(الصفحة 82)
هكذا ، أفرج الماء بيدك ثمّ توضّأ فإنّ الدين ليس بمضيّق ، لأن الله تبارك وتعالى يقول:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}» .
ولسنا بصدد مورد الرواية وطبيعة السؤال وما يريده السائل من وراء سؤاله هذا وطبيعة الجواب . فهذه المواضيع تبحث عادة في كتاب الطهارة ولكن ما نريد أن نبحثه هو قول الإمام (عليه السلام):
«لأ نّ الدين ليس بمضيّق» واستشهد عليه بآية:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} .
يكفي هذا القدر بالنسبة لنا في مقام الإستدلال على قاعدة نفي الحرج .
أمّا من حيث فهم الرواية وإمكان وضوح عدّة نقاط ترتبط بقاعدة نفي الحرج لابدّ من مراجعة مورد الرواية والتعرّف على سؤال الراوي؟ فهل يراد بالسؤال أ نّ الغدران التي ذكرتها الرواية ليست كرّاً ، بل هي ماء قليل ، والمسألة التي تبحثها الرّواية هي ملاقاة الماء القليل بالنجاسة؟
والظاهر أ نّ الغدران من حيث المقدار تبلغ الكرّ مع الأخذ بنظر الإعتبار مقدار الغدير ، فماذا يريد السائل بسؤاله؟ .
فهل كان السائل يحتمل أن الكرّ مثل الماء القليل يتنجّس بمجرد ملاقاة النجاسة؟ ولولا ذيل الرواية لا يستطيع الإنسان أن يحتمل هذا المعنى .
وهنا نتساءل: ماذا جاء في نهاية السؤال حيث قال:
«تبول الدابة وتروث»؟ وكما تعلمون فإنّ بول روث الدابّة ليس نجساً ، فالحصان والحمار والبقر التي ترد غدير المطر غير نجسة من حيث البول ولا الروث ، ولعلّ أبا بصير حكم على بول روث الدابة بالنجاسة نظراً لنجاسة عذرة الإنسان وبول الصبي ، ومن هنا عطف بول وروث الدابة على عذرة وبول الإنسان وحكم بنجاسة الجميع ، وبناءاً على ذلك طرح أبو بصير هذا السؤال وهو: هل ينجس ماء الكرّ بملاقاة النجاسة؟
ولو كان هذا المعنى صحيحاً فليس من الصحيح عطف روث وبول الدابّة على
(الصفحة 83)
عذرة الإنسان وبول الصبيّ حيث نشاهد أ نّ الإمام (عليه السلام) قرّر ذلك لأبي بصير ، ولم يقل له : إنّه ليس صحيحاً أن نعطف بعضهم على البعض الآخر ، لأ نّ البعض نجس والبعض الآخر ليس نجساً .
ومن هنا يمكننا أن نلتمس مسلكاً جديداً في فهم الرواية ، وهو أن ننظر في إمكانيّة أن يكون الراوي قد قصد شيئاً آخر بسؤاله هذا . أي أ نّ أبا بصير لايريد أن يستفهم هل الماء الكرّ ينجس بملاقاته للنجاسة ، أو لا؟ خاصّة إذا أخذنا بنظر الإعتبار أ نّ أبا بصير من الرواة المعتمد عليهم ، ومن المستبعد أن يسأل مثل هذا السؤال ، ولو كان السؤال : هل ينجس الماء القليل بالملاقاة ، أو لا؟ لقيل : إنّ هذه مسألة فقهية اختلف فيها ، أ مّا لو تنجّس الماء بملاقاة الكرّ ، فحينئذ لايتمكّن الإنسان من تطهير أيّ شيء ، إذن من المستبعد جدّاً أن يسأل أبو بصير عن الماء الكرّ هل ينجس بالملاقاة أو لا ينجس .
لذا يبدو من الأفضل أن نقول: إنّ سؤاله عن القذارة العرفية ، أي هل يمكن للمكلّف أن يتوضّأ بماء الغدير وهو يرى عذرة الإنسان وروث الدابّة ، ويرى باُمِّ عينه الصبي يتبّول فيه؟ أي مع وجود مثل هذه القذارة العرفيّة هل يصحّ الوضوء من ماء الغدير لأجل تحصيل الطهارة؟ وجواب الإمام (عليه السلام) بقوله:
«إن عرض في قلبك شيء» يشعرنا بأ نّ المقصود من السؤال هو هذا المعنى . أي أ نّك قد يداخلك شيء في قلبك من قبيل أ نّ هذا الماء قذر ووسخ يحوي على عذرة الإنسان وروث الدواب . فمع قذارته هل يصلح للوضوء؟ فيقول الإمام (عليه السلام): أخرج الماء بيدك حتّى تذهب القذارة ويتجدّد الماء .
