(الصفحة 189)
وهنا بحث من جهة الحكم الظاهري في إستدامة جواز الأكل والشرب بمقتضى الاستصحاب في ليلة رمضان لمن لم يحرز طلوع الفجر وفي وجوب الإمساك في النهار لمن لم يحرز غروب الشمس وهذا لايرتبط بكلامنا الآن لأنّ كلامنا الآن في الحكم الواقعي لا الحكم الظاهري والرجوع إلى الاستصحاب .
والفجر بنظره الشريف عين التبيّن ولكنّ بناءً على احتمال المفسّرين ، الفجر على نحوين امّا متبيّن وامّا غير متبيّن كما انّ سائر العناوين كالنجاسة أمّا متبيّن سواء كان بالعلم أو البينّة أو غيرهما وامّا غير متبيّن .
لايقال بناء على نظره (رحمه الله) فإذا لم يتفحّص المكلّف عن الفجر لم يحصل التبين والفجر .
لانا نقول: التبين وصف للواقع وانّ له واقعية في الخارج ويحصل في وقته وان لم نُحِقّق عنه وهذا كضوء سراج في غرفة فإنه موجود وإن لم نفتح باب الغرفة ولم نَره الاّ أنّ الذي يأكل السحور ويريد الصوم لابد أن يحقق عنه حتّى لم يقع أكله بعد الفجر .
مُلخّص نظر الإمام الخميني
ومحصّل نظره أنّ من للتبيين لا للتبعيض والنشوء «ومن» بيان لنفس التبين لا الخيط الأبيض وعلى هذا الفجر عبارة عن تبين الخيطين وتميزهما وفي الليالي المقمرة يقهر نور القمر على بياض الفجر بواسطة أصل وجود القمر أولاً وبواسطة قربه من الاُفق الشرقي ثانياً . وذلك حيث إنّ ضوء القمر شديد ويمنع عن تبين البياض في أوائل طلوع بياض الفجر وحينما تقرب الشمس من الاُفق وينبسط الخيط الأبيض يتفوّق البياض على ضوء القمر ولايتحقّق التبين بحسب الواقع أصلاً إلاّ أنّه يتحقق واقعاً ولكنّه مستور بالنسبة إلينا وهذا مثل السراج الذي نوره
(الصفحة 190)
ضعيف في قبال السراج الذي نوره شديد فنور الضعيف لايتبين ولا يتميز أصلاً هذا بيان كلامه (قدس سره) بفهمنا الناقص .
ولنا في هذه النظرية إشكالات:
الأوّل: أنّ «من» التبيينية لا تكون بياناً للجملة بل بياناً لكلمة واحدة أو المضاف والمضاف إليه أو الصفة والموصوف(1) .
والثاني: أنه لو سلّم أنّ «من» التبيينية تكون بياناً للجملة كما يكون بياناً للمفرد فاللازم الاستظهار من الآية بأنّ «من» في الآية بيان لأيّ شيء للجملة أو المفرد .
والثالث: أنّ الفجر هل يكون فيه إجمال حتّى يحتاج إلى التبين . هل له حقيقة شرعية أو المتشرعية كالصلاة ، والظاهر أنّ العناوين التي مثل الفجر كزوال الشمس وغروبها ليس لهما حقيقة شرعية أو المتشرعية بل هما بمعناهما العرفي واللغوي موضوعان للأحكام الشرعية والزوال أمر محسوس بالعين للإنسان وهكذا الغروب ـ أيّ استتار القرص في الاُفق ـ أمر محسوس لمن يرى الاُفق نعم جعل الشارع ذهاب الحمرة المشرقية عن الرأس أمارة للغروب لمن يعيش في البلاد التي لم ير الاُفق فيها كبلدنا «قم» .
فمن البعيد جداً خروج الشارع عن المعنى العرفي واللغوي للفجر فالمستظهر من الآية عدم كون الفجر عبارة اُخرى عن التبين ولا يكون «من» للتبيين .
