(الصفحة 153)قاعدة لا حرج والوجوب التخييري:
وترد أيضاً قاعدة (لا حرج) في سائر أقسام الوجوب ، إلاّ أنّها وقعت موضعاً للإشكال في مورد واحد فقط ، وهو عبارة عن الواجبات التخييريّة ، مثل عتق الرقبة أو صيام ستّين يوماً ، أو إطعام ستّين مسكيناً ، فهل وجود الحرج في واحد من هذه الخصال الثلاثة للكفّارة يقتضي خروج المورد الحرجي عن دائرة التخيير فينبغي أن يقال: إنّ الكفّارة أحد أمرين ، أو انّه لقائل أن يقول: إنّ هذه الواجبات التخييرية تشبه المستحبّات في جهة من جهاتها ، وهي جهة انّه لو صار بعض خصالها حرجيّاً فإنّ التكليف لا يتّصف بالحرجيّة ، نعم إذا كانت الخصال حرجيّة بأجمعها ـ وفي هذه الجهة يكمن الإختلاف مع المستحبّات ـ فالقاعدة ترفعها ، لأنّه تكليف حرجي ، وأمّا إذا كان إثنان من المجموع غير حرجيين ، بل لو كان فردان حرجيين وواحد غير حرجي ، فهل بإمكاننا هنا أن نجعل عنوان الحرجيّة وصفاً للتكليف ونقول: إنّ الله كلّفنا بتكليف حرجي؟
إنّنا لا يمكننا أن نجعل عنوان الحرجيّة وصفاً للتكليف لمجرّد أنّ أحد أطراف الواجب التخييري صار حرجيّاً ، ولا يمكننا أن نقول: إنّ الله جعل لنا تكليفاً حرجيّاً ، كلاّ ، إنّ التكليف بما أنّه على نحو الواجب التخييري إذا صار أحد أطرافه حرجيّاً فإنّ الحرجية لايمكن أن تكون وصفاً للتكليف ، نعم إذا صارت الخصال الثلاثة حرجيّة بأجمعها يصدق انّه تكليف حرجي . إذن الواجبات التخييريّة تلحظ من هذه الجهة .
هل تدخل المحرّمات في التكاليف الحرجيّة؟
وهنا جهتان اُخريان ، إحداهما المحرّمات ، إذ يوجد إشكال فيها ، خاصّة على المبنى الذي أخترناه تبعاً لأكثر العلماء الكبار ، وهو أنّ الحرج في الآية ليس نوعياً ،
(الصفحة 154)
وإنّما هو شخصي ، ومن جهة اُخرى فإنّ (ما جعل عليكم) تصدق في باب المحرّمات لأنّها تكاليف إلزاميّة أيضاً ، أي أنّ الذي جعل (من حرج) صفة للفعل يضطرّ إلى أن يختصّ القاعدة بالأحكام الإلزامية الوجوبيّة ، لأنّه لايوجد في المحرّمات فعل حرجي ، وإنّما الفعل الحرجي يصدق في الواجبات فقط ، ولابدّ في التعدّي منها إلى التحريميّة من تنقيح المناط .
وامّا نحن وقد جعلنا الحرج للتكليف ، فتدخل المحرّمات والواجبات معاً بدرجة واحدة في قاعدة (لا حرج) ، لا أن ترتبط القاعدة بالأحكام الوجوبية أكثر من غيرها ، وعندها نواجه أحياناً مشكلة في باب المحرّمات ، فماذا نقول لو أصبح التكليف بحرمة الزنا حرجياً على شخص؟ فهل نقول بارتفاع الحرمة؟
ولو فرضنا المسألة بشكل أكبر كما لو فرضنا شاباً أعزباً أحبّ ذات بعل شابّة جميلة مثلاً حبّاً شديداً ، وقد جعل الإسلام من خلال تحريم الزنا بذات البعل جداراً منيعاً ، فلو كان هذا التكليف حرجيّاً بالنّسبة إلى هذا الشاب فهل نقول ـ معاذ الله ـ بارتفاع هذا التكليف وينتفي تحريم الزنا بذات البعل ، لأنّه تكليف تحريمي حرجي ، أو نقول من البداية : أنّ قاعدة (لا حرج) لا تشمل المحرّمات ، وإنّما تقتصر على الواجبات فقط؟ حينئذ نواجه أشياء ينتفي عنها الحكم التحريمي إستناداً إلى هذه القاعدة ، فهنا أيضاً يمكن تطبيق الحرج ويمكن أن تؤدّي هذه القاعدة دورها .
