(الصفحة 80)
السند فيها ، لكنّها من حيث الدلالة والمعنى رواية واضحة ومعتبرة ، وتتفرّد هذه الرواية عن غيرها من الروايات بميزة وهي قول الإمام بأنّه: لا حاجة لمثل هذا السؤال: لأ نّكم بإمكانكم أن تستفيدوا هذه المسألة من آية نفي الحرج ، وهذا أبلغ وأرفع درجة من مجرّد استشهاد الإمام بآية نفي الحرج .
وفي هذا المجال توجد هناك عدّة روايات نستشهد بواحدة منها في خصوص معنى الحرج والتي نحتاج إليها فيما بعد .
رواية قرب الإسناد
عبدالله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الإسناد ـ وكتاب قرب الإسناد ، كتاب صغير ، وقد طبع هذا الكتاب في زمن المرحوم السيّد البروجردي (قدس سره) ، والسبب بتسميته بـ«قرب الإسناد» هو أ نّ رواته قليلون ـ عن مسعدة بن زياد وهذا الراوي من الثقات .
قال مسعدة . . . عن جعفر عن أبيه عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال:
«مما أعطى الله أمتي وفضّلهم على سائر الاُمم ، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطهم إلاّ نبيّ . . . .»(1)وفي بعض النسخ وردت العبارة بصورة مغلوطة ، وهي: لم يعطها الأنبياء ، والصحيح: لم يعطها إلاّ الأنبياء ، أو لم يعطها إلاّ نبيّاً . أحد هذه الخصال هو رفع الحرج ، وذلك أ نّ الله تبارك وتعالى ، كان إذا بعث نبيّاً قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك ، أيّ أن الإجتهاد يجب أن لايوقعك في حرج ومشقّة ، وهذه من خصائص الأنبياء السابقين . ولكن بالنسبة إلى اُمم هؤلاء الأنبياء كان هناك حرج في التكليف ومشقّة .
(الصفحة 81)
وكما أشرنا سابقاً فان الآية الشريفة:
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، تفيدنا أ نّ الإصر كان محمّلاً على الاُمم السّابقة ، وكانت الاُمم مكلّفة بما فيه الحرج والمشقّة ، وقد استعرضنا بعض هذه التكاليف سابقاً .
نعود للرواية . يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في تتمّة قوله: إنّ الله تبارك وتعالى أعطى ذلك أمَّتي حيث يقول:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} وكما قلنا فإنّ الهدف من إستعراض هذه الرواية هو أ نّ هذه الرواية تفسّر لنا الآية حيث يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في هذه الرواية «من ضيق» وقول الرسول هذا ناظرٌ إلى الآية
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} يعني من ضيق ، وسنصل في ما بعد إلى معاني هذه المفردات ، منها كلمة الحرج ، وكلمة العسر ، والإصر ، وتضاف إلى هذه المفردات كلمة الضيق هذه والتي جاء مفسّرة للآية «من حرج» .
إذن هذه الرواية لها دلالة تامّة على هذا المعنى ، كما أ نّها تبيّن الإمتنان الإلهي والعناية الرّبانيّة على هذه الاُمّة حيث رفع عنها الحرج .
الرواية الثالثة:
من الروايات التي تدخل في هذا المضار ، هي الرواية التي ينقلها صاحب الوسائل في أبواب الماء المطلق ، وهي رواية موثّقة يرويها أبو بصير(1) .
قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام):
«إننا نسافر فربّما بُلينا من الغدير من المطر كان إلى جانب القرية» وقوله
«بُلينا» بلحاظ العبارة التي تأتي بعدها وهي «فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدّابة وتروث؟
فقال الإمام الصادق (عليه السلام):
«إن عرض في قلبك شيء فقل هكذا ، أو فافعل
- 1 . الوسائل 1: 163 ، الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 9 .
(الصفحة 82)
هكذا ، أفرج الماء بيدك ثمّ توضّأ فإنّ الدين ليس بمضيّق ، لأن الله تبارك وتعالى يقول: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}» .
ولسنا بصدد مورد الرواية وطبيعة السؤال وما يريده السائل من وراء سؤاله هذا وطبيعة الجواب . فهذه المواضيع تبحث عادة في كتاب الطهارة ولكن ما نريد أن نبحثه هو قول الإمام (عليه السلام): «لأ نّ الدين ليس بمضيّق» واستشهد عليه بآية: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} .
يكفي هذا القدر بالنسبة لنا في مقام الإستدلال على قاعدة نفي الحرج .
أمّا من حيث فهم الرواية وإمكان وضوح عدّة نقاط ترتبط بقاعدة نفي الحرج لابدّ من مراجعة مورد الرواية والتعرّف على سؤال الراوي؟ فهل يراد بالسؤال أ نّ الغدران التي ذكرتها الرواية ليست كرّاً ، بل هي ماء قليل ، والمسألة التي تبحثها الرّواية هي ملاقاة الماء القليل بالنجاسة؟
والظاهر أ نّ الغدران من حيث المقدار تبلغ الكرّ مع الأخذ بنظر الإعتبار مقدار الغدير ، فماذا يريد السائل بسؤاله؟ .
فهل كان السائل يحتمل أن الكرّ مثل الماء القليل يتنجّس بمجرد ملاقاة النجاسة؟ ولولا ذيل الرواية لا يستطيع الإنسان أن يحتمل هذا المعنى .
