(الصفحة 120)آية الحرج ومفهوم الوصف
والآن نبحث هذه القاعدة من زاوية اُخرى ، فنقول هل الحرج الموجود في الآية ينطبق عليه عنوان الوصف؟ وإذا كان كذلك فما هو الموصوف؟
الموصوف هو الحكم ، فقوله:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} يعني ما جعل عليكم في الدين من حكم حرجي ، فهل الحرج هنا صفة ونعت للحكم ، أو أ نّ الحرج صفة لفعل المكلّف ، أي ما جعل عليكم في الدين من فعل حرجي وعمل حرجي؟ فإذا جعلنا الحرج صفة للفعل ، حينئذ يكون «وما جعل» بمثابة ، ما أوجب ، يعني: ما أوجب الله عليكم في الدين فعلاً حرجيّاً ، ولقائل أن يقول: ما الداعي لإثارة مثل هذا الاستفهام والخوض فيه؟
والذي يدعونا لإثارة هذه النقطة ، هو أ نّنا عادة ما نواجه حرجاً في موارد متعدّدة ، وعليه لابدّ أن نشخّص ما هي الاُمور التي تستدعي الحرج ، هل التوضؤ أو الإغتسال في جوّ شديد البرودة هو من الحرج؟ فإذا قلنا بذلك فمؤدّى ذلك أ نّ الأمر الحرجيّ هو ما كان يحسب حرجيّاً في الخارج ، أي أ نّ عمل المكلّف قد يسبّب حرجاً ، وهذا يستدعي أن نعتبر الحرج في الآية الكريمة صفة للفعل ، وإذا جعلنا الحرج صفة للفعل فيكون معنى الآية: ما أوجب الله عليكم فعلاً حرجيّاً ، وما أوجب الله عليكم وضوءً حرجيّاً .
ولكن هذا الفهم للآية غير موافق لظاهرها ، لأ نّ عبارة «من حرج» في الحقيقة حلّت محلّ مفعول مطلق نوعي ، فلو أردنا أن نمعن النظر في الآية من الناحية الأدبيّة يبدو أ نّ الحرج يتعلّق بالفعل . أي أ نّ الحرج صفة للفعل . فهو مفهوم نوعي مطلق ، هنا لابدّ من الإجابة على هذا السؤال ، وهو: هل المجعول الذي دلّ عليه فعل «جعل» هو نفس فعل المكلّف ، أو أ نّ المجعول هو عبارة عن الحكم الشرعي؟ أي أ نّ ما جعله الله تبارك وتعالى هو جعل الإيجاب كوجوب الوضوء ،
(الصفحة 121)
أو الوضوء بذاته غير مجعول من قبل الله ، وبغضّ النظر عن أ نّ الوضوء يتضمّن حقيقة شرعيّة ، فإنّ مواضع أفعال المكلّف ليست من المجعولات الشرعيّة . فليس بمقدورنا أن نقول بأ نّ الله تبارك وتعالى جعل الوضوء ، ثمّ نفسّر جعل الوضوء بمعنى أ نّه أوجب الوضوء . والصحيح أن الله جعل وجوب الوضوء ، ولذلك نرى أنهم يعبرّون عن الأحكام التكليفيّة بالمجعولات الشرعيّة . ففي شرب الخمر هل من الصحيح أن نقول: جعل شرب الخمر؟
قد يقال: إنّ الجعل في الواجبات التي ليس لها أيّة حقيقة شرعية يستعمل كذلك ، فهل من الصحيح أن نقول: إنّ الشارع جعل ردّ السّلام ، أو أ نّ الصّحيح هو أ نّ الشّارع جعل وجوب ردّ السلام ، فمجعول الشارع هو وجوب ردّ السلام لا ردّ السلام بذاته ، ردّ السلام فعل للمكلّف ، وهو أمر تكليفي وحقيقة خارجية . أ مّا ما يتعلّق بالشارع بما أ نّه جاعل فهو الحكم المتعلّق بردّ السلام ، أي وجوب ردّ السلام .
