(الصفحة 27)
إن القرآن الذي فيه بيان كلّ شيء لابدَّ وأن يبيّن بعضه بعضاً (1) . أي من خلال التمعّن في الآيات مجتمعه ، ومن خلال التوفيق والملائمة فيما بينها ، يتّضح لنا المعنى بصورة كاملة . فإبراهيم (عليه السلام) يقول: إنّ الرسول منهم ، وأنّهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، يعني إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) من ذريّة إبراهيم وإسماعيل ، والاُمّة كذلك من ذريّة إبراهيم وإسماعيل . أي: ابعث فيهم رسولاً بينهم ممّن يتّصف بمقام الإمامة ، واعطه ميزة اُخرى وهي ميزة الرسالة والنّبوة ، فميزة النّبوة تختص بأحدهم ، وأمّا ميزة الإمامة فتتعلّق بهم جميعاً ، فالرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) بالإضافة إلى اختصاصه بمنصب الرسالة فإنّه يختصّ أيضاً بالإمامة ، فالرسول (صلى الله عليه وآله) تتوفّر لديه كلتا الجهتين: الإمامة والرسالة
{وابعث فيهم رسولاً منهم} ، وضمير الجمع للغائب [ هم] يدل على قوله
{ومن ذريتنا} بقرينة الآية السابقة .
هنا يعترضنا السّؤال التالي : ما هو الدّور الذي يؤدّيه الرسول في هذه الاُمّة المسلمة؟
الجواب: أ نّ دور الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو دور المعلّم والمربّي والمزكّي ، وهؤلاء تلامذة الرسول (صلى الله عليه وآله)
{يتلو عليهم} على الاُمّة المسلمة
{آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
حلّ التعارض الظاهري بين الآيات
هنا قد يثبّ إلى الأذهان هذا السؤال وهو: أ نّ التعبير بقوله:
{ يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة } قد ورد بنفسه ومن دون تغيير في آية اُخرى مطلعها قوله تعالى:
{لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ
(الصفحة 28)
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ . . .} (1) ، أليس المراد بالمؤمنين هنا جميع المؤمنين؟ وقوله تعالى:
{إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فقد كرّر الشطر الثّاني منه في الآية
{لقد منَّ الله . . .} في حين أ نّ الآية الثانية تفيد العموم ، ولا تختصّ بالأئمّة (عليهم السلام) قطعاً .
ويمكننا أن نجيب على هذا الإشكال بتقديم إشارة ومقدّمة وهي أ نّ الآية الثانية
[{لقد منَّ الله على المؤمنين}] تنتهي بقوله تعالى:
{وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} ، أمّا في الآية التي نحن بصددها
[{إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا . . .}] إنتهت بقوله
{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} ولم تختم بما اختتمت الآية السابقة .
وهذا ما يوصلنا إلى الجواب وهو: إنّنا نلاحظ أ نّ الدروس التي نتلقّاها والمسائل العلميّة التي نبحثها تنطوي على مراحل ، فالذي يدرس كتاب المعالم يدرس الاُصول ، والذي يدرس الرسائل هو أيضاً يدرس الاُصول ، والكفاية أيضاً هي من علم الاُصول ، وكذا الحال بالنسبة للذي يدرس الاُصول الخارج مدّة عشرين سنة ، فهو أيضاً يدرس الاُصول ، ولكن دروس الاُصول هذه تختلف فيما بينها اختلافاً شاسعاً ، فلا نستطيع أن نقارن بين هذه الدروس من حيث المرحلة والرتبة .
ومن هنا نقول: إنّ كون الرسول معلّماً وكونه مزكّياً ومربّياً يختلف باختلاف التلاميذ ، ففي الآية:
{لقد منَّ الله على المؤمنين . . .} عندما نلاحظ تتمّتها وهي قوله تعالى:
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} تتّضح لدينا نقطة مهمّة جدّاً ، وهي أ نّ تزكية وتعليم الرسول لهؤلاء ، إنّما كانت لإخراجهم من الظلالة التي تحيط بهم من جوانب مختلفة ، فالهدف من تربية وتزكية وتعليم الرسول هو إنقاذ هؤلاء
(الصفحة 29)
من الجهل الذي يعيشوه ، وإنقاذهم من العشوائية التي يتخبّطون فيها ، سواء على الصعيد الفكري ، أو على الصعيد السلوكي والعملي ، وهذا ما يتمثّل بالشرك والسلوك اللا إنساني والمنحرف الذي كان يمارسه هؤلاء ، إذن تعليم الرسول وتربيته وتزكيته في هذه الآية تشمل الجميع بقرينة قوله تعالى:
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} .
ولكن نفس هذا المربّي والمعلّم عندما يكون تلاميذه على حدّ تعبير الآية الكريمة
{أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فإنّ دروس التّربية والتعليم تكون في قمّة مدارج التعليم والتربية ، وفي آخر مراحل التربية والتزكية ، ولذا لانجد في هذه الآية عبارة:
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين} وإنّما اكتفت الآية بالتطرّق إلى التربية والتعليم بالذات ، وهذا هو عين الحقِّ والصواب . إذ لا يمكننا القول أ نّ الرسول (صلى الله عليه وآله) ربّى علياً (عليه السلام) كما ربّى غيره من النّاس العاديين ، فهل بمقدورنا أن نقول: إنّ العلم الذي علّمه الرسول (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) ، علّمه سلمان (رحمه الله) أيضاً ؟
وهنا لابأس من الإشارة إلى الرواية التي ذكرناها في بحث التعادل والترجيح عن كتاب سليم بن قيس الهلالي ، فقد ورد في الفقرة الأخيرة من هذه الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:
«علّمني رسول الله (صلى الله عليه وآله)
الف باب من العلم ، يفتح من كلّ باب ألف باب»(1) .
