(الصفحة 86)
هل استند الإمام في هذا إلى قاعدة الطهارة للتخفيف من الكلفة والمشقّة المفروضة على الناس ، ولرفع الحرج والضيق عن أفراد المجتمع الإسلامي ، هل هذا هو ما تعنيه الرواية؟ أليس من الواجب إحراز الشرط؟
نقول إنّ قاعدة الطهارة هي التي أحرزت الشرط ، لجريانها هنا ، وبعد أن استند (عليه السلام) إلى قاعدة الطهارة ، قال (عليه السلام):
«ليس عليكم المسألة» ، ويمكن أن تعتبر هذا القول تتمّة لقاعدة الطهارة ، لأ نّ قاعدة الطهارة لو أ نّها جرت في الشبهات الحكمية لكان لابدّ من الفحص ، أمّا في الشبهات الموضوعية فلا يلزم فيها الفحص . ففي الشبهات الموضوعية إذا شك الإنسان في طهارة ردائه ، لايلزم أن يتفحّص ، بل بمجرّد أن يشكّ في أ نّ هذا نجس أو طاهر تجري قاعدة الطهارة ، فهل أ نّ كلمة «نعم» تعني الإستناد إلى قاعدة الطهارة؟ وقوله ليس عليكم المسألة هو تتمّة قاعدة الطهارة؟ وإذا صحّ ذلك فإنّ عبارة «إنّ الدّين أوسع من ذلك» تبيّن الحكمة من قاعدة الطهارة ، أي أ نّ الإسلام إنّما أقرّ قاعدة الطهارة لرفع الحرج والمشقّة من الناس ، وبذلك تكون علاقتها بقاعدة لا حرج غير وثيقة .
الرواية وسوق المسلمين
وبإمكاننا أن نوجّه عبارة «ليس عليكم المسألة» بشكل آخر ، وهو أ نّ كلّ هذا الكلام هو في السوق ، فقد جاء في سؤال الراوي كلمة السوق ، والظاهر أ نّ المقصود بالسوق في الرواية هو سوق المسلمين لا غير المسلمين ، ومن هنا نقول: بأ نّ سوق المسلمين له حجيّته الشرعيّة وإمارته الشرعيّة ، وهذا يعني أ نّ قوله (عليه السلام): ليس عليكم المسألة ، لأ نّه اشترى جبّة فراء من سوق المسلمين ، فحتّى لو كان البائع مشكوك في أمره هل هو مسلم ، أو غير مسلم ، فلا شيء على المبتاع ، لأ نّه اشترى سلعته من سوق المسلمين ، ومع كون السوق للمسلمين ، فلا حاجة
(الصفحة 87)
للتحقيق والتفحّص ، حتّى لو كان هناك من البيّاع والتجّار من هم يهود أو نصارى ، إذن هل يصحّ لنا أن نقول بأ نّ عبارة الإمام (عليه السلام):
«نعم ليس عليكم المسألة» تفيد هذا المعنى؟
وإذا صحّ هذا فإنّ عبارة «إنّ الدين أوسع من ذلك» أيضاً تدخل في هذا المضمار ، لأ نّ سوق المسلمين أيضاً إذا لم نجعل له حجيّته وإمارته فسيوقع المكلّف في حرج ومشقّة .
وبناءً على ما سبق ، فحتّى لو حملنا الرواية على هذا المعنى الجديد ، مع ذلك لايمكن أن نوجد علاقة بين الرواية وبين قاعدة لا حرج والتي نحن بصددها الآن ، لأ نّ قاعدة لا حرج وظيفتها أن تقف في وجه الإطلاقات التي من شأنها أن تثبت حكماً في جميع الحالات حتّى في موارد الحرج وتنفي ذلك الحكم ، فلسان قاعدة الحرج هو النفي وعدم الجعل وعدم ثبوت الحكم عند الحرج .
الرواية وذكاة الحيوان
وهناك احتمال ثالث يمكن على ضوئه أن نعطي للرواية معنىً أفضل ، وأن نستفيد منها قاعدة لا حرج أيضاً ، وهو أ نّ المكلّف هنا قد شكّ في أ نّ هذا الجلد طاهر أو غير طاهر ، وهذا الشكّ نجده عند الشيعة الإماميّة ، أمّا أهل السنّة فهم يرون أنّه حتّى الحيوان غير المذكّى يطهر بالدباغة .