إذن ، لا معنى لأن نعلّق الجعل على الوضوء فنقول: جعل الوضوء ، ومن ثمّ نقول: جعل الوضوء يعني وجوب الوضوء . فالأحكام التكليفيّة هي المجعولة شرعاً ، وأمّا متعلّقاتها فليست مجعولة .
والسبب في إثارتنا لهذه النقطة التي هي خارجة عن دائرة بحثنا هو أ نّهم قالوا: لابدّ من تشخيص موارد الحرج في الخارج ، فالوضوء بالماء البارد في فصل الشتاء ممّا يستدعي الحرج ، وبناءً على ذلك فسّروا قوله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} بمعنى ما أوجب الله من فعل حرجي .
وفي مقام الردّ على هذا المعنى نقول: ليكن الوضوء بالماء البارد أمراً حرجيّاً ، فما علاقة ذلك بي كمكلّف إذا لم يكن الوضوء واجباً ، وكلمة «عليكم» التي وردت في الآية الكريمة توحي أ نّ الأمر مرتبط بالمكلّف ، وأمّا الوضوء فما لم يكن حكماً
(الصفحة 122)
تكليفيّاً لا يدخل ضمن اهتمامات المكلّف ، ولا ربط له به حتّى لو كان الفعل ممّا لا يطاق ، فما يتعلّق بالمكلّف هو التكليف ، وهناك أشياء كثيرة في العالم تستدعي الحرج ، فهل تريد الآية أن تربط هذه الأشياء بالمكلّف؟ إنّ الحرج المقصود إنّما هو بالتكليف ، فلو قالوا: يجب عليك أن تتوضّأ بالماء البارد في فصل الشتاء فقد ضيّقوا عليك ، وأمّا إذا لم يوجبوا الوضوء حينئذ لا يهمّك ما إذا كان الوضوء بالماء البارد فيه حرج أو ضيق .
إذن لابدّ أن نلتفت إلى هذه النقطة ، وهي أ نّ الوضوء بالماء البارد لا علاقة له بالمكلّف ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، إلاّ بعد أن يكون تكليفاً ، فمعنى الآية واضح وصريح ، وهو: ما جعل عليكم في الدين من جعل حرجي ، ولا معنى لأن نقول: الوضوء هو المجعول ، والفعل هو المجعول إلاّ على سبيل المجاز والمسامحة .
والشيخ الأنصاري (قدس سره) في بيانه لقاعدة لا ضرر اختار هذا المعنى أيضاً ، حيث إعتبر كلمة «ضرر» صفة للحكم وقال: إنّ «لا ضرر» يعني ما جعل في الإسلام حكم ضرري ، ويتّضح هذا المعنى بشكل أكبر في الآية:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ومن الناحية الأدبيّة أيضاً يفترض أن تكون العبارة «من حرج» مكان المفعول المطلق والذي يفيد النوع ، أي ما جعل عليكم في الدين جعلاً حرجياً .
محصّل القول: إنّ قاعدة لا حرج واضحة وصريحة في معناها ، وهو أ نّ الله تبارك وتعالى إمتناناً على الاُمّة الإسلامية وعلى الأمّة المرحومة لم يجعل لها حكماً حرجيّاً ، والأحكام التي جعلت للاُمّة هي أحكام غير حرجيّة .
قاعدة لا حرج والأدلّة المثبتة للأحكام
ثمّ ندخل في مباحث اُخرى ، في تحديد النسبة القائمة بين قاعدة لا حرج
(الصفحة 123)
والأدلّة للأحكام بالعنوان الاوّلي ، وبعبارة اُخرى : ماهي النسبة بين قاعدة لا حرج ودليل وجوب الوضوء؟ وأيّ نسبة بينها وبين الدليل الموجب للغسل ، وماهي العلاقة بينها وبين الدليل الذي يقضي بوجوب الصيام عندما يكون الصيام مستدعياً للحرج؟ إذ أ نّ تحديد النسبة بين قاعدة لاحرج والأدلّة الأوليّة هو من البحوث المهمّة .
