(الصفحة 170)
الإستثناء والتخصيص المتّصل ، فما هو مقدار الإستثناء الذي يستفاد من ذلك؟ هل تقولون : إنّ زيداً لا وجوب في إكرامه مع وجود ملاك وجوب الإكرام فيه؟ أو تقولون لا حكم فيه ، وربّما لم يكن فيه ملاك أيضاً ، والقاعدة إنّه لا ملاك له ، فهل أنّ ضمّ قاعدة نفي الحرج إلى الأدلّة الأوّليّة تفيد غير هذا المعنى؟
وبعبارة أوضح: إنّه وإن كان لسان قاعدة (لا حرج) لسان الحكومة ، أي حكومة هذه القاعدة على الأدلّة الأوّليّة ، ولكن هل أ نّ الحكومة مختلفة عن التخصيص من هذه الناحية؟ فلو قال المولى في موضع: (أكرم العلماء) وفي موضع آخر: (لا يجب إكرام زيد العالم) ، فهناك أثبت الوجوب ، وفي الدليل المخصّص نفى الوجوب ، فإذن هنا أيضاً توجد مسألة الحكومة ، ولسانها أقوى من لسان التخصيص ، فهو أيضاً في موضع التشريع يقول بعدم الوجود من أوّل الأمر ، فإذا لم يكن تكليف حرجي من أوّل الأمر في موضع التشريع فمن أين لي أن أعلم أنّ هذا الصوم الحرجي واجد للملاك؟
إشكال وجواب:
أمّا الاشكال: قد يقال: إنّ لدليل وجوب الصوم في الحقيقة دلالتان: دلالة مطابقيّة ، ودلالة إلتزاميّة ، امّا الدلالة المطابقية فهي عبارة عن وجوب الصوم هذا ، وأ مّا الدلالة الإلتزاميّة ، أو بتعبير آخر: لازمه ، فهو أنّ الصوم بشكل كلّي فيه مصلحة تامّة ، فلنقل بوجود دلالتين لدليل وجوب الصوم ، ومن ثمّ نقول: إنّ المقدار الذي ترفعه قاعدة الحرج من دليل وجوب الصوم يختص بدلالته على الوجوب ، وامّا فيما يختص بإشتمال الصوم على المصلحة التامّة فإنّ قاعدة (لا حرج) لا تنافيه ولا تغايره .
ثمّ نأتي بعد ذلك ونطبّق المسألة على بحث موجود في باب التعادل
(الصفحة 171)
والتراجيح ، وهو: هل أنّ الروايتين المتعارضتين (بغضّ النظر عن الأخبار العلاجيّة) التي تقتضي القاعدة تساقطهما ، فهل يحصل التساقط بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي فقط ، أو يعمّ حتّى المدلول الإلتزامي؟ بعبارة أوضح: لو أ نّ رواية تقول: (صلاة الجمعة واجبة) ، ورواية اُخرى تقول: (صلاة الجمعة حرام) فالقاعدة تقتضي سقوط هاتين الروايتين ، فإنّ التعارض يؤدّي إلى التساقط ، ولكن ما هي حدود التساقط؟ فهل يكون بمقدار رفع الحرمة والوجوب مع احتمال بقاء الإستحباب وهو حكم ثالث ، أو أ نّ تساقط هاتين الروايتين في نفي الوجوب والحرمة ، وأ مّا فيما يختصّ بنفي الإستحباب فهما مشتركان ولا يتحقّق التساقط ، وفي الحقيقة فإنّ الروايتين المتعارضتين حجّة في نفي الثالث وإن كانا ساقطتين عن الحجيّة بالنسبة إلى مفادهما .
فنأتيونقول: إنّ مانحن فيه من هذا القبيل، فإنّ دليلوجوب الصوم له دلالتان: دلالة على الوجوب ودلالة على المصلحة ، والمقدار الذي ترفعه قاعدة (لا حرج) من هذا الدليل هو دلالته على الوجوب فقط ، أمّا فيما يختص بالدلالة على المصلحة فإنّها لا ينافي قاعدة (لا حرج) حتّى تقوم هذه القاعدة برفع المصلحة أيضاً .