فبناءً على الاحتمال الثالث فإنّ الرّواية لا تريد أن تتطرّق إلى السوق ، ولا تريد أن تبيّن الحكمة من قاعدة الطهارة ، وإنّما قد تريد أن تقول للمكلف : إنّك إذا شككت بأن جبّة الفراء هذه طاهرة أو غير طاهرة فبالتالي أنت شاكٌّ بين أن يكون هذا الحيوان مذكّى أو غير مذكّى ، والأصل هنا استصحاب عدم التذكية ، ولايمكن للمكلّف أن يترك استصحاب عدم التذكية إلاّ إذا تحقّق بنفسه وتيقّن من أ نّ
(الصفحة 88)
الحيوان كان مُذكّى . ولو فرضنا أ نّ المكلّف تعيّن عليه التحقيق والتفحّص نتيجةً لاستصحاب عدم التذكية ، لاستلزم ذلك الحرج والمشقّة ، فمن الصعوبة التحقيق في هذا الأمر ، وظاهر الرواية يشير إلى هذا المعنى حيث تقول: «ليس عليكم المسألة» ثمّ يعلّل مقبوليّة هذه بأ نّ «الدين ليس بمضيّق» إشارة إلى سماحة الدين وسعته ، ولو لم يكن الدين متسّع لوجبت على المكلف المسألة . إذن ، لو كانت هناك ثمّة مدخلية لقاعدة الطهارة لانتفى المبرّر لقوله (عليه السلام) «ليس عليكم المسألة» ، ولو كان السوق مأخوذاً بنظر الإعتبار لما بقي هناك وجه لمثل هذا القول أيضاً .
وهنا لقائل أن يقول: لماذا كلّ هذا التأكيد على الصلاة بلا فحص وبدون أن ينتزع المكلّف جبّته؟ فمن الممكن أن لا يسأل ولا يفحص المكلّف ، بل ينزع الجُبّة حين حلول وقت الصلاة ، فالإشكال في لبس الجُبّة عند الصلاة فقط ، أمّا خارج الصلاة فلا يوجد ثمّة إشكال في ذلك ، ومن هنا يتبيّن أنّ الرّواية تفترض في نزع الجُبَّة الحرج والمشقّة ، وكأنّه هناك ضرورة عرفيّة في لبس الجُبّة عند الصلاة ، وإذا قلنا بهذه الضرورة العرفيّة ، حينئد يكون أصل الاستصحاب في عدم التذكية جارياً ، ، ومع ذلك لايجب على المكلف أن يتحقّق من طهارة اللباس أو نجاسته إذا حملنا الرواية على هذا المعنى ، فإنّ قوله (عليه السلام):
«إنّ الدين أوسع من ذلك» يكون مناسباً لبحثنا هذا .
ولااُريد أن أقول: إنّ الرواية تعني هذا المعنى حقيقة ، ولكن ظهور الرواية يؤيّد هذا المعنى ، كما أنّه ليس من المستبعد أن تكون الرواية ناظرة إلى مسألة السوق الإسلامي . أو أن تستند إلى قاعدة الطهارة . وبالتالي هناك ثلاث إحتمالات في هذه الرواية . الاحتمالين الأوّل والثاني لا يرتبط بنا ، أمّا الاحتمال الثالث فهو يتعلّق بما نحن فيه . .هذا آخر ما أوردناه بعنوان الدليل للقاعدة ، وفيما ذكرناه منها غنى وكفاية ، وقد ادّعى المحقّق الآشتياني تواتر الروايات على القاعدة بالتواتر المعنوي .
(الصفحة 89)دليل الإجماع على القاعدة
وقد استدلّ على نفي الحرج بالإجماع ، فقد ادّعى صاحب الفصول تحقّق الإجماع عليه ، بل قيل: ادّعى عليه إجماع المسلمين .
