(الصفحة 149)
من أين لك أنّ المناط في مشروعيّة الإجارة هو العسر والحرج؟ فهل أنّ مسألة الإجارة المتداولة بين العقلاء تقوم على قاعدة العسر والحرج؟ لا دليل على ذلك ، بل الإجارة كانت من المعاملات المتحقّقة عند العقلاء وإنّما أمضاها الشارع . وإذا كانت الإجارة مبتنية على هذه القاعدة ، فلماذا تركت البيع ولم تذكره؟ فالبيع أيضاً يكون مبتنياً على قاعدة العسر والحرج ، إذ لو لم يحلّل الله البيع يقع الإنسان في العسر والحرج كثيراً ، ولكن ليس حليّة البيع من أجل نفي الحرج ، وإنّما لأنّ البيع مطروح بين العقلاء ومعمول به .
خلاصة البحث:
فتحصّل ممّا ذكرنا أ نّ الحرج المنفي هو الحرج الشخصي ، وعدم الحرجيّة الشخصيّة في آية الصوم لايضرّ بالمقصود ، لأ نّ مورد التمسّك بالقاعدة ما إذا لم يكن هناك دليل على نفي الحكم مستقلاًّ ، إلاّ كان قاعدة لا حرج حكمةً كما في مورد آية الصوم .
قاعدة لا حرج والأحكام غير الإلزاميّة:
هناك بحث في قاعدة (لا حرج) ، وهو انّه هل أنّ هذه القاعدة تنفي جميع الأحكام التكليفيّة حتّى الاستحباب والكراهة في صورة الحرج ، أو لا؟ وهل انّها تجري في الأحكام الوضعيّة ، أو لا؟
ولم نشاهد في الكلمات من تعرّض إلى البحث الثاني ، إلاّ إنّه يمكن البحث فيه وتترتّب عليه ثمرات عملية . وهنا في هذا البحث ينبغي الخوض في عدّة جهات:
أحدها: أنّه هل في باب التكاليف غير الإلزاميّة ، تجري قاعدة (لا حرج) ، أو
(الصفحة 150)
لا؟ وقد عنون صاحب الفصول (رحمه الله) هذه المسألة ، وصرّح بعدم جريان هذه القاعدة في باب المستحبّات والمكروهات ، فلو تعلّق الحكم الإستحبابي بأمر حرجي فإنّ قاعدة (لا حرج) لا تنفي الإستحباب ، ولو تعلّق الحكم الكراهتي بأمر حرجي فإنّ هذه القاعدة لا تنفي الكراهة .
إلاّ أن مع ملاحظة ما قلناه ، فإنّ الأمر بحاجة إلى توضيح ، فنقول: إنّ المسألة يمكن توضيحها بأحد طريقين:
الأوّل أنّنا نشاهد في قاعدة (لا حرج) أنّه اُستخدمت كلمة (على) ونحن إذا لاحظنا الموارد التي استخدمت فيها كلمة (على) نجدها تستخدم في التكاليف الإلزاميّة ، وفي بعض التكاليف نستفيد الإلزام من نفس كلمة (على) ، ففي آية الصوم حيث قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فإنّه لا يتناسب إلاّ مع الإلزام .
ونشاهد أيضاً في آية القتال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} أو في أدلّة الأحكام التحريميّة مثل : (حرّمت عليكم الميتةَ والدم . . .) فاستعمال كلمة (على) بعد كلمة (جعل) لايمكن تطبيقه إلاّ على التكاليف الإلزاميّة .
وأمّا الطريق الثاني: وهو المبتني على كلامنا السابق ، فقد جعلنا الحرج صفة للتكليف في قبال من ظنّ الحرج عنواناً للفعل والعمل حيث كان يفسّر قوله (ما جعل) بـ(ما أوجب) ، وقد أجبناه أنّ (من حرج) مفعول مطلق نوعي ، أي: ما جعل عليكم في التكاليف من تكليف حرجي ، فعنوان الحرج وصف للتكليف نفسه ، ووصف لنفس الحكم ، وهذا المعنى الذي استفدناه يعطي ثماره فيما نحن فيه ، لأنّه لو كان الحرج وصفاً للتكليف ، فنحن نعلم بأنّ التكليف الإستحبابي مهما كان المكلّف به حرجيّاً فإنّ نفس التكليف الإستحبابي لايمكن أن يكون حرجياً ، فالتكليف الذي يتضمّن إمكان المخالفة والترك من دون إستحقاق للعقاب على تركه ، هل يمكن أن نقول بأ نّه حرجي ؟ .