و قد ذكرنا نظير ذلك في مسألة الإكراه على المحرم وقلنا بأنّ ما أطلقوه من رفع الحرمة بالإكراه إلاّ في موضوع الإكراه على الدم ليس على ما ينبغي ، فإنّه لوفرض الإكراه في المسألة المزبورة فهل تنتفي الحرمة بمجرد التوعيد على الترك ولو بالضرر المالي المضّر بحال المكره؟ الظاهر العدم ، بل اللازم ملاحظة حال الحرام المكره عليه من جهة الاهميّة و مراتبها .
والإنصاف أنّ المسألة في غاية الإشكال ، فمن ناحية نرى ثبوت الحرج في
(الصفحة 155)
أصل الجعل في مثل المسألة المزبورة و ثبوت الفرق بين المقامين من جهة أنّ حديث رفع الإكراه ناظر إلى رفع التحريم المزبور ، و هنا تكون القاعدة متعرضة لأصل نفي الجعل ، وليست هنا مرتبتان يلاحظ الأهمّ منهما ، و من ناحية اُخرى يكون مذاق الشارع في ثبوت الحرمة في مثل المسألة المزبوره واضحاً و ظاهراً . و من ناحية ثالثة لا مجال لدعوى اختصاص القاعدة بخصوص الواجبات ، لأنّه مضافاً إلى أنّ المحكوم بنفي الجعل المأخوذ فيها هو الأعمّ نرى الإستناد إلى القاعدة في بعض المحرّمات ، و الجمع بين هذه النواحي لا مجال له ، والتفكيك بين المحرّمات في جريانها ليس له ضابطة .
ويدلّ على شمول القاعدة للمحرّمات رواية ، وهي صحيحة بحسب الظاهر بناءً على ظاهرها من حصول المحرّم تعمّداً ، والرواية هكذا: سأل رجلٌ أبا عبدالله (عليه السلام) عن المحرم يريد إسباغ الوضوء فتسقط من لحيته الشعرة أو الشعرتان؟ فقال: ليس بشيء ، ما جعل عليكم في الدين من حرج .(1)
جريان القاعدة في الأحكام الوضعية:
وأ مّا جريان القاعدة في الأحكام الوضعيّة ، فلا وجه لعدم جريانها بالنسبة إليها ، لأ نّ دليل نفي الحرج يدلّ على نفي كلّ حكم حرجيّ ، سواء كان تكليفياً أو وضعيّاً . إلاّ أنّ النكتة التي تطرح نفسها هنا والتي يمكن أن لا يلتفت إليها لأوّل وهلة ، فيتصوّر الشخص أ نّه لو جرت قاعدة (لا حرج) هنا فهذا معناه جريانها في تمام الأحكام الوضعيّة ، كإنتفاء اللزوم في مثل النكاح أيضاً ، أي بإمكان المرأة أن تفسخ عقد النكاح كما هو الحال في البيع ، فتقول المرأة: إنّ لزوم النكاح فيه حرج
- 1 . الوسائل: 13 ، 172 ، الباب 16 من أبواب بقية كفارات الإحرام الحديث 6 .