ولكنّ فيه ـ مضافاً إلى عدم اعتبار الإجماع المنقول ـ أ نّه حكي عن صاحب الوسائل في كتاب «الفصول المهمّة» بعد أن ذكر الروايات أ نّه قال: إنّ نفي الحرج الذي دلّت عليه الروايات مجملٌ ، والقدر المتيقّن منه هو نفي التكليف بما لا يطاق وبغير المقدور ، وأ مّا غيره فجميع التكاليف الإلهيّة مشتملة على الحرج والضيّق ، بل التكليف هو جعل الغير في الكلفة والمشقّة(1) .
ولايخفى أ نّ التكليف بمالا يطاق خارج عن مورد البحث في قاعدة الحرج ; لأ نّه ممتنع عقلاً ولا يمكن حتّى بالنسبة إلى الموالي العرفيّة فضلاً عن الحكيم على الإطلاق ، فلا يكون صاحب الوسائل (رحمه الله) ممّن قال بنفي الحرج في مورد البحث على نحو الموجبة الجزئيّة .
وفي مقابلة حكي عن بعض أساتيذ الشيخ الأنصاري (رحمه الله) أ نّه جعل قاعدة الحرج من القواعد المسلّمة العقليّة ، ولذا ادّعى استحالة تخصيصها ، لأ نّ دليل العقل غير قابل للتخصيص .
وهناك قول بأ نّ القاعدة حكم شرعي لا عقلي ، ولكنّها ممّا لم يردّ عليه التخصيص ، لوجود خصوصيّة فيها توجب عدم التخصيص .
وقول رابع بأ نّ القاعدة قد خصّصت في كثير من الموارد ، ومن القائلين بهذا القول الشيخ (قدس سره) ، بل زاد: إنّ القاعدة المذكورة من جهة ورود التخصيص عليها في كثير من الموارد بحيث يكون الخارج عن موردها أكثر من الباقي موهونة جدّاً .
- 1 . الفصول المهمّة 1: 626 .
(الصفحة 90)
وبعد فرض وجود هذا الاختلاف في القاعدة لا معنى لكونها مجمع عليها بحيث كان الإجماع دليلاً مستقلاًّ مع قطع النظر عن الكتاب والسنّة ، فإنّ حجيّة الإجماع إنّما هي من جهة كشفه عن رأي المعصوم (عليه السلام) ومن المعلوم أ نّ مع ذلك الاختلاف لا يكشف عن رأي المعصوم حتّى على نحو الموجبة الجزئيّة ، مع أ نّ تحقّق الموجبة الجزئيّة لا يجدي فيما هو المقصود من الاستدلال بالقاعدة في الموارد المختلفة . هذا ما يردّ عليه أوّلاً .
ويردّ عليه ثانياً: أ نّ الإجماع على فرض تحقّقه في المقام لا يكون تعبّدياً ، بل يكون محتمل المدركيّة ، لاحتمال استناد المجمعين إلى الأدلّة الموجودة في المقام .
دليل العقل
وهنا نصل إلى دليل العقل . نرى كيف يمكن الاستدلال بدليل العقل في خصوص قاعدة نفي الحرج؟ لو قلنا: إنّ قاعدة نفي الحرج تشمل حتّى التكليف بمالا يطاق ، عندئذ يمكننا القول بأ نّ العقل له مدخليّة في قاعدة نفي الحرج على نحو الموجبة الجزئيّة ، وذلك لأ نّ العقل لايجيز التكليف بمالا يطاق حتّى في الموالي العرفيين .
وأمّا إذا قلنا: إنّ القاعدة لاتشمل التكليف بمالا يطاق إستناداً إلى التفسير السابق الذي فسّرنا به الآية الكريمة: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فستواجهنا ثلاث مسائل ، لأ نّ التكليف بمالا يطاق ممتنع عقلاً . أي أ نّ المكلّف لا يستطيع أن يأتي بالتكليف أبداً . كأن يريد المولى من المكلّف أن يجمع بين الضدين ، في حين أ نّ الجمع بين الضدين لايقرّ به العقل . إذن ، هذا التكليف مستحيل عقلاً .
أمّا ما يأتي في المرتبة الأقلّ منها ، ويصطلح عليها الامتناع العرفي من الناحية العقلية لايوجد أيّ دليل وبرهان على امتناعه ولكنّه ممتنع عرفاً . وهذا ما فسّرنا به