(الصفحة 167)
أنّ العبادة تحتاج إلى أمر فعلي حقيقي ، ولا يكفي الملاك والمناط في صحّة العبادة ، ولذا اضطرّوا من أجل تصحيح الأمر الفعلي وتثبيته إلى طرح مسألة الترتّب ، وقالوا: ما هو المانع من أن نتصوّر هنا أمرين: أمرٌ متعلّق بالأهمّ بنحو الواجب المطلق وغير المشروط ، وأمر متعلّق بالمهمّ معلّقاً على عصيان الأمر بالأهمّ ، ويأخذ بالعصيان بنحو الشرط المتأخر ، أو معلّقاً على نيّة عصيان الأمر الأهمّ بنحو الشرط العقلي والشرط المتقدّم ، إلاّ أ نّ الذين أنكروا الترتّب كالمرحوم الآخوند قال هنا: إنّ المكلّف خالف الأمر الأهم واشتغل بالصلاة ، نقول في نفس الوقت بصحّة صلاته مع انّه لا يوجد أمرٌ بها ، ولكنّ الملاك موجود ومتحقّق ، فلذا نصحّح العبادة ، ولا يلزم هناك أمرٌ فعلي بالعبادة ، فيكفي تحقّق الملاك والمناط أيضاً ، ولكن ينبغي إحراز الملاك ، ولابدّ أن يكون المناط قطعيّاً ، ولا يكفي احتمال الملاك والمناط .
ونحن في مسألة الصلاة والإزالة ـ وفي كلّ متزاحمين بشكل عامّ ـ لدينا يقين بتحقّق الملاك فيهما ، إلاّ أنّ ضيق وقت المكلّف وعدم قدرته قد أوجب ذلك ، فإنّ المكلّف لا يستطيع عملاً الجمع بين الصلاة والإزالة في آن واحد ، ولايمكنه في آن واحد إنقاذ زيد من الغرق وإنقاذ عمرو ، إلاّ انّ مصلحة وجوب الإنقاذ موجودة في كلا الإنقاذين ، فعدم قدرة المكلّف صار سبباً في أن يرفع المولى يده عن أحد أمريه ، وإلاّ لو أ نّ المكلّف كان قادراً على الجمع بين الضدّين وإمتثالهما في آن واحد يكون أمر المولى محفوظاً فيهما معاً ، وامّا رفع المولى يده عن أحد التكليفين على سبيل التخيير فيما إذا كان التزاحم بين متساويين ، فسببه أنّ المكلّف لا يستطيع الجمع بين هذين الأمرين وهذين العملين الواجبين .
الجواب على الدليل الثاني:
ونتساءل فيما نحن فيه: أيّ واحد من هذين الطريقين تتمسكون كملاك لصحّة
(الصفحة 168)
العبادة من العبادة الحرجيّة؟ فهل يوجد هناك أمر؟ فلو كان المفاد الأوّلي لقاعدة الحرج هو نفي الوجوب وعدم الإلزام ، فلا معنى لأن يكون هناك أمر في العبادة الحرجيّة ، لأنّ معناه طرح قاعدة (لا حرج) ، فإذا لم يكن هناك أمر فمن أين تأتون بالملاك .
ففي مسألة المتزاحمين كنّا نعلّم أنّ المسألة لا إرتباط لها بالمولى أبداً ، وإنّما الإشكال يرتبط بالمكلّف وضعف قدرته ، فإنّ المكلّف لا يستطيع الجمع بين الإنقاذين ، ولا يتمكّن في آن واحد أن يجمع بين الصلاة والإزالة ، وهنا بلحاظ عجز المكلّف قام المولى ورفع اليد عن أحد الأمرين ، وهذا لا يقتضي أن لا تكون في الصلاة عند ترك الإزالة أيّ مصلحة وأن تختلف هذه الصلاة عن البقية الصلوات ، حتى تكون الصلوات بأجمعها معراج المؤمن إلاّ هذه الصلاة ، وأ نّ بقيّة الصلوات تنهي عن الفحشاء والمنكر إلاّ هذه الصلاة ، فهنا نحرز مسألة الملاك والمناط بشكل كامل ، ولذا فإنّ المرحوم الآخوند من أجل هذا المناط قام بتصحيح العبادة وحكم بصحّة الصلاة .