وهنا نتساءل: ماذا جاء في نهاية السؤال حيث قال: «تبول الدابة وتروث»؟ وكما تعلمون فإنّ بول روث الدابّة ليس نجساً ، فالحصان والحمار والبقر التي ترد غدير المطر غير نجسة من حيث البول ولا الروث ، ولعلّ أبا بصير حكم على بول روث الدابة بالنجاسة نظراً لنجاسة عذرة الإنسان وبول الصبي ، ومن هنا عطف بول وروث الدابة على عذرة وبول الإنسان وحكم بنجاسة الجميع ، وبناءاً على ذلك طرح أبو بصير هذا السؤال وهو: هل ينجس ماء الكرّ بملاقاة النجاسة؟
ولو كان هذا المعنى صحيحاً فليس من الصحيح عطف روث وبول الدابّة على
(الصفحة 83)
عذرة الإنسان وبول الصبيّ حيث نشاهد أ نّ الإمام (عليه السلام) قرّر ذلك لأبي بصير ، ولم يقل له : إنّه ليس صحيحاً أن نعطف بعضهم على البعض الآخر ، لأ نّ البعض نجس والبعض الآخر ليس نجساً .
ومن هنا يمكننا أن نلتمس مسلكاً جديداً في فهم الرواية ، وهو أن ننظر في إمكانيّة أن يكون الراوي قد قصد شيئاً آخر بسؤاله هذا . أي أ نّ أبا بصير لايريد أن يستفهم هل الماء الكرّ ينجس بملاقاته للنجاسة ، أو لا؟ خاصّة إذا أخذنا بنظر الإعتبار أ نّ أبا بصير من الرواة المعتمد عليهم ، ومن المستبعد أن يسأل مثل هذا السؤال ، ولو كان السؤال : هل ينجس الماء القليل بالملاقاة ، أو لا؟ لقيل : إنّ هذه مسألة فقهية اختلف فيها ، أ مّا لو تنجّس الماء بملاقاة الكرّ ، فحينئذ لايتمكّن الإنسان من تطهير أيّ شيء ، إذن من المستبعد جدّاً أن يسأل أبو بصير عن الماء الكرّ هل ينجس بالملاقاة أو لا ينجس .
لذا يبدو من الأفضل أن نقول: إنّ سؤاله عن القذارة العرفية ، أي هل يمكن للمكلّف أن يتوضّأ بماء الغدير وهو يرى عذرة الإنسان وروث الدابّة ، ويرى باُمِّ عينه الصبي يتبّول فيه؟ أي مع وجود مثل هذه القذارة العرفيّة هل يصحّ الوضوء من ماء الغدير لأجل تحصيل الطهارة؟ وجواب الإمام (عليه السلام) بقوله: «إن عرض في قلبك شيء» يشعرنا بأ نّ المقصود من السؤال هو هذا المعنى . أي أ نّك قد يداخلك شيء في قلبك من قبيل أ نّ هذا الماء قذر ووسخ يحوي على عذرة الإنسان وروث الدواب . فمع قذارته هل يصلح للوضوء؟ فيقول الإمام (عليه السلام): أخرج الماء بيدك حتّى تذهب القذارة ويتجدّد الماء .
والسؤال المطروح هنا: هل يحقّ لنا أن نحمل السؤال على هذا المعنى . أو أن نقول بأ نّ الرواية ناظرة إلى إنفعال وعدم إنفعال الماء الكرّ؟
ثمّ قال الإمام (عليه السلام): «ثمّ توضّأ ، فإنّ الدين ليس بمضيّق ، ماجعل عليكم في
(الصفحة 84)
الدين من حرج» ولكن آية نفي الحرج هذه التي استشهد بها الإمام (عليه السلام) يصعب التوفيق بينها وبين المعنى الذي حملنا السؤال عليه ، فإنّ ذلك سيؤدّي بنا إلى القول بأ نّ آية : {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} والتي يفترض أن تكون محصورة في دائرة الأحكام الإلزامية لا تتناسب مع هذا المعنى ، لأ نّ المستحب يتضمّن جواز المخالفة ، كما أ نّ المكروه في ذاته يتضمّن جواز الارتكاب ، وبالتالي فإنّ هذه الأحكام الشرعية لاتتناسب مع آية الحرج .
أقول: إذا أخذنا بهذا المعنى للرواية ، فإنّ الآية ستكون لها مدخليّة في ما يخصّ المستحبات والمكروهات ، ولكن إلتزام هذا المعنى أولى من أن نحمل السؤال على أنّه وارد في خصوص انفعال ماء الكرّ وعدم إنفعاله ، ومن ثمَّ أفضل من القول بأ نّ استشهاد الإمام (عليه السلام) بالآية الشريفة: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هو من باب أ نّ ماء الكرّ لو تنجّس بملاقاة النجاسة لاستلزم الحرج والمشقّة ، ولذا جعل الله سبحانه وتعالى الماء الكرّ لا ينجس بملاقاة النجاسة . إنّ هذا الفهم للرواية وللآية يغاير ما نُريد أن نستفيده من قاعدة لا حرج فيما بعد ، لأ نّنا نريد فيما بعد أن نستفيد من قاعدة لا حرج مقابل الإطلاقات التي تثبت حكماً مّا ، وظاهر هذه الإطلاقات أنّها تثبت الحكم سواء في الموارد غير الحرجيّة ، أو في موارد الحرج ، إلاّ أ نّ قاعدة (لا حرج) تدخل كدليل حاكم ومبيّن تقول: إنّ هذا الدليل وإن كان يثبت الحكم في موارد الحرج ، إلاّ أنّه لا توجد إرادة جدّية على ذلك ، فالدليل المطلق يشمل مورد الحرج ، أمّا وظيفة قاعدة الحرج تحديد الدليل ، وبالتالي تحديد دائرة الحكم ، ومن هنا فمن الأفضل أن نحمل الرواية على ذلك المعنى .
الرّواية الثّالثة
نتطرّق إلى رواية أخرى وهي آخر رواية في هذا الباب ، وفيها جانب إضمار