(الصفحة 44)
تجاهدوا ، ولكن لا بالشكل الذي يسبب حكم الحرج والمشقة المجهدة الخارجة عن حدود المتعارف .
الآية الثّانية:
وهناك آية اُخرى ذكرت فيها كلمة «الحرج» وهي في سورة المائدة التي تتضمّن أحكام الوضوء ، والغسل ، والتيمم ، وتبدأ الآية بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}(1) .
وفي قوله تعالى:
{جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} أشارة إلى الوضوء ، وفي قوله:
{لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} يشير إلى الغسل ، وتختم الآية لحديثها بالكلام عن التيمم .
وهنا توجد نقطة هامة والتي تشكل بحثاً تفسيرياً بالإضافة إلى كونها بحثاً فقهياً في الطهارة ، وهي أنّ الآية قرنت بين المريض الذي يضر الماء به ، وبين المسافر والمحدث ، مع العلم أن المريض لايحتاج إلى التيمم إلاّ إذا كان محدثاً .
وقد بحثنا هذه النقطة بشكل موسع في كتاب الطهارة وفي غيره ، ولا نريد أن نخوض في هذا الموضوع . ولكن نقول بإجمال: إن الآية تشير إلى ثلاث موارد يجب فيها التيمم ، أحد هذه الموارد هو المريض ، والآخر هو المسافر الذي لايجد ماءً ، والثالث هو المحدث الذي لايجد ماءً . وبعد أن تذكر الآية الموارد الثّلاثة تقول:
(الصفحة 45)
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وإذا تتبعنا سياق الآية نجد أن الآية تشير إلى موضوع التيمم .
بعد ذلك كلّه تتابع الآية سياقها القرآني بقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ، وهنا بامكاننا أن نعتبر هذه العبارة تعليلاً لما سبق ، حينئذ يواجهنا هذا السّؤال وهو: هل أنّ هذا التعليل شامل لكلّ الأحكام التي ذكرتها الآية ، أي لهذه الطّهارات الثلاث ، أم أ نّ التعليل هو في خصوص التيمّم فقط ، وذلك لأ نّ التيمّم فيه جانبان: جانب عدم ، ونفي حيث ينتفي مع التيمّم كلّ من الوضوء والغسل ، وهناك جانب إثبات ووجوب ، وهو وجوب التيمّم . فمعنى أن يتيمّم المكلّف بدل الوضوء ، أ نّ المكلف إذا سقط عنه الوضوء لايبقى بدون تكليف ، ولايسقط عنه الواجب الذي وجب الوضوء كمقدّمة له .
وبناءً على ذلك ، فإنّ ما جاء في مقام التعليل إذا قصرناه على التيمم ، أي قلنا : إنّ السّبب في أ نّ المريض لا وضوء عليه والمسافر يسقط عنه الوضوء ، والغسل ، وكذا الحال بالنّسبة لمن لايجد ماءً وهو قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} إنّما يريد أن ينفي سقوط التكليف لتفادي المشقّة والكلفة في نفس الوقت ، لأ نّ استعمال الماء إذا كان مضرّاً بالمريض ، فإنّه سيوقعه في حرج شديد عند الوضوء .
سؤال وهنا قد يسأل البعض: ماهي مدخليّة قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} بالنسبة لمن لايجد ماءً ؟ أي لا معنى للحرج بأعتبار أ نّ المكلف لا ماء لديه ، ولايمكنه أن يتوضأ بالتراب ، أو يغسل بغير الماء؟
الجواب كما ورد في الفقه هو أ نّ قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يدلّ على أ نّ الملاك ليس افتقاد الماء بالمرّة ، وإنّما عدم الوجدان ، وهذا يقع في حدود معيّنة . ولذلك يقال: إنّ على المكلف أن يقطع كذا مسافة بحثاً عن الماء في المناطق الرخوة ،
(الصفحة 46)
وكذا مسافة في الأراضي الصلبة . إذن عدم وجود الماء لا يراد به الإطلاق ، أو المعنى الحقيقي للكلمة ، لأ نّه لو لم يكن هناك ماء حقيقة ، لما كان باستطاعة المكلّف أن يتوضّأ ، أو أن يغتسل .
أمّا لو فسّرنا عدم وجدان الماء بما هو متعارف عليه في الفقه ، حينئذ سنصل إلى هذا الحكم ، وهو أنّ المكلف الذي لم يجد ماءً في المنطقة التي يتواجد فيها ، لايجب عليه أن يقطع مسافات بعيدة بسيّارته مثلاً بحثاً عن الماء ، وان كان يحتمل الوصول إلى الماء ، ولكن هذا ليس هو الملاك ، لأ نّه لو كان الملاك هو عدم وجدان الماء حقيقة ، لانتفى وجوب الوضوء والغسل من الأصل ، ولايوجد حينها أيّ مبرّر للحديث عن الحرج .
وأمّا عدم الوجدان بمعناه الفقهي ، فيمكن معه أن نتصوّر هذا المعنى ، وهو أن يكون واجباً على المكلّف أن يحصل الماء بأيّ شكل من الأشكال ، وبأيّ طريقة ، ومن أيّ مكان كان ، سواء من البحر أو من الصحراء للوضوء والاغتسال ، وهنا يأتي قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} ، فيسقط عن المكلّف الوضوء والغسل للحرج والمشقّة .