ثمّ تقدّم انّ الاحتمالات في الآية بناء على ما ذكره الإمام الخميني بالنسبة إلى
- 1 . وسيأتي انّ بعض الروايات الواردة في تفسير الآية مثل صحيحة علي بن مهزيار ـ التي قال الإمام الخميني بانها أظهر أخبار الباب في إثبات مختاره ـ تدلّ بالصراحة على بيانيّة الفجر للخيط الأبيض لا على بيانيته لنفس التبين حيث ذكر فيها «الفجر يرحمك الله هو الخيط الأبيض المعترض» والعجب كل العجب أنه (رحمه الله) لم يذكر هذا حتّى بنحو الاحتمال في الآية .
(الصفحة 191)
«من» ثلاثة:
التبعيض والتبيين والنشوية وبعد المراجعة إلى بعض الكتب المفصلة كمغنى اللبيب لابن هشام لم نجد معنى النشوء لـ «من» مع أنه ذكر خمسة عشر معنى لها نعم أحد هذه المعاني قابل للانطباق(1) على النشو وهو «من» بمعنى التعليل كما في الكتاب كقوله تعالى
(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً)(2) أي الغرق ناش من خطيئاتهم ، وكما في الإشعار مثل الشعر المعروف لفرزدق في مورد الأمام زين العابدين «يُغْضى حياءً ويُغْضى من مهابته» أي الإغضاء ناش من المهابة .
فإذا كان المراد من النشو التعليل فله وجه وامّا بعنوان النشو فلا يوجد في كلام المحققين من الأدباء .
وأمّا «من» التبيينية فهي لبيان الجنس وهذا الجنس وهو الذي فيه الإبهام ويعبّر عن الماهية المبهمة ، بالجنس ومعلوم انّ الجنس بالاصطلاح الأدبي غير الاصطلاح المنطقي .
ولذا يقول الألف واللام لتعريف الجنس فيتضح انّ في الجنس إبهاماً يرفع بالألف واللام والأمثلة التي مثّلوا بـ«من» التبيينية تكون في المفردات في مقابل الجملة ولا يكون في كلمات الأدباء إشارة إلى أن «من» لتبيين الجملة .
فانقدح أولاً أنّه لا يكون «من» التبيين الجملة وثانياً: أنه لو فرض من الجهة الأدبية وجود «من» لتبيين الجملة فنقول لايمكن فرضه في الآية لنقطتتين:
الأولى: ماتقدّم من عدم وجود الحقيقة الشرعية بل المتشرعية للفجر كما
- 1 . الظاهر انطباقه على «من» الابتدائية إذا كانت ناظرة إلى منشأ الشيء مثل قوله تعالى «وجعلنا من الماء كلّ شيء حي» (انبياء 30) ولذا قيل في قوله تعالى: «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله» (الزمر 21) انّ «من» للابتداء وفسّر الدسوقي بقوله: «ياويلنا ويلاً نشأ من هذا» (شرح الدسوقي ج 1 ، ص 319) .
- 2 . نوح: 25 .
(الصفحة 192)
عرفنا وجداناً انّ الشارع لم يضع حقيقة شرعية للزوال والغروب .
والثانية: أنه لو فسّر الشارع الفجر بالتبين لكان له وجه ولكنّه فعل في الآية بالعكس وفسّر التبين بالفجر ونحن نعلم انّ المعهود في الألفاظ التي فيها حقيقة شرعية كالصلاة مثلاً ، تفسيرها بماهياتها الشرعية فتفسّر الصلاة بالأفعال والأذكار وانّ أوّلها التكبير وآخرها التسليم وبعبارة أخرى اللفظ موضوع وتعريفه محمول كما في «الإنسان حيوان ناطق» ولا يعملون بالعكس «الحيوان الناطق إنسان» وفي الآية بناء على ما ذكره الإمام الخميني (رحمه الله)الفجر جعل بياناً للتبيين وهذا بعكس المعهود .
