لا» النافية هو صيغة للحكم المحذوف ، أي أ نّ «لا ضرر» تعني لا حكماً ضررياً ، لا عدم الحكم الضرري ، أي لايمكن أن ينتفي الحكم إذا كان انتفاؤه ضرريّاً . ثمّ يفسّر قاعدة «لا ضرر» بالمعنى التالي: وهو أ نّكم أينما وجدتم حكماً يستلزم الضرر ، فلابدّ أن تستدلّوا بالقاعدة بأ نّه لا وجود لهذا الحكم ، وإذا رأيتم أ نّ عدم الحكم ، أي انتفاء الحكم يستدعي الضرر فلابدّ وأن تحكموا استناداً إلى القاعدة أنّ عدم الحكم غير متحقّق ، بل إنّ هناك حكماً قد تحقّق .
النفي الحقيقي والإدّعائي
ويّتفق المرحوم المحقّق الآخوند (قدس سره) في كتابه «الكفاية» مع المحقّق الشّيخ الأنصاري (قدس سره) في أ نّ «لا» هنا ، نافية ، ولكنّه يفسّر العبارة بطريقة متفاوتة فيقول: لدينا استعمالات كثيرة تشبه إلى حدٍّ ما عبارة «لا ضرر في الإسلام» وهذه الاستعمالات على نوعين: البعض منها على نحو الحقيقة ، والبعض الآخر مبتنية على الإدّعاء والزعم ليس إلاّ . فمثلاً إذا لم يكن هناك رجلٌ في الدار وأردت أن تخبر عن ذلك فتقول: لا رجل في الدار . هنا أنت تنفي حقيقة كون رجل في الدار . ونفي الحقيقة هذا «على حدّ تعبير المرحوم الآخوند (قدس سره)» إنّما يبيّن على نحو الحقيقة . فعندما لايكون هناك رجلٌ في الدار ، وأردت الإخبار عن ذلك بقولك «لا رجل في الدار» هنا نفيت الرجولية في الدار على نحو الحقيقة ، وليس على نحو الزعم والإدّعاء .
ولكن هناك استعمالات من نوع آخر ظاهرها نفي الحقيقة ، ولكن بعد النظر والإمعان نرى أ نّ نفي الحقيقة في هذه الاستعمالات ليس على نحو الحقيقة وإنّما على
(الصفحة 110)
نحو الإدعاء . ومثال ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «يا أشباه الرجال ولا رجال»(1) .
فهنا الإمام (عليه السلام) ينفي عنوان الرجال وحقيقة الرجال . ولكن هذا النفي لا على نحو الحقيقة ، بل على نحو الإدّعاء . أي أنّه إذا وجد هناك رجال ، ولكن لم يلمس فيهم خصال الرجال ، من قبيل الحميّة والغيرة والشهامة والشجاعة ، حينئذ يمكن أن يقال على نحو الإدّعاء «لا رجال» لا على نحو الحقيقة . يقول المرحو الأخوند (قدس سره): إنّ عبارة «لا ضرر في الإسلام» هي من قبيل قول الإمام (عليه السلام) «لا رجال» فالإسلام يريد أن يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أ نّ الآثار والصفات المترتّبة في الموارد الضرريّة «هنا يقع المرحوم في مغالطة ولسنا هنا بصدد بيان هذه المغالطة» من قبيل الوضوء الضرري والغسل الضرري تنتفي ، وحينئذ لايبقى هناك وضوء ولا غسل . أي أ نّ الوضوء إذا خرج عن كونه حكماً وانتفت منه صفة المقدّمية للواجب لايعدّ وضوءاً .
وبعبارة اُخرى: الوضوء مع احتمال الضرر ليس بوضوء . لانعدام آثار الوضوء من قبيل الوجوب والمقدميّة للصّلاة .
ونلاحظ على المرحوم المحقق الأخوند (قدس سره) بالإضافة إلى مغالطته ، أنّه يرى أ نّ الآثار والصفات المترتّبة على الموارد الضرريّة تنتفي بقاعدة لا ضرر . فوجوب الوضوء مثلاً ، إذا كان ضرريّاً فإنّ قاعدة لا ضرر تأتي وتنفي هذا الوجوب كمقدّمة للصلاة . إذن ، في الحقيقة هو يفسّر «لا» بأ نّها نافية ، ولكنّه لا يوجّه النفي إلى الحكم مباشرةً ، بل يوجّه حكم النفي باتّجاه الموضوع الضرري ويقول: إنّ حقيقة هذا الموضوع منتفية ، أي ينفي ماهيّة الوضوء باعتبار أ نّ الوضوء الضرري لا يتحقّق فيه آثار وصفات الوضوء .
- 1 . كفاية الاصول : 381 . وراجع نهج البلاغة ، الخطبة : 27 .
(الصفحة 111)
إلى هنا ننتهي من بيان رأي هذين العلمين ، وننتقل الآن إلى من قال بأ نّ «لا» في قاعدة لا ضرر تفيد النهي .
رأي الشيخ الشريعة المحقق الأصفهاني (قدس سره):
ولشيخ الشّريعة المحقق الأصفهاني (قدس سره) في هذا المضمار كلام صريح حيث يقول: إنّ قاعدة «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» معناها أنه لا يحقُّ لأحد في الإسلام أن يلحق الضرر بالآخرين . وهذا نهيٌ وخطابٌ تكليفي . ثمّ يذكر عدّة آيات تشابه في دلالتها على النهي قاعدة لا ضرر منها قوله تعالى:
{فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(1) .
