(الصفحة 54)الآية الرّابعة
والآية الاُخرى هي قوله تعالى في آخر سورة البقرة:
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}(1) واستناداً إلى المتون الروائية فإنّ الله سبحانه وتعالى يحكي في هذه الآية جملة من الأدعية التي دعا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربّه ليلة المعراج وتوجد هناك رواية في هذا الباب قد نتطرّق إليها في بحثنا الروائي ، ومجمل القول إنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) دعا الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء:
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ويفهم من قوله هذا أ نّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) طلب من الله سبحانه وتعالى أن يمنَّ على اُمّته بمزيّة ، وهي أن يرفع عن اُمّته الأصر الذي حمله على الاُمم الماضية . هنا لابدّ وأن نحدّد معنى «الإصر» بدّقة .
المعنى الإجمالي للإصر هو العبء الثقيل جدّاً والشّاق . إذن ، الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يدعو الله عزّوجلّ بأن يرفع هذه العبّ الثقيل عنه وعن اُمّته ، وورد في الرّوايات نماذج وصور متعدّدة عن طبيعة التكاليف الشاقّة التي كانت على الاُمم السالفة والتي دفعها الله سبحانه وتعالى عن هذه الاُمّة رحمة منه وامتناناً . ومنها الرواية المأثورة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث يقول:
«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(2) .
ولقائل أن يقول: ماهي المزيّة التي منّ الله بها على رسوله وعلى اُمّته في هذا الحديث الشريف؟
والجواب: إنّ قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) :
«جعلت لي الأرض مسجداً» يعني أ نّ كلّ الأرض جعلت محلاًّ للعبادة ، وإن كانت هناك أفضليّة في بعض الأماكن على
- 1 . البقرة: 286 .
- 2 . صحيح البخاري ج 1 ، الصفحة 91 ، باب التيمّم .
(الصفحة 55)
غيرها ، فالمساجد أفضل من غيرها من الأمكنة ، والمساجد نفسها تتفاوت من حيث الأفضلية ، والمشاهد المشرفة أيضاً لها أفضليتها ، إلاّ أنّه لا يشترط في صحّة الصلاة أن تؤدّى في المسجد ، مع أ نّ الوارد في الرّوايات أ نّ الاُمم السالفة كانت لها أماكن مخصّصة للعبادة بحيث لو أ نّهم أرادوا أن يعبدوا الله عزّوجلّ خارج هذه الأماكن لما صحّت عبادتهم . لذا كان البعض منهم يضطر أن يقطع المسافات الشاسعة للوصول إلى هذه البقاع المخصّصة للعبادة بغية أن يحرز جانب الصحّة في عبادته .
وفي المقابل نجد أ نّ الأرض جعلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مسجداً . لذلك جاز للمسلم أن يقيم الصلاة في أيّ مكان شاء ، فكلّ مكان يصدق عليه إسم الأرض ، يصلح لأن يكون مسجداً وكذا الحال بالنسبة لطهوريّة الأرض ، حيث أ نّ التيمّم هو من المزايا التي أمتازت بها هذه الاُمّة المرحومة . وكان العنوان العامّ الذي يفيد التيمم هو أ نّ «التراب أحد الطهورين» . أمّا في الاُمم السالفة فلا يوجد شيء من هذا القبيل .
فمن التكاليف الشاقّة التي كانت مفروضة على الاُمم السابقة هو أنّهم إذا أصابت أجسامهم نجاسة ، وخاصّة إذا كانت النجاسة بولاً فلا يطهرون إلاّ إذا اقتطعوا تلك القطعة المتنجسة من الجسم بالمقاريض(1) . وظاهر عبارة الرواية يتعيّن من خلالها قصّ الجلد بالمقراض بالقدر المتنجّس حتّى يطهر . أمّا بالنسبة للاُمّة الإسلامية فقد جعل الله الماء مطهراً ، بحيث إذا تنجّس المكلّف من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه فبإمكانه أن يتطهّر بالماء .
وتذكر الرواية بعض الواجبات والتكاليف التي قد تبدو بعضها شديدة
- 1 . الوسائل 1: 133 ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحديث 4 ، والرواية وإن كانت صحيحة إلاّ أنّ العقل لا يساعد مضمونها ، ولابدّ من التأويل فيها . ومن البعيد أن يكون المراد ظاهرها .
(الصفحة 56)
الغرابة ، والآية الكريمة: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} تؤيّد هذا المعنى . وكما أشرنا سابقاً في خصوص دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، فإن الله عزّ شأنه عندما يحكي دعاء أحد الأنبياء ثمّ يسكت ، فهذا يعني ، أن الدّعاء قد اُستجيب ، وإلاّ لكان من غير المناسب نقل هذا الدعاء ، ومع نقله وعدم إجابته يتحتّم على الله عزّوجلّ أن يردّ بالنفي عليه .
إذن ، المنظور في الآية ليس مجرّد دعاء الرسول ، وإنّما دعاء يستتبعه إستجابة . وهنا كلمة «إصراً» جاءت في سياق النفي ، وهي تفيد العموم ، أي: لا تحمّلنا أيّ إصر في أيّ من التكاليف . إذن الآية تطرح معنىً عامّاً وكليّاً .
الاستدلال بصدر الآية وبيان المراد من «الوسع»
بعد ذلك تأتي فقرة جديدة من الدعاء وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، والمتتبع لسياق الآية يجد أ نّ هناك ارتباطاً خاصّاً بين صدر الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وبين الفقرة من الدعاء ، وهي {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وقد عدّ المحقّق النراقي (رحمه الله) في كتابه العوائد قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} من الأدلّة التي يستدلّ بها على قاعدة نفي الحرج ، وأ نّها دليل مستقل عن هذا المضمار ، وتبعه في ذلك المحقّق البجنوردي (رحمه الله) في كتابه «القواعد الفقهية» .