البحث الآخر في أنه هل يوجد هناك ثمّة موارد خاصّة خرجت عن هذه القاعدة ، أو لا؟ ولو سلّمنا بوجود موارد خرجت بالتخصيص ، فهل هذه المواد كثيرة بحيث تجعل من قاعدة لا حرج قاعدة موهونة ، أو أ نّها ليست من الكثرة بحيث توجب الوهن في القاعدة؟
ومن المباحث الاُخرى في هذا المجال هو لو أ نّ إنساناً لم يستفد من التسهيل والإمتنان الذي توفّره له القاعدة ، ولنفرض أ نّه صام مع كون الصوم بالنسبة إليه حرجيّاً ، فهل يصحّ صومه أم أ نّ صيامه باطل؟ وهناك عدّة مواضع اُخرى كلّ منها مفيدة بحدّ ذاتها . نعود إلى البحث الأوّل الذي أشرنا إليه في النسبة بين قاعدة لا حرج والأدلّة الأوليّة المثبتة للتكليف .
المرحوم صاحب الرياض(1) والمرحوم النّراقي (قدس سره) في كتاب «العوائد»(2) ذهبا إلى الرأي القائل بأ نّ قاعدة لا حرج تعارض الأدلّة الأوليّة ، والتقابل الموجود هو تقابل العموم والخصوص من وجه ، فأيّ دليل من الأدلّة إذا ما قيس بالقاعدة سوف يكون بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ، فلو أخذنا قاعدة لا حرج مع دليل الوضوء على سبيل المثال نرى أ نّ دليل الوضوء ينصّ على أ نّ الوضوء واجب ، سواء إستدعى الحرج ، أو لم يستدعي ، فمفاد قاعدة لا حرج هو أ نّ الحكم
- 1 . لم نعثر عليه .
- 2 . العوائد ، ص64 .
(الصفحة 124)
الحرجي مرفوع ، سواء كان ضمن الوضوء ، أو غيره من الأعمال والأفعال التكليفية ، فهما يجتمعان في أمر واحد ، وهو الوضوء الحرجي ، ويفترقان بأمرين هما الوضوء غير الحرجي ، والآخر الحرج في غير الوضوء ، ففي الوضوء غير الحرجي ما به الافتراق هو دليل الوضوء ، وأمّا في باب الحرج الموجود في غير الوضوء ، فإنّ ما به الافتراق هو دليل نفي الحرج ، فيتعارض الدليلان ، أي دليل نفي الحرج مع دليل الوضوء ، إذن في حال تعارضهما ما هو الحلّ؟
حينئذ لابدّ من وجود حرج خارجي يمكن من خلاله حلّ المسألة على أساس قاعدة لا حرج ، وبدون حرج خارجي يبقى لدينا دليلان متعارضان ينفي أحدهما الآخر .
هذا تمام الكلام الذي أفاده هذان العلمان من علمائنا الكبار ، ولكن يبدو أنه في زمن هذين العلمين لم يكن عنوان حكومة الأدلّة مبيّناً ولم يكن في زمانهما وضوح في خصوص هذه المسألة . ومن هنا نجد أنه لمّا وصل الدور إلى المرحوم الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه الشّريف صرّح بهذا المعنى ، وهو أ نّ قاعدة لا حرج كقاعدة لا ضرر في دلالتها ، وهي حاكمة على الأدلّة الأوّليّة ، وهذا يعني أنه لايمكن لنا أن نقدّر النسبة بين الدليل الحاكم والمحكوم ، ولايمكن أن نقول: إنّ هناك إشتراك من جهة ، وإفتراق من جهتين ، كما أ نّه لا نلحظ منهما ـ أي في الدليل الحاكم والمحكوم ـ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر من حيث لسان الدليل ، حيث تنتفي هنا مسألة الظاهر والأظهر بين الدليل الحاكم والمحكوم ، بل إنّ الدليل الحاكم وإن كان ضعيفاً من حيث الدلالة فهو مقدّم على الدليل المحكوم ، لأ نّ الدليل الحاكم بمثابة الشارح والمفسّر للدليل المحكوم ، وظيفته الإشراف على الدليل المحكوم ، ولكن توجد في الدليل المحكوم جوانب عديدة غير ملحوظة ، سواء فيما يختصّ بموضوع الدليل المحكوم ، أو بما يرتبط بالمقدّمات أو بالنتائج .