الجواب: ولكن هذا الكلام محلّ مناقشة؟ لأنّ دلالة دليل وجوب الصوم على المصلحة دلالة فرعيّة وطوليّة ، أي انّها تدلّ أوّلاً على الوجوب ، وعن طريق الدلالة على الوجوب يدلّ على المصلحة ، لا أ نّ الوجوب والمصلحة يكونان في عرض واحد ، فيدلّ على الوجوب ويدلّ على المصلحة ، حتّى يقال: إنّ قاعدة (لا حرج) تعارض الدلالة على الوجوب ، ولا تعارض الدلالة على المصلحة أبداً ، كلاّ ، إنّ الدلالة على المصلحة في طول الدلالة على الوجوب ، وإلاّ فأيّ موضع من (كُتب عليكم الصيام) يدلّ على مسألة المصلحة؟
قد تأتي وتقول بأنّ هذه الآية تقول: إنّ الصوم واجب ، ونحن من الخارج نعلم
(الصفحة 172)
أ نّ كلّ واجب فيه مصلحة تامّة ، فإذن هناك أمر خارجي نضمّه إلى هذا الدليل ، فإنّ دلالة الدليل على وجوب الصوم تطرح بعنوان أنّها دلالة أصليّة ، ودلالته على المصلحة تطرح بعنوان أنّها دلالة تبعيّة وفرعيّة .
ولكنّ الصحيح أنّه إذا جاءت قاعدة (لا حرج) وحذفت مقداراً من الدلالة الأصليّة وقالت: لا تحقّق للوجوب في حالة الحرج ، فمن أين لنا حينئذ أن نحصل على مسألة المصلحة في العبادة الحرجيّة؟ فنحن عن طريق الوجوب نفهم على أنّ كلّ واجب يشتمل على المصلحة ، ولكن قد قامت قاعدة (لا حرج) وقالت إنّه لا وجوب في الأمر الحرجي من الأساس ، فإذا لم يكن هناك وجوب فمن أين نحصل على وجود المصلحة؟
وهكذا في المقارنة بين الخبرين المتعارضين ، فالمسألة أيضاً محلّ خلاف ، فإنّ المحقّق النائيني لايرتضي ذلك أيضاً ، فإنّه لا يقول: إذا تساقطت الروايتان بالتعارض تبقى الحجيّة محفوظة بالنسبة إلى نفي الثالث ، بل يقول بسقوط كلا الدليلين المطابقي والإلتزامي .
وثانياً: لو فرضنا أ نّنا سلّمنا بقاء الحجيّة بالنسبة إلى نفي الثالث في الخبرين المتعارضين ، إلاّ إنّ الفرق بين المسألتين; أ نّ المسألة هناك مسألة عقليّة ونريد فيها أن نرى كيف يتعامل العقل مع الخبرين المتعارضين؟ وطبعاً يقوم العقل بالتجزئة والتحليل ، فالعقل محلّل ، فيأتي هناك ويقول: إنّ نزاع هذين الخبرين قائم في المدلول المطابقي ، فلابدّ أن يتساقطا ، وأ مّا في المدلول الإلتزامي فلا نزاع بينهما ، فلا داعي إلى تساقطهما ، لأنّ المسألة مسألة عقلية .
أمّا فيما نحن فيه فليست المسألة مسألة العقل ، وإنّما المسألة هي لسان قاعدة نفي الحرج في قبال دليل وجوب الصوم ، ولا مجال للعقل هنا حتّى نقول: لو أدرك العقل من الأوّل أنّ الصوم الحرجي فيه مصلحة فلا حاجة لنا بهذه البحوث . إلاّ
(الصفحة 173)
أنّنا نفترض أ نّ عقلنا لم يتوصّل إلى إدراك شيء ، فعلينا أن نستفيد حكم المسألة من هذه الأدلّة ، فإنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يقول : إنّ الصوم الحرجي لم يُجعل من البداية ، فكيف علمنا بأنّ الحرجي يشتمل على المصلحة؟ خاصّة مع وجود المؤيّد الذي ذكرته ، وهو أنّ في آية الصوم نفسها تجري (لا يريد بكم العسر) الذي هو عبارة عن قاعدة نفي الحرج عن المسافر ، في حين أ نّه لا توجد مصلحة في صوم المسافر حتّى بمقدار رأس الإبرة ، وإنّما صومه محكوم بالبطلان .
