(الصفحة 13)
لا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا النّاس ـ وعلى كلّ حال من هم هؤلاء ؟ وما هي دلالة الآية ؟ .
ثمّ إ نّ الآية الكريمة:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هل تعني: ما جعل على المسلمين من حرج ؟ ما جعل على المكلّفين من حرج ؟ أو ما جعل عليكم من حرج ؟ وهناك نقطة اُخرى يمكن بحثها فيما بعد ، وهي أ نّ الآية هل جاءت في سياق التخصيص ، أم لا ؟ .
فمع الأخذ بنظر الاعتبار مفاد الآية ومدلولها الأوّلي بلحاظ
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} فالسؤال عن الأفراد الذين يشملهم ضمير الآية
{كم} ، وهذا بحث جيّد يطرح في هذا المجال ولا بأس من التطرّق إليه .
والبحث الآخر الّذي نودّ التّطرق إليه هنا هو أ نّه بالإمكان تشخيص المخاطبين في هذه الآية بضم آية اُخرى إليها وبحثهما معاً ، ويرتبط هذا البحث بقاعدة لا حرج من جهة ، ومن جهة اُخرى فهو بحث تفسيري دقيق وممتنع .
ومن جهة ثالثة يسلّط الأضواء على موضوع أساسي وأصيل في باب الأمامة ، وبرأيي فإنّ هذا المدلول من كرامات ومعجزات القرآن ، ويتضح هذا المعنى من خلال التدّبر في القرآن الكريم ، حيث يبيّن لنا ماهي مميّزات الإمامة ؟ ومن هي الفرقة التي تترسخ فيها هذه الفكرة ؟ وأيّ من الطّوائف تنادي بها ؟ ومضافاً إلى ذلك تحدّد لنا ميزة خاصّة من ميزات الإمامة ، وهي مسألة علم الإمام بالغيب في خصوص قوله تعالى:
{وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وسنوضح ذلك فيما بعد إن شاء الله .
من هم المخاطبون؟
وقد رأيت من المناسب هنا أن لا نتجاوز بحثنا التّفسيري هذا ، فهو يرتبط بقاعدة لا حرج أيضاً ، حيث إنّ الآية تقول:
{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}
(الصفحة 14)
فهل أ نّ الضمير
{كم} يعود على كافّة المكلّفين ، كافّة المسلمين ؟ إذن لماذا تقول الآية
{وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ؟ فالناس هنا خارج دائرة الخطاب ، فهنا عنوان آخر ومجموعة اُخرى لا ينطبق عليها عنوان الرّسول ولا عنوان النّاس ، ومشخّصات الآية تعكس لنا مشخّصات هذه المجموعة .
والآن نلقي نظرة على هذه المشخّصات ، ومن ثمّ نستعرض آية اُخرى ذات علاقة بهذا الموضوع ، ومن خلال هاتين الآيتين سنتوصّل إلى نتائج باهرة على مختلف الأصعدة .
أحد خصائص الآية الكريمة هي قوله تعالى:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ، فالإجتباء والإصطفاء بمعنى الاختيار والانتخاب ، وما نلاحظه هو أ نّ الله تبارك وتعالى استعمل كلمتي «الإصطفاء والإجتباء» لخواصّه والمقرّبين إليه ، قال تعالى:
{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}(1) هنا وردت مفردة الإصطفاء ، وفي آية اُخرى وردت مفردة الإجتباء وهو قوله تعالى:
{يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (2) .
أي أنّ الرّسول بما أ نّه رسول ليس له صلاحيّة الإجتباء ، فالإجتباء يعني الإختيار على أساس خصائص ومميّزات محدودة تتوفّر لدى بعض الأفراد ، وقوله تعالى
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} إنّكم تتوفّرون على الخصوصيّة أو الميزة التي تجعلكم مجتبون من قبل الله تعالى . والسؤال هو : هل يمكن لنا أن نعمِّم مفهوم
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} على عامّة النّاس أو المسلمين الحقيقيين ، فنقول : إنّ المسلمين مجتبون من قبل الله وأ نّهم مصطفون ؟ ونلاحظ أن هناك ثمّة خصوصيّة وميزة معيّنة ترافق هذا التعبير وهذه العبارة ، فالآية في بدايتها تقول «هو اجتباكم» أي أ نّ
- 1 . آل عمران: 33 .
- 2 . آل عمران: 179 .
(الصفحة 15)
هؤلاء المخاطبين قد أحرزوا مقام الإجتباء أوّلاً ، ومن ثمّ تقول:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
هل كلمة (أبيكم) مجاز ، أم حقيقة؟
والمقصود من الأب هنا هو الأب الحقيقي ، وليس هناك ما يبرّر لنا صرف كلمة «الأب» عن معناها الحقيقي ، فما لم توجد هناك قرينة على المجاز ، لابدّ من حمل كلمة الأب على معناها الواقعي . وهذه قرينة اُخرى على استبعاد أن يكون المراد في ضمير «كم» كافّة المسلمين والإلتزام بأن لفظة:
{أبيكم} مجاز .
إذن الآية الكريمة تقول: إنّ هؤلاء هم أبناء إبراهيم الحقيقيّون ـ ملّة إبراهيم ـ وإبراهيم الأب الحقيقي لهؤلاء ، وهذه خصوصيّة تطرحها الآية الكريمة ، وتعيننا على التعرّف على هؤلاء الأفراد .
{هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} الضمير «هو» يعود على الله ، و «من قبل» يعني في الماضي ، و «في هذا» يعني في القرآن ، أي في الكتب السابقة وفي القرآن أيضاً الله سبحانه وتعالى هو الذي أطلق عليكم اسم المسلمين . ومن ثمّ تخلص الآية إلى أخذ النتيجة من هذا القول ، لتبيّن الهدف من جميع هذه الخصائص ، وهو
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} . اللام هنا لام الغاية
{وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي على غير المسلمين من اليهود والنصارى ، فهو المقصود هو أ نّكم أيّها المسلمون تكونون شهداء على اليهود والنصارى ، أم أ نَّ المراد هم أنتم الصنف الخاص ، الجماعة الخاصّة ، والاُمّة الخاصّة كونوا شهداء على الآخرين؟ وسنتطرق فيما بعد إلى معنى هذا القول .
وظاهر الكلام هو ما قلناه ، فليس المقصود من الناس هم اليهود والنصارى ، وأما ما يبدو بالنظرة البدوية من أ نّ الله سبحانه وتعالى هو الذي سماكم بالمسلمين ،
(الصفحة 16)
لتكونوا أنتم ـ أيّها المسلمون ـ شهداء على النّاس ، بهذا المعنى لابدّ أن يكون الناس من غير المسلمين ، ويحب أن ندخل اليهود ضمن الناس ، في حين أ نّ ظاهر الآية يرشدنا إلى معنى آخر ، فالناس هنا هم المسلمون أنفسهم ، إذن الجملة
{سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} هو عنوان خاص ومرتبط بجماعة خاصّة . وهذه الجماعة الخاصّة لها عدّة خصائص يمكن أ نّ نستفيدها من الآية الكريمة .
أحد هذه الخصائص التي غفلنا عنها في البداية ، هو نفس هذا الخطاب ـ
{وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أي أ نّكم مكلّفون بطيّ جميع مراحل المجاهدة ، لماذا ؟ لأ نّ الله هو الذي اختاركم ، أنتم لستم أفراداً عاديين تريدون أن تقوموا بتكاليفكم بين الناس العاديين .
ونفس الخطاب هذا لايمكن أن يكون موجّهاً إلى كافّة الناس «وجاهدوا في الله حقّ جهاده» بتعليل «هو اجتباكم » ، أي لا يصحّ القول أن الله سبحانه وتعالى لمّا اجتباكم واختاركم ، القى على عاتقكم مسؤوليّة أكبر وأثقل ، وهل أ نّ هذا التعبير يتناسب مع عامّة الناس ؟ وهل هذا التكليف يمكن أن يتوجّه إلى النّاس كافّة ؟
الآية بنفسها تدلّنا على أ نّ المسألة ليست بهذا الشكل ، والمخاطب والمكلّف المسمّى بالمسلمين وأبناء إبراهيم هم أفراد خاصّ من المسلمين ، فهم من جهة لاينطبق عليهم عنوان الرسول ، ومن جهة اُخرى ليسوا من الناس العادييّن ، وهذا مايدلّنا أ نّهم يحملون عنواناً خاصّاً بين الرسول وبين الناس ، ومسؤوليّتهم أكبر وأصعب بكثير من مسؤوليّة عامّة النّاس .
هذه الآية لوحدها ومن دون أن ندعمها بآية اُخرى أو برواية صحيحة وردت في تفسير هذه الآية ـ وسنتعرّض إليها لتأييد ما قلناه فيما بعد ـ تشير إلى أن هناك عنواناً آخر يتوفّر على جميع هذه الخصائص .
والآن نتطرّق إلى آية اُخرى تساعد في فهم الآية
{سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ
(الصفحة 17)
وَفِي هَذَا . . .} وكما قلت فإن بحثنا معنى تفسيري ويرتبط أيضاً بمسألة الإمامة وبعلم الإمام ، ومن جانب آخر له علاقة بقاعدة لا حرج الّتي هي محل بحثنا بالأساس ، وبما أ نّ هذه الآية الكريمة بالذات هي من أهمّ الآيات التي يستدلّ بها على قاعدة لا حرج ـ فلذلك يجب أنْ تدرس وتناقش بدّقة . . .
الآية الثانية:
يقول الله تعالى :
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}(1) بناءاً على الشواهد التأريخية فإنّ إبراهيم (عليه السلام) هو الذي بنى الكعبة وساعده في ذلك إسماعيل (عليه السلام) وخلال عملية البناء يرفعان أيديهما ويدعوان الله بعدّة دعوات:
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
ومن هنا يتّضح لنا إنّهما إنّما قاما بهذا العمل بأمر من الله تعالى ، وتزامناً مع امتثالهما لأمر الله رفعا أيديهما بالدعاء بأن يتقبّل منهما ذلك .
الدعاء الثّاني الذي دعوا به هو:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}(2) هذا الدعاء يحتاج إلى وقفة وتأمّل ، واستعراض الظروف التي كانت تحيط بالنبي إبراهيم (عليه السلام)عند دعائه بهذا الدعاء ، ففي ذلك الوقت كان إبراهيم (عليه السلام) يمتاز بمقام النّبوة وبمقام الإمامة أيضاً نظراً لمقتضى الآية الكريمة:
{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (3) ، وبحسب الرّوايات والقرائن فإنّ أهمّ الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم (عليه السلام) هو ذبح إسماعيل (عليه السلام) وتقديمه قرباناً ، وفي الحقيقة فإنّ ذبح إسماعيل من الإبتلاءات التي لم يسبق لها مثيل ، كما أ نّها لا مثيل لها في اللاحق أيضاً ،
- 1 . البقرة: 127 .
- 2 . البقرة: 128 .
- 3 . البقرة: 124 .