والآن لنرى هل هي كذلك ، أم لا؟ هنا لابدّ أن نبحث المسألة من جهتين:
الجهة الاُولى:
هو أ نّنا نعلم مسبقاً أ نّ القدرة العقليّة تعتبر شرطاً عقلياً في تعيّن التكليف بالنسبة للإنسان ، فلو أمر رجلٌ إبنه بالقيام بعمل لايقدر على إنجازه بالمرّة ، لأستقبح العقلاء منه ذلك . لأ نّ العقل يقرّر هذه الحقيقة ، وهي أ نّه لا معنى أن تأمر
(الصفحة 57)
وتنهي أو تزجر شخصاً لا حول ولا قوّة له على القيام بعمل معيّن أو تركه . وهذا أمرٌ بيّن وواضح ، وفي باب الاُصول هناك بحث بحثه سيّدنا الأستاذ الأعظم الإمام ـ مدّ ظلّه العالي ـ وبحثناه أيضاً تبعاً للسيّد الاُستاذ ، ومفاده أ نّ التكاليف العامّة هل يشترط فيها القدرة؟
وأمّا كون العجز عن القيام بالتكليف هل هو معذّر ، أم لا؟ فهذا بحث آخر .
المسألة هي: أ نّ التكليف حتّى لو كان تكليفاً غير عامّ ، فإنّه يشترط فيه القدرة على أدائه ، فإذا لم تتوفّر القدرة ، يفقد التكليف معناه ، والسيّد الإمام ـ مدّ ظلّه العالي ـ يرى هذا المعنى .
بعد أ نّ اتّضح لنا هذا المعنى ، ننتقل إلى الآية الشريفة: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} هل المقصود من الآية هو القدرة العقليّة؟ نستبعد ذلك ، لأ نّ ظاهر قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} في مقام الامتنان على كافّة المكلّفين في جميع الملل والأديان . فالآية لا تقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} في هذه الاُمّة وفي هذه الشريعة ، بل معناها أ نّ المكلّف يكلّف بقدر وسعه دائماً .
وكما أ نّ الظّلم ممتنع الصدور منه تعالى ، كذلك تكليف الإنسان بما لايطاق . فالمسألة مسألة إمتنان ، بالإضافة إلى الشرط الذي يستقلّ به العقل . وفحوى إشتراط القدرة هي أ نّه مع عدم وجود القدرة لايبقى هناك أيّ معنى للتكليف .
ومن هنا نفهم أ نّ الوسع ليس بمعنى القدرة العقليّة ، ولا يعني الوسع ما يشترط العقل في مسألة التكليف . إذن ماذا يريد بالوسع؟ هل من الممكن أن نضع مسألة الوسع مقابل مسألة الحرج فنقول: لايكلّف الله نفساً إلاّ مالا يكون حرجيّاً عليها؟
الفقهاء الذين استدلّوا بهذه الآية استندوا إلى هذا الرأي ، ومنهم المحقّق النراقي (رحمه الله) في العوائد والمحقّق البجنوردي (قدس سره) في القواعد الفقهية ، ويفهم موقفهم هذا من خلال إستدلالهم بهذه الآيات ، علماً أ نّ هذين العلمين لم يعلّقا على هذه الآية ،
(الصفحة 58)
ولكن من الطبيعي أن يكون رأيهم هو أ نّ الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}يعني إلاّ مالا يكون حرجياً عليها . وإذا حملنا هذه الآية على هذه المعنى فستدرج ضمن أدلّة نفي الحرج .
ولكن هذه الآية لا تدلّ على هذا المعنى ، والدليل على ذلك هو الفقرة التي تبعت قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً . . .} وهي قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} هذه الفقرة من الآية تعرّض مسألة اُخرى غير مسألة الإصر وغير مسألة الحرج ، فمسألة الحرج ومسألة الإصر صيغتا بصورة دعاء .
والسؤال الآن: ماذا يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدعائه هذا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}؟ هل يريد أن يقول: لا تحمّلنا ما تقصر عنه قدرتنا العقلية؟ هذا الأمر يقرّ العقل بقبحه ، وهو قبيح بالنسبة للأشخاص العاديّين ، فكيف لايكون قبيحاً بالنسبة لله تعالى؟
وإذا أراد الله أن يكلّف الإنسان بما لايقدر عليه ، فما هو المبرّر لهذا الدعاء: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} بعد بيان مسألة الحرج ومسألة الإصر؟
ومن جهة اُخرى لايمكن أن تطرح مسألة القدرة العقليّة وعدّها في هذا الخصوص ، لأ نّها لا تشكّل دليلاً محكماً لوجود معنى جديد يقع برزخاً بين الحرج وعدم القدرة الفعليّة ، أو فقل درجة تتوسّط بينهما .
وسأذكر العنوان الذي يدخل هذا المعنى في إطاره ، كما سأذكر الشواهد التي تؤيّده فيما بعد . والآن نتساءل هل يمكن أن نستفيد من نفس الآية على أ نّ قوله تعالى: {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وكذا كلمة {وُسْعَهَا} التي طرحت في صدر الآية ، لايدلاّن على مسألة الحرج ، بدليل أ نّ هذه الفقرة من الدعاء {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} بعيدة عن مفهوم الحرج؟ هذا من جهة .
ومن جهة اُخرى فإنّ الدعاء: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} غير ناظر