ولكن فيما نحن فيه من أين لنا أن نعرف انّه في العبادة الحرجيّة رفع التكليف فقط ، وامّا الملاك فلا يزال محفوظاً ، وأ نّ المناط في الصوم الحرجي وغيره واحد؟ فعلى هذا لابدّ من إحراز هذا المعنى ، ولا يكفي مجرد الإحتمال ، فلو أحرزنا أنّ تلك المصلحة التامّة الموجودة في الصوم غير الحرجي موجودة أيضاً في الصوم الحرجي ، فبإمكاننا أن نحكم بصحّة الصوم الحرجي ، وأمّا إذا لم نحرز ذلك ، ولم نتمكّن من إثباته ، فلا طريق لنا حينئذ إلى تصحيح العبادة الحرجيّة .
وربّما يأتي شخص ويقول: نحن نثبته بأن نقول: إنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) واردة في مقام الإمتنان ، والإمتنان يقتضي أنّ الله لم يجعل وجوباً للصوم الحرجي ، لكن هل يقتضي الإمتنان أن يقول: إنّ الصوم الحرجي لا قيمة له أصلاً؟
(الصفحة 169)
فهل هذا داخل في الإمتنان؟
ربّما يقال: إنّ هذا مخالف الإمتنان ، فنحن نستفيد من نفس كون قاعدة (لا حرج) واردة في مقام الإمتنان أنّ الإمتنان يرفع اللزوم فقط واللاّبديّة ، ولا ترفع المصلحة عن الفعل ، ولذا فنحن من خلال ضمِّ قاعدة (لا حرج) إلى دليل: (كُتب عليكم الصيام) نفهم وجود الملاك والمصلحة في الصوم الحرجي ، رغم عدم وجوب التكليف .
تحقيق المسألة:
ولكنّ هل يحصل من هذا الكلام إطمئنان لدى الإنسان؟ علينا أن نرى هل إذا ضممنا هذين الدليلين ، فهل يدلّ أحد الدليلين على وجوب الصوم ، وهو (كتب عليكم الصيام) من دون أن تطرح مسألة الحرج وعيّن الحرج فيها ، ويكون مقتضى إطلاقه ثبوت وجوب الصوم حتّى إن كان حرجيّاً؟ إذا لم تكن هناك قاعدة (لا حرج) لكنّا قد استفدنا هذا المعنى من (كتب عليكم الصيام) ولكن عندما جعلنا إلى جانب آية الصوم هذه القاعدة ، وإنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) في مقام الإخبار ، تخبر عن ماذا وعن أي شيء؟ المخبريّة هي أنّ وجوب الصوم الحرجي لم يشرّع أصلاً ومن أوّل الأمر ، ولو أنّكم تصورتم من خلال الإرادة الإستعماليّة ومقتضى الإطلاق في (كتب عليكم الصيام كما . . .) أ نّ وجوب الصوم جعل بشكل مطلق ، إلاّ إنّني أنا الشارع ومقتضى قانون الصوم الذي جئت بـ(كتب عليكم الصيام) أقول لكم : إنّه من البداية لم يجعل وجوب الصوم الحرجي ، وإنّما كان في الحقيقة فقط تصوّر للجعل .