إذن نعود فنقول : هل التعليم الّذي يتلقّاه أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس التعليم الذي يتلقّاه عامّة النّاس عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ؟ وهل التربية نفس التربية والتزكية ، أو أ نّ الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعليمه لعلي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) يعلّمهم آخر مراحل التعليم والتربية والتزكية ؟
- 1 . بحار الأنوار 38: 331 .
(الصفحة 30)
أمّا بالنسبة إلى التربية والتزكية العامّة فيلاحظ فيها مقتضى حال النّاس واستعدادهم ، إذن فتكرار قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} في الآية التي تتحدّث عن البعثة العامّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لايعني أ نّ المقصود من قوله تعالى: {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} هنا هم «المؤمنين» الذين تحدّثت عنهم الآية بقولها: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ . . .} بحيث يكون أفراد {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} هم المسلمين العاديين ، كلاّ . . إنّما المقصود من الأمّة المسلمة هم جماعة خاصّة لها صلاحيّة الإمامة ، وإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) دعوا الله سبحانه وتعالى لهذه الاُمّة بالإمامة ، كما أ نّهما طلبا من الله تعالى أن يرسل فيهم واحداً منهم يكون معلماً ومربياً حتّى على مستوى هذه الاُمّة المسلمة والتلاميذ المرموقين .
موقعية العترة من الرّسالة
ومن هنا نستنتج أن أساس الإمامة بالنّسبة لأئمتنا (عليهم السلام) الذين هم من ذرية إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يقع في عرض رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) صلوات الله وسلامه عليه ، فكلاهما في دعاء واحد وفي زمن واحد دعا به كل من إبراهيم وإسماعيل ، وأمّا غيرهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل فلم يستحقوا مقام الإمامة .
ثمّ إنّ الآية الكريمة: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} حيث كلمة «المؤمنين» المحلاّة بالألف واللام تفيد العموم . فلا فرق في آية: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ} بين ذريّة إبراهيم (عليه السلام) وغير ذريّة إبراهيم ، تجعلنا نميز الخطّ العامّ لكلّ آية ونفهم الهدف الذي تتوخّاه كلّ آية ونفرق بينهما . فبالنسبة للآية: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يلاحظ فيها جميع المؤمنين ، وأمّا بالنسبة للآية التي تتناول دعاء إبراهيم وإسماعيل بحقِّ ذريّتهما فنلاحظ فيها كلمة: {من ذرّيتنا} . وكما قلنا سابقاً فإنّ ظاهر الآية بقطع
(الصفحة 31)
النظر عن الروايات أو الرواية التي نحن بصدد عرضها هنا يحمل في نفسه هذا المعنى بالشكل الذي بّيناه .
هل المراد بالذّرية هم العرب بالخصوص؟
بعض المحققين والعلماء والمفسّرين من أهل السّنة من أمثال صاحب المنار الذي استوقفته هذه المسألة أراد أن يحمل عنوان {الاُمّة المسلمة} على المعنى الظاهري الذي يتبادر للذهن في الوهلة الاولى ، أي بمعنى المسلمين ، في هذه الحالة كيف سيتعامل مع {من ذريتنا}؟ ذلك أن المسلمين لايختصّون بذريّة إبراهيم ، بل لايختصّون بالعرب ، حيث يتواجد المسلمون في شرق العالم وغربه ، ويتوزّعون على شعوب وقوميّات مختلفة ، ويتكلّمون بلغات شتّى ، وإذا أراد أن يأخذ بما نقوله نحن ويفهم الآية بالشكل الّذي فهمناه ، فسوف يتزلزل أساسهم الفكري والعقيدي ، فإذا كان المقصود من ذريتنا في هذه الآية الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) وإمامتهم . فهذا يعني التراجع عن متبنّياتهم العقائدية . إذن ماذا يريد أن يقول في مثل هذه الحالة؟
يستفاد من آخر كلام له ، أنه فسَّر {من ذرّيتنا} بالعرب ، أيّ كلّ العرب ، ويستدلّ صاحب المنار على ذلك بآخر الآية والتي جاء فيها: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، حيث يقول: إن هذه العبارة تشير إلى مسألة ، وهي أن العرب ـ عرب الصحراء ـ بعيدون عن الحضارة ، فالعربي الذي يأبى الرضوخ لأيّ لون من ألوان النظم الإجتماعية كيف يمكنه تلقّي التعليم والتزكية والتربية؟ فجميع الضمائر من قبيل: {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} { ويتلو عليهم } تعود على العرب ولكن أين العرب من تلاوة آيات الكتاب؟ وأين العرب من التربية والتزكية؟ فالعربيّ الذي أنس الحرب والقتال والغارة كيف يتسنى له الآن أن يتعلّم ويترّبى