فما ذهب إليه الإمام الخميني (قدس سره) لايمكن الإلتزام به والحال نطرح كلام الهمداني (رحمه الله) .
كلام المحقّق الهمداني في المسألة
ذكر المحقق(1) الهمداني (رحمه الله) في كلامه نكتتان: احديهما انّ «من» في الآية بيان للخيط الأبيض لا النفس التبيّن ومع ذلك يجب تأخير الصلاة والصوم حتّى يقهر نور الفجر على نور القمر لانّ المأخوذ في الآية تبيّن الخيط الأبيض «حتّى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» وظاهر العناوين المأخوذة في الأدلّة ، الموضوعية فكما ذكرنا في قوله «الماء المتغير نجس» انّ ظهور التغير في التغير الفعلي
- 1 . قال في كتاب الصلاة (في باب المواقيت) في التنبيه الثاني هكذا: مقتضى ظاهر الكتاب والسنة وكذا فتاوي الأصحاب ، اعتبار اعتراض الفجر وتبيّنه في الاُفق بالفعل ، فلا يكفي التقدير مع القمر لو أثّر في تأخّر تبيّن البياض المعترض في الاُفق ، ولايقاس ذلك بالغيم ونحوه فإنّ ضوء القمر مانع عن تحقق البياض ، مالم يقهره ضوء والغيم مانع عن الرؤية ، لا عن التحقق وقد تقدّم في مسألة التغير التقديري في مبحث المياه من كتاب الطهارة ماله نفع في المقام ، (مصباح الفقيه ، ج 2 ، ص 25) .
(الصفحة 193)
لا التقديري فكذلك هنا لابد من تحقق التبين بالفعل وفي الليالي المقمرة ليس التبين فعلياً بل التبين تقديري ولولائي بمعنى إنه لولا ضوء القمر لتبين الفجر ولكنّ مع وجود ضوء القمر لا وجود للتبين واقعاً فيجوز للمكلّف أن يأكل ويشرب إلى أن يتحقق التبين الفعلي .
وثانيتهما: الفرق بين الليالي المقمرة والمغيمة والحكم بوجوب التأخير في الأوّل دون الثاني لانّ الغيم أمر عرضي ومانع عن الرؤية كما يكون العمى في الأعمى والعمش في الأعمش والذي يضعف بصره مانعاً عن رؤية التبين بخلاف نور القمر في الليالي المقمرة وبعبارة اُخرى إنّما المشكل في الليالي المقمرة في المرئي أي الفجر بمعنى أنه لم يتحقق مع وجود ضوء القمر والمشكل في الليالي المغيمة في الرؤية لا المرئي بمعنى انّ الفجر تحقّق ولكنّ الغيم مانع عن الرؤية .
نقد نظرية الهمداني (رحمه الله)
وفي كلامه نظر لما تقدّم في ضمن الضابطة الكلية من انّ ظاهر العناوين وإن كان في الموضوعية كتغيّر الماء ولكن لهذه القاعدة استثناءً وهو انّ مادة «العلم» و «اليقين» ونحوهما كالتبيّن ظاهرة في الطريقية عرفاً .
فما ذكر في مباحث القطع في علم الاُصول ـ من انّ القطع امّا موضوعي وامّا طريقي والموضوعي إمّا تمام الموضوع وإمّا جزء الموضوع والقطع الموضوعي إمّا أخذ بنحو الطريقية والكاشفية وأمّا أخذ بنحو الوصفية ـ لاينافي ما ذكرنا هنا ، لانّ البحث في ظهور الكلمات عرفاً ومادة العلم واليقين ونحوهما ظاهرة في الطريقية إلاّ أن تقوم قرينة على الموضوعية فيمكن أخذ العلم بنحو الموضوعية في الدليل ولكنّه يحتاج إلى القرينة والأصل عدمها . ولو سلّم عدم الفرق بين العلم وسائر العناوين