نتيجة البحث
فعليه رغم إنّني فكّرت طويلاً في المسألة من أجل العثور على طريق مطمئنّ لاكتشاف الملاك ووجود المصلحة في العبادات الحرجيّة ، إلاّ أنّني لم أجد مثل هذا الطريق ، بل علاوة على ذلك توجد مؤيّدات اُخرى أيضاً ، فمن جملة المؤيّدات أ نّنا إلى الآن لم يطرق أسماعنا ممّا سمعناه أو شاهدنا وقرأناه من أن الإنسان حينما يريد أن يصلّي فعليه إمّا أن يتوضّأ أو يتيمّم ولا وجود لشيء ثالث ، فقد يستفيد الإنسان هذا المعنى من آية الوضوء ، في حين أ نّنا لو قلنا بصحّة الوضوء الحرجي ، فلازم ذلك من الناحية العلميّة أن يكون مخيّراً ، فإذا شاء توضّأ وصلّى ، وإذا لم يشأ يتيمّم ويصلّي عن تيمّم ، وقلنا في الواجبات التخييرية: إذا كان أحد أطراف الواجب التخييري حرجيّاً فلا يوجد إشكال ، ويكون كالمستحبّ الحرجي ، ويكون مخيّراً بين الوضوء والتيمّم .
وإذا قلت: لدينا دليل على عدم وجود الوجوب التخييري ، فنقول: ضع آية (لا حرج) إلى جانب (آية الوضوء) يتولّد عندنا الوجوب التخييري ، وما هو الإشكال في أن يكون الوجوب تخييريّاً؟ فإنّ الحرجيّة تنفي التعيين إلاّ أنّها لا تنفي التخيير ، فحينئذ لابدّ أن نلتزم في مورد العبادات الحرجيّة (طبعاً ليس في كلّ
(الصفحة 174)
العبادات الحرجية فإنّ هذا الكلام لايجري في الصوم وإنّما يجري في مسألة الوضوء والتيمّم ، والغُسل والتيمّم) أ نّ المسألة تطرح بعنوان الواجب التخييري: (أيّها المكلّف إمّا يجب عليك الوضوء مع كونه حرجيّاً ، وامّا عليك التيمّم) ولا مانع من أن يكون أحد أطراف الواجب التخييري حرجيّاً .
ولكن هل يمكننا أن نلتزم بهذا المعنى؟ وهل نستطيع أن نقول فيما يتعلّق بمثل هذا الشخص : إنّ مسألة الوضوء والتيمّم تطرح بعنوان الواجب التخييري؟ طبعاً ليس لدينا دليل عقلي على خلافه ، إلاّ إنّه في ذهننا بما أ نّنا متشرعة ونتناول شؤون الفقه ، نستبعد في الجملة أ نّ مسألة الوضوء والتيمّم مع كونهما في طول الآخر أن يكونا في مورد في عرض بعضهما وعلى هيئة الواجب التخييري ، لذا يبدو في نظري ـ ولا أقطع بهذا المعنى ـ إنّني لم أجد طريقاً لتصحيح العبادة الحرجيّة بحسب ما يستفاد من الأدلّة ، فبناءً على القاعدة فإنّ العبادات الحرجيّة محكومة بالبطلان .
بقي بحث أو بحثان في قاعدة (لا حرج) نبحثهما بشكل مختصر .
التعارض بين «لا ضرر» و «لا حرج»
أحدهما: إذا تعارضت قاعدة (لا حرج) مع قاعدة (لا ضرر) وطبعاً هذا البحث نبيّنه على المعنى الذي بيّنه المرحوم الشيخ في قاعدة (لا ضرر) ، أو المعنى الذي أفاده المرحوم الآخوند في قاعدة (لا ضرر) ، وأ مّا على بيان المرحوم شيخ الشريعة الأصفهاني أعلى الله مقامه ، أو على بيان الاُستاذ الأعلم الإمام مدّ ظلّه العالي فلا يرد هذا البحث ، وإنّما يرد على المبنى الذي يفسّر (لا ضرر) كما يفسّر (لا حرج) ويرى شأنهما واحداً ، أي كما أ نّ (لا حرج) يطرح كدليل حاكم في قبال الأدلّة الأوّليّة فكذلك ، (لا ضرر) أيضاً يطرح بعنوان أ نّه دليل حاكم في قبال الأدلّة الأوّليّة ، غاية الفرق بينهما أ نّ هذا ينفي التكليف الحرجيّ ، وذلك ينفي
|