فلو قال ذلك من الأوّل ، وأورد مثل هذا التعبير ، فمن أين لنا أن نعرف أنّ الصوم الحرجي مشتمل على مصلحة ، فلو قيل (أكرم العلماء إلاّ زيداً) على نحو
(الصفحة 170)
الإستثناء والتخصيص المتّصل ، فما هو مقدار الإستثناء الذي يستفاد من ذلك؟ هل تقولون : إنّ زيداً لا وجوب في إكرامه مع وجود ملاك وجوب الإكرام فيه؟ أو تقولون لا حكم فيه ، وربّما لم يكن فيه ملاك أيضاً ، والقاعدة إنّه لا ملاك له ، فهل أنّ ضمّ قاعدة نفي الحرج إلى الأدلّة الأوّليّة تفيد غير هذا المعنى؟
وبعبارة أوضح: إنّه وإن كان لسان قاعدة (لا حرج) لسان الحكومة ، أي حكومة هذه القاعدة على الأدلّة الأوّليّة ، ولكن هل أ نّ الحكومة مختلفة عن التخصيص من هذه الناحية؟ فلو قال المولى في موضع: (أكرم العلماء) وفي موضع آخر: (لا يجب إكرام زيد العالم) ، فهناك أثبت الوجوب ، وفي الدليل المخصّص نفى الوجوب ، فإذن هنا أيضاً توجد مسألة الحكومة ، ولسانها أقوى من لسان التخصيص ، فهو أيضاً في موضع التشريع يقول بعدم الوجود من أوّل الأمر ، فإذا لم يكن تكليف حرجي من أوّل الأمر في موضع التشريع فمن أين لي أن أعلم أنّ هذا الصوم الحرجي واجد للملاك؟
إشكال وجواب:
أمّا الاشكال: قد يقال: إنّ لدليل وجوب الصوم في الحقيقة دلالتان: دلالة مطابقيّة ، ودلالة إلتزاميّة ، امّا الدلالة المطابقية فهي عبارة عن وجوب الصوم هذا ، وأ مّا الدلالة الإلتزاميّة ، أو بتعبير آخر: لازمه ، فهو أنّ الصوم بشكل كلّي فيه مصلحة تامّة ، فلنقل بوجود دلالتين لدليل وجوب الصوم ، ومن ثمّ نقول: إنّ المقدار الذي ترفعه قاعدة الحرج من دليل وجوب الصوم يختص بدلالته على الوجوب ، وامّا فيما يختص بإشتمال الصوم على المصلحة التامّة فإنّ قاعدة (لا حرج) لا تنافيه ولا تغايره .
ثمّ نأتي بعد ذلك ونطبّق المسألة على بحث موجود في باب التعادل
(الصفحة 171)
والتراجيح ، وهو: هل أنّ الروايتين المتعارضتين (بغضّ النظر عن الأخبار العلاجيّة) التي تقتضي القاعدة تساقطهما ، فهل يحصل التساقط بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي فقط ، أو يعمّ حتّى المدلول الإلتزامي؟ بعبارة أوضح: لو أ نّ رواية تقول: (صلاة الجمعة واجبة) ، ورواية اُخرى تقول: (صلاة الجمعة حرام) فالقاعدة تقتضي سقوط هاتين الروايتين ، فإنّ التعارض يؤدّي إلى التساقط ، ولكن ما هي حدود التساقط؟ فهل يكون بمقدار رفع الحرمة والوجوب مع احتمال بقاء الإستحباب وهو حكم ثالث ، أو أ نّ تساقط هاتين الروايتين في نفي الوجوب والحرمة ، وأ مّا فيما يختصّ بنفي الإستحباب فهما مشتركان ولا يتحقّق التساقط ، وفي الحقيقة فإنّ الروايتين المتعارضتين حجّة في نفي الثالث وإن كانا ساقطتين عن الحجيّة بالنسبة إلى مفادهما .
فنأتيونقول: إنّ مانحن فيه من هذا القبيل، فإنّ دليلوجوب الصوم له دلالتان: دلالة على الوجوب ودلالة على المصلحة ، والمقدار الذي ترفعه قاعدة (لا حرج) من هذا الدليل هو دلالته على الوجوب فقط ، أمّا فيما يختص بالدلالة على المصلحة فإنّها لا ينافي قاعدة (لا حرج) حتّى تقوم هذه القاعدة برفع المصلحة أيضاً .
الجواب: ولكن هذا الكلام محلّ مناقشة؟ لأنّ دلالة دليل وجوب الصوم على المصلحة دلالة فرعيّة وطوليّة ، أي انّها تدلّ أوّلاً على الوجوب ، وعن طريق الدلالة على الوجوب يدلّ على المصلحة ، لا أ نّ الوجوب والمصلحة يكونان في عرض واحد ، فيدلّ على الوجوب ويدلّ على المصلحة ، حتّى يقال: إنّ قاعدة (لا حرج) تعارض الدلالة على الوجوب ، ولا تعارض الدلالة على المصلحة أبداً ، كلاّ ، إنّ الدلالة على المصلحة في طول الدلالة على الوجوب ، وإلاّ فأيّ موضع من (كُتب عليكم الصيام) يدلّ على مسألة المصلحة؟
قد تأتي وتقول بأنّ هذه الآية تقول: إنّ الصوم واجب ، ونحن من الخارج نعلم
|