فهنا لا رفث يعني: يحرم الرفث في الحجّ ، يحرم الفسوق في الحجّ ، يحرم الجدال في الحجّ . ويقول (قدس سره): إنّ قاعدة لا ضرر في الإسلام هي ينفي هذا المعنى ، أي يحرم الضرر . فـ«لا ضرر» تدلّ على أ نّ هناك تكليف من قبل الباري مفاده: أ نّ إضرار المسلم بأخيه المسلم هو من الأعمال المحرّمة إلى يوم القيامة(2) .
الإمام الخميني والنهي الولائي
وأمّا الإمام القائد (قدس سره) فيرى أيضاً أ نّ قاعدة «لا ضرر في الإسلام» تفيد النهي أيضاً . ويعتقد أ نّ النهي هنا هو من باب حرمة الضرر في الإسلام . لكنّه يقول: إنّ حرمة الإضرار هذه لا يكون حكماً إلهيّاً ، بل إنّ الحرمة هنا هو حكم ولائي من قبل الرسول . فالرسول له شؤون مختلفة ، منها النّبوة والوساطة في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى ، وللرسول عنوان آخر ، وهو كونه حاكم على المسلمين . وبناءً على
- 1 . البقرة: 197 .
- 2 . قاعدة لاضرر ولا ضرار ص37 ، الفصل الثامن ، (ط) مؤسسة آل البيت .
(الصفحة 112)
ذلك له الحقّ في أن يتدخّل في اُمور المسلمين ويحكم بما يراه ، لأ نّه وليّ أمر المسلمين .
وهذا ما نراه واضحاً في قضيّة سمرة بن جندب ، حين تدخّل الرسول الأكرم (قدس سره)وحكم لصالح الرجل الأنصاري ، لأنّ سمرة كان يدخل دار الأنصاري دون أن يستأذن ، أو يعلم الرجل الأنصاري وزوجته حين دخوله . وهذا ما يسّبب إحراجاً للأنصاري وزوجته التي فوجئت أكثر من مرّة بدخوله وهي على غير حجاب ، فطلب منه أن يستأذن ويُعلم من في الدار بدخوله فأبى بحجّة أ نّ النخلة في دار الرجل الأنصاري ملكه ، ومن حقّه أن يأتي إليها متى ما شاء ، وبعد أن شكى الرجل الأنصاري إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أحضر الرسول سمرة ، وخاطبه بلين في أن يستأذن قبل أن يدخل الدار ، فلم يقبل ذلك .
فطلب منه (صلى الله عليه وآله) أن يبيعها بأكثر من ثمنها ، وأبدى استعداده لشراء النخلة منه مهما كان الثمن . وقال له: أعوض نخلتك هذه بنخلة في الجنّة . ولكن سمرة بن جندب رفض هذه العروض ، هنا التفت الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى الرجل الأنصاري وقال له: أذهب وأقطعها فلا ضرر في الإسلام(1) .
من وجهة نظر الإمام الخميني (قدس سره) فإنّ لا ضرر ليس حكماً تحريمياً مثل «لا تشرب الخمر» ، أي أنه ليس حكماً تحريمياً ثابتاً إلى يوم القيامة . بل هو حكم ولائي يدخل ضمن المهامّ الحكوميّة للرسول (صلى الله عليه وآله) شرّعه الرسول حفاظاً للنظام الموجود في مجتمعه (صلى الله عليه وآله) آنذاك . ومن هنا فإنّ مقولة «لا ضرر» على رأي سيّدنا الإمام (قدس سره)لاتفيد الفقه لا من قريب ولا من بعيد . كما أ نّه يعتقد بضرورة فصل هذه المقولة عن فقهنا .
- 1 . وسائل الشيعة 25 : 429 ، باب عدم جواز الإضرار بالمسلم ، الحديث 1 و 3 و 4 .
(الصفحة 113)
ومن هنا يمكن أن نقول: أ نّ قاعدة لا حرج تمتاز على مقولة لا ضرر بأ نّها لا يصدق فيها هذا الكلام .
الأقوال الأربعة وقاعدة نفي الحرج
هنا قد يتساءل: هل تجري هذه الأقوال الأربعة في قاعدة نفي الحرج جميعها ، أولاً ؟ .
في الجواب على ذلك نقول: إنّ القولين اللذين يعتبران أ نّ «لا» في «لا ضرر» ناهية ، ويفسّران القاعدة على هذا الأساس لايمكن تسريتهما في قاعدة لا حرج ، لأ نّ قاعدة «لا حرج» تتضمّن «ما» ولا توجد فيها «لا» كي يترّدد في شأنها: هل هي «لا» ناهية أم نافية؟
أضف إلى ذلك أ نّ ظهور العبارة يفيد الاخبار والحكاية . ولايمكن أن نتصور أ نّ مفاد قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هو جملة إنشائية . إذن ، هذان الرأيان لايردان في هذه القاعدة ، وأمّا بالنسبة للتعبيرات الاُخرى من قبيل {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} بمعنى أ نّ الله عزّوجلّ أراد أن ينفي إرادة الإعسار بكم ، فلا معنى للنهي . صحيح أن هناك «لا» قد وردت ، لكنّها نافية وليست ناهية .
والآية الاُخرى التي لابدّ من التوقّف عندها هي قوله تعالى على لسان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} . هذه الآية جاءت بصيغة الدعاء والطلب . وبناءً على القواعد اللغوية والأدبية فإنّ «لا» هنا ناهية ، ولذا جزمت الفعل المضارع . ولكن هذا لايعيّن أ نّ السياق في هذه الآية يفيد النهي الوارد على لسان الرسول بصيغة الدعاء . أي أ نّ القاعدة ليس مفادها «لا تحمل» . بل مفادها هو الإستجابة ، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق . حيث قلنا : إنّ