والسؤال المطروح هنا: هل يحقّ لنا أن نحمل السؤال على هذا المعنى . أو أن نقول بأ نّ الرواية ناظرة إلى إنفعال وعدم إنفعال الماء الكرّ؟
ثمّ قال الإمام (عليه السلام):
«ثمّ توضّأ ، فإنّ الدين ليس بمضيّق ، ماجعل عليكم في
(الصفحة 84)
الدين من حرج» ولكن آية نفي الحرج هذه التي استشهد بها الإمام (عليه السلام) يصعب التوفيق بينها وبين المعنى الذي حملنا السؤال عليه ، فإنّ ذلك سيؤدّي بنا إلى القول بأ نّ آية :
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} والتي يفترض أن تكون محصورة في دائرة الأحكام الإلزامية لا تتناسب مع هذا المعنى ، لأ نّ المستحب يتضمّن جواز المخالفة ، كما أ نّ المكروه في ذاته يتضمّن جواز الارتكاب ، وبالتالي فإنّ هذه الأحكام الشرعية لاتتناسب مع آية الحرج .
أقول: إذا أخذنا بهذا المعنى للرواية ، فإنّ الآية ستكون لها مدخليّة في ما يخصّ المستحبات والمكروهات ، ولكن إلتزام هذا المعنى أولى من أن نحمل السؤال على أنّه وارد في خصوص انفعال ماء الكرّ وعدم إنفعاله ، ومن ثمَّ أفضل من القول بأ نّ استشهاد الإمام (عليه السلام) بالآية الشريفة:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هو من باب أ نّ ماء الكرّ لو تنجّس بملاقاة النجاسة لاستلزم الحرج والمشقّة ، ولذا جعل الله سبحانه وتعالى الماء الكرّ لا ينجس بملاقاة النجاسة . إنّ هذا الفهم للرواية وللآية يغاير ما نُريد أن نستفيده من قاعدة لا حرج فيما بعد ، لأ نّنا نريد فيما بعد أن نستفيد من قاعدة لا حرج مقابل الإطلاقات التي تثبت حكماً مّا ، وظاهر هذه الإطلاقات أنّها تثبت الحكم سواء في الموارد غير الحرجيّة ، أو في موارد الحرج ، إلاّ أ نّ قاعدة (لا حرج) تدخل كدليل حاكم ومبيّن تقول: إنّ هذا الدليل وإن كان يثبت الحكم في موارد الحرج ، إلاّ أنّه لا توجد إرادة جدّية على ذلك ، فالدليل المطلق يشمل مورد الحرج ، أمّا وظيفة قاعدة الحرج تحديد الدليل ، وبالتالي تحديد دائرة الحكم ، ومن هنا فمن الأفضل أن نحمل الرواية على ذلك المعنى .
الرّواية الثّالثة
نتطرّق إلى رواية أخرى وهي آخر رواية في هذا الباب ، وفيها جانب إضمار
(الصفحة 85)
ويتبيّن بقرينة كلمة «أن أبا جعفر» أ نّه هو الإمام هو الصادق (عليه السلام) ، قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء ، لايدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ، أيُصلي فيها؟
فقال (عليه السلام): «نعم ، ليس عليكم المسألة ، ثمّ يستشهد الإمام (عليه السلام) بالقول: إنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك»(1) .
الرواية هذه واضحة في سؤالها ، حيث لايوجد في السؤال أيّ غموض ، ولا مجال للشكّ والترديد فيها فالسؤال هو عن جبّة فراء إشتراها أحدهم ، ويشكّ هل هي نجسة أو طاهرة ، فهل له أن يصلّي فيها؟
ويجيبه الإمام (عليه السلام):
«لا مانع من ذلك ، ليس عليكم المسألة ، إنّ الدين أوسع من ذلك» لأ نّ مقتضى القول أنه لولا قاعدة الحرج للزم التحقيق ، أي لو لم تكن قاعدة الحرج ، ولو لم يكن الدين أوسع من ذلك لكان التحقيق أمراً لازماً؟
والسؤال الذي يرد هنا: ماهو الأساس في لزوم التحقيق؟ هل أ نّ لزوم التحقيق نابع من أ نّ طهارة الثوب شرط صحّة الصلاة ، وعلى الإنسان أن يحرز هذا الشرط ، إذ أنّ وجود شرط داخل في الواجب المفروض على المكلّف يملي عليه أن يتأكّد من تحقّقه ، ولايكفي أن نشكّ في ذلك ، فالشكّ في الشرط لايوجب الإكتفاء بما أوتي به مع الشكّ في المشروط ، ومن هنا فإنّ الطّهارة شرطٌ لابدّ من إحرازه ، والإمام يقول: «ليس عليكم المسألة» هذا من جانب .
ومن جانب آخر فإنّ إحراز الطهارة أمرٌ لازم في تحقّق الصلاة ، فما الأصل الذي حلّ محلّ الشرط في إحراز الطهارة وعلى أساسه قال الإمام (عليه السلام) : ليس عليكم المسألة؟
- 1 . الوسائل 3: 491 ، الباب 50 من أبواب النجاسات ، الحديث 3 .