(الصفحة 38)الجهاد في الله والجهاد في سبيل الله
فقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1) يشعرنا أ نّ المجاهدة في الله غير المجاهدة في سبيل الله ، حيث أن لها آثاراً ، وآثارها هي قوله تعالى:
{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، فالذي يجاهد على حدّ تعبير القرآن (فينا) ، أي في كافّة الأبعاد الإلهيّة وفي جميع الاُمور التي تمّت إلى الله سبحانه وتعالى بصلة يقول عنه الله سبحانه وتعالى:
{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي نرشدهم إلى السبيل التي تؤدّي بهم إلى الله ، فالقرآن الكريم أشار في هذه الآية الشريفة إلى المجاهدة في أعلى مراتبها ، حيث يقول تعالى:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ} ثمّ يضيف قائلاً:
{حقَّ جهاده} .
هل يحقُّ لنا هنا أن نذهب إلى ما ذهب إليه أغلب المفسّرون من أن المراد في هذه الآية هو أن تصلّوا وتصوموا؟
هل لنا أن نحمل قوله تعالى:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} على فعل الطاعات واجتناب المعاصي؟
هل يوجد هناك ثمّة آية اُخرى في القرآن الكريم عبَّر فيه سبحانه وتعالى عن الطاعة والمعصية بمثل هذا التعبير؟
لا شكّ أن قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يعبّر عن مقام شامخ ورفيع . ولذلك نرى أن القرآن الكريم لم يكتفِ بالمجاهدة في الله ، بل أضاف إليه قوله:
{حقَّ جهاده} ، والآن كيف يمكن لنا أن نفسّر ذلك كلّه بأن القرآن يريد أن يقول: ألزموا جانب الطاعة ولا ترتكبوا المعاصي؟
أضف إلى ذلك قوله تعالى في تتمة الآية:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} فإنّه لابدَّ وأن يتطابق مع ما تقدّم من الكلام ، وأن يكون من سنخه ، وبناءاً على ذلك فهل يصح أن نفسّر
(الصفحة 39)
الآية بهذا المعنى ونقول: إنّ الله سبحانه وتعالى لمّا اجتباكم كامَّة بكامل أفرادها ، إذن عليكم أن تطيعوه ولا تعصوه؟ وهنا نتساءل: ألم يتوجب على الاُمم السابقة اجتناب المعصية؟ فما هي الميزة في قوله تعالى:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} التي يتوجب من خلالها لزوم الطاعة واجتناب المعصية؟ فالاُمم الاُخرى السابقة هي الاُخرى أمرت بأن تلزم جانب الطاعة وتجتنب المعصية .
الآية هنا تخاطب الأئمّة (عليهم السلام) وتقول: بأنّكم قد اجتباكم الله واختاركم من دون خلقه ، ولذلك فإنّ المسؤوليّة الملّقاة على عاتقكم والواجبات المنوطة بكم تختلف عن عامّة النّاس وعامّة المسلمين . أنتم عليكم أن تكونوا مصداقاً لقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} بل يؤكد في الآية الاُخرى:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أنكم لابدّ وأن تجسّدوا أعلى مراتب الجهاد في الله لقوله تعالى:
{حقَّ جهاده} ، لماذا؟
لأ نّ الله عزّوجلّ هو الذي اجتباكم ، أنتم قادة الاُمّة أنتم المتصدّون لمقام الإمامة ، وبديهيّ أن المسؤوليّة الملقاة على عاتق من اجتباهم الله واختارهم هي مسؤوليّة عظمى ، وتختلف كثيراً عن المسؤولية الملقاة على عاتق عامّة النّاس ، فإذا قارنّا هنا بين الآيتين ، آية
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وآية:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لرأينا أن الخطاب هنا لايمكن أن يكون موجهاً لعامّة النّاس ، بل هو خطاب خاصّ موجّه إلى الذين اجتباهم الله تبارك وتعالى(1) .
- 1 . اشكال وجواب قد يقال: إنّ آية: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} كقوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} والثّانية عامّة تشمل جميع المخاطبين من المؤمنين ، فكذلك الاولى .
- فنقول إنّ: {اتَّقُوا اللهَ} غير {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ} ولا توجد هناك أية علاقة بين الإثنين .
- فقوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} خطاب عام للجمع ، والجميع مكلّفون بالأخذ به ، أما الآية محل البحث فقد اثبتنا بالقرائن العديدة أنها تخصّ عدة معينة من المؤمنين ، ولعلّ في الآية {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} من المعاني مالا يمكن أن ندرك كنهها بعقولنا .
(الصفحة 40)
ومن هنا ، يبدو جلّياً ومن خلال منطوق الآية والآيات التي تحدثت عن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، أن المخاطبين في هذه الآية هم الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ولو لم تكن هناك أيّة رواية في تفسير هذه الآيات فإن التدبّر في القرآن يكفي للتوصّل إلى هذا المعنى ، ومزيداً للأطمئنان نستشهد برواية في تفسير هذه الآية لرفع أية شبهة يمكن أن ترد في هذا المجال .
رواية اُصول الكافي
في كتاب اُصول الكافي يوجد باب في أن الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) شهداء الله على خلقه ، الرواية الرابعة في هذا الباب رواية عالية السند ، وإن كانت هناك ثمَّة مناقشة في السند ، ولكنّنا حققنا فلم نجد أيّ إشكال أو مناقشة في واقع الأمر .