إذن ، محصّلة الحديث أ نّ الآية: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} إذا خصّصناها بالتيمم ، يكون فيها جانبان:
الجانب الأوّل هو نفي وجوب الوضوء والغسل ، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} فيه إشارة إلى هذا الجانب ، فالمريض لا وضوء عليه ، والمسافر لا وضوء ولا غسل عليه ، وكذا الحال بالنسبة لمن لايجد ماءً ، وأمّا تتمّة الآية وهي قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فهي ناظرة للجانب الإثباتي للتيمّم . أي أ نّه بعد ما ارتفع وجوب الوضوء والغسل نظراً للحرج ، وجب التيمّم ، لماذا؟
(الصفحة 47)
هنا يأتي التعليل ، وهو: لأ نّ الله يريد أن يطهّرنا ، والتراب أحد الطهورين ومن ثمّ يقول تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ، وبناءاً على ذلك فإنّ هذه الآية الشّريفة يمكن أن تكون من الأدلّة على قاعدة نفي الحرج .
وهنا لابدّ من الأشارة إلى نقطة هامّة ، وهي أ نّ الله سبحانه وتعالى عندما يقرّر بأ نّ المريض لايجب عليه الوضوء ، لأ نّه لم يرد أن يجعل عليه من حرج ، هنا المريض أحد موارد نفي الحرج ، ولا خصوصيّة بحيث تجعل الحكم يختصّ به ، فمسألة عدم وجوب الوضوء ، وعدم وجوب حكم الغسل ليس فيها أيّة خصوصيّة معيّنة ، وإنّما هي موارد ومصاديق للموضوع الأساسي ، وذلك لأ نّ قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} جاء بمثابة التعليل ، وكما تعلمون فإنّ المورد لا يكون مخصّصاً ، فالتعليل معنى عامّ يصدق في هذه الموارد وفي غيرها . وبذلك تصبح هذه الآية أحد الأدلّة القرآنية على قاعدة الحرج ، خاصّة وأ نّ كلمة الحرج قد وردت في الآية نصّاً .
التعليل ورجوعه إلى الطهارات الثلاث
أمّا على مستوى الاحتمال الآخر ، وهو أ نّ قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} له علاقة بالآية بكاملها ، وليس من باب نفي الحرج في خصوص التيمم الذي أشرنا إليه في الاحتمال السابق ، أي أ نّه مرتبط بالطهارات الثلاثة ، هنا قد يطرح هذا التساؤل ، وهو ما معنى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج}؟ هذا أوّلاً .
وثانياً: إذا أخذنا بهذا الاحتمال ، فهل يبقى هناك مجال للحديث عن قاعدة (نفي الحرج) والاستدلال عليها بالآية الشّريفة؟
إذن علينا أوّلاً أن نرى ما هو معنى الآية في ضوء هذا الاحتمال؟ لا شك أ نّ
(الصفحة 48)
الآية وبناءً على هذا الاحتمال أيضاً تبقى في مقام التعليل ، فلا فرق بين هذا الاحتمال والاحتمال الأوّل ، ولكن السؤال: ما هو وجه التعليل في هذا الاحتمال؟
التعليل هنا لبيان العلّة في وجوب الوضوء ، أي للجواب على هذا السّؤال وهو: لماذا إذا قمتم إلى الصلاة عليكم أن تغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق؟ ولماذا {إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}؟ وما هي العلّة في أ نّكم لو كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماءً عليكم أن تيمّموا صعيداً طيّباً؟ ففي جميع هذه الموارد يأتي التعليل في خصوص الجانب الإثباتي للحكم .
ولنا أن نتساءل هنا كيف يمكن للتعليل أن يكون في الجانب الإثباتي للحكم؟
والجواب أ نّ الله تبارك وتعالى يريد أ نّ يبيّن أن ما ألزمكم به عند الصلاة من الوضوء أو الغسل أو التيمّم ، فلا اُريد بذلك أن أشقّ عليكم أو أثقل كاهلكم ، إنّما أقصد بذلك هدفاً أسمى وأعلى . وهذا الهدف الذي أبتغيه يخصّكم أنتم ، ويعود عليكم بالمنفعة ، وهو تطهيركم ، أي اُريد بذلك أن تحصلوا على طهارة النفس وطهارة البدن أيضاً . بناءً على ذلك ولتحقيق هذا الهدف السامي هل يعتبر الوضوء أمراً حرجيّاً؟ وهل يعدّ الغسل عملاً صعباً؟ وهل التيمّم شاقاً؟
ومثال ذلك ، أن يقول الأب لابنه : يابنيّ إنّما أوجب عليك الذهاب إلى المدرسة صبيحة كلّ يوم ، لا لكي أشقّ عليك ، أو أزيد في عنائك ، بل أريد بذلك أن تتعلّم وتحصل على مكانة علمية سامية في المجتمع .
إذن، إذا قلنا بأنّ الآية: {ومَايُرِيدُاللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} تتعلّق بالأحكام الثلاثة ، وبالجانب الإثباتي لهذه الأحكام ، أي أ نّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول: إنّي ما أوجبت الوضوء ولا التيمّم ولا الغسل لكي أشقّ عليكم ، أو أجعلكم في حرج ، وإنّما أردت أن أطهّركم ، وهذا المعنى يتطابق مع تعبيراتنا العرفيّة الشائعة ، ولكنّه خارج عن إطار بحثنا ، ولا علاقة له بقاعدة نفي الحرج ، والسبب في ذلك هو