(الصفحة 156)
عليِّ ، فتأتي قاعدة (لا حرج) وترفع اللزوم ، فتخرج المرأة عن ربقة هذا النكاح بكلمة (فسختُ) . كلاّ إنّ الأمر ليس بهذا الشكل ، فإنّ سبب الحرجيّة في هذا النكاح بالنسبة إلى المرأة ليس هو اللزوم ، وإنّما سبب الحرجيّة هو كون الطلاق بيد من أخذ بالساق ، وإنحصار هذا الحقّ للزوج ، فإذن تأتي قاعدة (لا حرج) وترفعه فتقول: الطلاق هنا ليس بيد من أخذ بالساق ، فإذن بيد من؟ بيد الحاكم الشرعي ، فيأتي ويدرس وضعها فإذا شاهد أ نّ هذه الحياة حرجيّة حقّاً بالنسبة إليها بحيث لايُوجد توجيه لعدم الحرجيّة مثل ما كان الزوج محكوماً عليه بالسجن مدّة عشر سنوات ، ولا يقبل أن يُطّلق وليس عنده مال ، أو وسائل للراحة ، وكانت المرأة شابّة ، فهل نقول هنا للمرأة: يجب أن تنتظري حتّى يخرج زوجك من السجن؟ إنّ هذا لا يتناسب مع مذاق الإسلام ، فهنا ندع كون الطلاق بيد من أخذ بالساق جانباً ونقول: إنّ هذا حكم حرجي بالنّسبة إلى هذه المرأة ، فعليها مراجعة الحاكم ، فيرى وضعها ، فإذا اتّضحت له الحرجيّة فيقوم هو بتطليق هذه المرأة .
ويخطر في ذهني أنّ السيّد صاحب العروة هنا أفتى بما يشابه هذا المورد ، وقال: لا إشكال في أن يطلق الحاكم الشرعي ، والسبب هو قاعدة (لا حرج) ، لذا لا إشكال في جريان قاعدة (لا حرج) في الأحكام الوضعيّة ، وتترتّب على مثل هذه الموارد ثمار ، منها هذا البحث ، وفي بحث (المقدّمية) بما هي حكم وضعي بناءً على القول بعدم الوجوب الغيري للمقدّمة ، فبإمكان قاعدة (لا حرج) أن تنفي الشرطية والمقدّمية ، هذا فيما يتعلّق بهذا البحث ، وأنا لم اُشاهد بحث الأحكام الوضعيّة في الكتب الموجودة عندي ، ولكن كان ينبغي أن يبحث فيها أيضاً .
قاعدة نفي الحرج نافية لا مثبتة
[ وفي هذا المجال نكتة لابدّ أن نشير إليها ، فنقول : غير خفّي أنّ قاعدة لا حرج
(الصفحة 157)
المأخوذة من قوله تعالى:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لا دلالة لها إلاّ على نفي الجعل بالإضافة إلى الحكم الحرجى وجوباً أو تحريماً ، ولا دلالة لها على إثبات الحكم في مورد تكليفاً أو وضعاً ، فما ربّما يتوهّم من صحّة الإستدلال بالقاعدة في مورد المـَحرميّة بالإضافة إلى الأطفال المأخوذة من المؤسّسات التي تكون متصدّية لأخذها و إعطائها إلى من يريد ذلك لأجل عدم كونه صاحب الولد ، في غاية الإشكال و نهاية عدم الصحّة ، خصوصاً لوكان الولد المزبور مذكّراً ، فإنّ صريح الكتاب أنّه وقعت الزوجيّة السمائيّة بين الرسول (صلى الله عليه وآله) و بين زوجة زيد الذي كان من أدعياء الرسول (صلى الله عليه وآله) قال الله تعالى:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}(1) ففي الحقيقة قد وقع التصريح في الكتاب بعدم ثبوت المـَحرميّة وجواز التزويج ، ومن المعلوم عدم الإختصاص بالتبنّي ، بل يجري بالإضافة إلى البنت المأخوذة من تلك المؤسسات كما هو واضح .
هل تقع العبادة بعد رفع الوجوب صحيحة؟
أحد الأبحاث المطروحة في قاعدة (لا حرج) ، هو أنّه لو أنّ التكليف الحرجي تعلّق بعبادة ، سواءً تعلّق بجميع العبادة ، أو جزئها ، أو شرطها ، ورفعت قاعدة (لا حرج) وجوبه ، ونفت لزوم هذه العبادة ، إلاّ أنّ المكلّف مع ذلك امتثل الأمر وأتى بها فالبحث هو أنّه هل تقع هذه العبادة صحيحة ، رغم أنّها لا تتصّف بالوجوب؟ فلو كان الصوم حرجيّاً بالنّسبة لشخص فإنّ وجوب الصوم يرتفع عنه بقاعدة (لا حرج) فلو تحمّل الشخص هذا الحرج ، وقال: رغم أنّ الصوم فيه حرج عليّ ، إلاّ