الرواية عن علي بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، وقد ناقش البعض في إبراهيم بن هاشم ، ولكنا حققنا في مجال الفقه في شخصيّة هذا الرجل وتبيّن لنا أ نّ الرجل ثقة ، وإمامي ، وصحيح الرّواية ، وإبراهيم بن هاشم هذا يروي عن محمد بن أبي عمير عن ابن اُذينة عن بريد العجلي ـ وكلّهم من الرّواة المعروفين ، إذن الرواية جيّدة السند ، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما معنى قوله تعالى:
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ومن هو المخاطب في هذه الآية الشّريفة؟
قال (عليه السلام):
«إيّانا عنى ونحن المجتبون» .
ثمّ يسأله الرّواي عن الآية:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
فأجابه (عليه السلام) بقوله:
«إيّانا عنى خاصّة» .
فإبراهيم أبوهم حقيقة ، ثمّ سأله عن معنى قوله تعالى:
{سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} ، فأجاب (عليه السلام):
«الله سمّانا مسلمين من قبل في الكتب الذي مضت وفي هذا القرآن» وعن معنى الآية الكريمة:
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ
(الصفحة 41)
عَلَى النَّاسِ} .
يقول (عليه السلام):
«فالرسول شهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك وتعالى» . أي أنه (صلى الله عليه وآله) شاهدٌ عليهم على المستوى التبليغي وعلى المستوى العملي لما بلغهم ، ثمّ يقول (عليه السلام):
«ونحن الشّهداء على النّاس» ثمّ يفرع على ذلك فيقول:
«فمن صدق يوم القيامة صدقناه وإن كذب كذبناه»(1) .
وهذا يعني أن أعمال النّاس كافّة عند الأئمّة (عليهم السلام) ، وهم مطّلعون عليها لكونهم شهداء . وميزة الشهيد هو إمّا التصديق أو التكذيب ، كلاهما يتفرّعان عن العلم والإطلاع ، وفي فرض عدم الإطلاع لايبقي للتصديق أو التكذيب أيّ معنى . ويبدو أنّنا قد خرجنا عن إطار البحث ، لكن لايخلو خروجنا هذا عن فائدة ، وسنبحث فيما بعد عن وجه العلاقة بين هذه المواضيع التي أشرنا إليها وبين أصل البحث .
وعلى أي حال ، فقد اتضح من التدقيق في هذه الآيات أن لدينا مسألتان:
أحداهما: إمامة الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) لكونهم من بني هاشم وذرّية إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام).
والاُخرى: كونهم شهداء على الناس ، وهذا يعني أنّهم مطلعون على أعمال الاُمّة كافّة ، وأنهم يعلمون الغيب وهذا مقتضى الآية بغضّ النظر عن الروايات والتي بدورها تؤيّد هذا المعنى .
نتيجة البحث
في بداية البحث ذكرنا الآية:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} للاستدلال بها في موضوع الحرج ، فهي من جهة تصلح لأن تكون خير دليل على
- 1 . الكافي 1: 189 ، في أ نّ الأئمّة شهداء الله عزّوجلّ على خلقه ، الحديث 4 .
(الصفحة 42)
هذا الموضوع ، ومن جهة اُخرى فإنّ الخطاب في هذه الآية غير موجّه لكافّة الناس . وبناءً على هاتين المقدّمتين توصلنا بعد البحث والمناقشة إلى أن المخاطبين في الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هم الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) خاصّة . والآن هل يحقّ لنا أن نقول: إن الآية {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لاتفيد الحصر؟ أيّ إننا بعد أن أثبتنا بالشواهد والقرائن أ نّ المخاطبين هم خصوص الأئمّة (عليهم السلام) . هل نستطيع الاستدلال على أن هذا الحكم هو حكم كلّي وعام ، ولايتنافى مع قولنا: إن الله لم يجعل على الأئمّة من حرج ، ولم يجعل على سائر النّاس أيضاً في الدين من حرج؟
والصحيح أن توجيه الخطاب إلى المعصومين (عليهم السلام) لايعني أن الحكم يختصّ بالأئمّة (عليهم السلام) ، بل يكون نفي الحرج حكماً عامّاً ، ولكنّه ورد في خصوص الأئمّة لوجود مناسبة إقتضت ذلك .
وبعبارة أوضح: إن مسألة رفع الحرج في الدين الإسلامي مسألة عامّة ، وكما سيتضح هذا المعنى فيما بعد من الروايات والآيات ، فإنّ الآية هذه في مقام الامتنان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهي بالإضافة إلى الجوانب الاُخرى التي يمكن الكشف عنها من خلال الرّوايات تبيّن لنا العناية الربانية التي إختصها الله تبارك وتعالى باُمّة الرسول (صلى الله عليه وآله) دون سائر الاُمم والأديان السالفة ، وبالطبع فإنّ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) بما أنّهم اُمّة النّبي (صلى الله عليه وآله) بالمعنى الأعمّ مشمولين بهذه المنّة والعناية الرّبانية .
عود إلى قاعدة الحرج
نعود إلى أصل الموضوع ، فنقول: أن موضوع نفي الحرج الذي تحدثت عنه الآية الشّريفة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} موجّه بالدّرجة الاُولى إلى الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) إلاّ أن كون الخطاب القرآني موجّهة إلى الأئمّة ، لايعني أن