(الصفحة 151)
فإذن مع قطع النظر عن استعمال كلمة (على) ، فإنّ نفس كلمة (من حرج) التي تُعيّن من تكليف حرجي تفرّق بين مسألة المستحبّات والمكروهات ، ولذلك لو كانت المستحبّات واجبات لا تّصفت بالحرجيّة ، ولكن بما أنّها من المستحبّات فلا يصدق عليها عنوان الحرجيّة ، فمثلاً يُستحبّ للإنسان أن يصوم جميع أيّام السنّة عدا العيدين ، فلو تحوّل هذا المستحبّ إلى وجوب فسوف يكون تكليفاً حرجيّاً ، لكن بما أنّه على هيئة الاستحباب لا يتحقّق فيه عنوان الحرجيّة ، ويبقى الاستحباب على حاله ، أي لا نستطيع أن نقول: بما أنّ الصوم في جميع أيّام السنّة فيه حرج فليس بمستحبّ ، بل مع كونه حرجيّاً يبقى الإستحباب على حاله .
جريان القاعدة بالنسبة إلى أقسام الواجب
وأمّا الواجبات ففيها بحث أيضاً ، ففي باب الواجبات فإنّ للوجوب أقسام: وجوب نفسي وغيري ، والوجوب الغيري هو الوجوب المقدّمي ، وفيه نكتة يجب الإلتفات إليها ، فإنّه يوجد بحث مفصّل في مقدّمة الواجب وهو أنّه هل تتّصف المقدّمات بالوجوب الشرعي الغيري ، أو لا؟ وهل توجد ملازمة بين الوجوب الشرعي لذي المقدّمة والوجوب الشرعي للمقدّمة ، أم لا توجد مثل هذه الملازمة؟
إذا قلنا بهذه الملازمة وقلنا بالوجوب الشرعي الغيري للمقدّمة ، فهنا بإمكان دليل نفي الحرج أن يرفع دليل الوجوب الغيري ، فكما أنّنا قلنا في آية الوضوء إذا كان لقوله: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) معنيين ، فلو فسّرناها بهذا الشكل ، قلنا إنّ هذا تعليل لعدم وجوب الوضوء في حالة المرض أو فقدان الماء بتلك الكيفية ، فانّ: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) يريد رفع وجوب الوضوء ، في حين أنّ وجوب الوضوء وجوب غيري ومقدّمي ، فيصحّ هذا الكلام
(الصفحة 152)
إذا قلنا بالوجوب الغيري للمقدّمة .
وأمّا إذا لم نقل بالوجوب الشرعي في باب المقدّمة ، ولم نقل بالوجوب الغيري ، وقلنا بأنّ المقدّمة ماهي إلاّ اللابديّة العقلية الموجودة فيها؟ فهل تأتي هذه القاعدة لترفع اللزوم العقلي؟
إنّ قاعدة لاحرج لا يمكنها رفع حكم العقل ، إذ هي ناظرة إلى الأحكام الشرعيّة والمجعولات الشرعية ، فما هو الأثر الذي تقوم به هذه القاعدة ، هل تريد رفع الوجوب الغيري؟ ونحن لا نقول بالوجوب الغيري للمقدّمة . وهل ترفع الوجوب واللزوم العقلي؟ وهي لاتجري في باب الأحكام العقلية ، فعلى هذا المبنى ماهو الأثر الذي يمكن أن يكون لقاعدة (لا حرج) بشأن المقدّمات الحرجيّة؟
إنّ الأثر الذي يمكنها أن تقوم به هو أنّنا هنا نطبّق قاعدة (لا حرج) في مقدميّة المقدّمة ، أي أنّ هذه المقدميّة التي هي عبارة عن الشرطية من الأحكام الشرعية الوضعيّة وإن كانت ذات المقدّمة بنفسها أمرٌ تكويني كطهارة الثوب والجسد ، إلاّ أنّ شرطيّة هذه المقدّمة بالنسبة إلى الصلاة مسألة شرعيّة وحكم شرعي وضعي ، فلو صارت مسألة الطهارة هذه حرجيّة ، فهنا نقول: إنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) لا تأتي لترفع الوجوب الغيري لهذه المقدّمة ، إذ ليس فيها وجوب غيري بناءً على مبنى عدم وجوب المقدّمة ، فإذن ماذا ترفع؟ ترفع المقدميّة ، لأنّها مقدميّة شرعيّة ، وشرطيّة شرعيّة ، وإذا صار العمل بالشرط في مورد حرجيّ فطبعاً على القاعدة المذكورة أن ترفع المسألة من أصلها ، فإذن لا ينبغي أن يتصور بأنّنا إذا أنكرنا في بحث مقدّمة الواجب الوجوب الشرعي للمقدّمة ، فلابدّ أن نترك قاعدة (لا حرج) بالكامل ولا نطبّقها في باب المقدّمة ، كلاّ ، فحتّى على هذا المبنى تأتي أيضاً هذه القاعدة .
(الصفحة 153)قاعدة لا حرج والوجوب التخييري:
وترد أيضاً قاعدة (لا حرج) في سائر أقسام الوجوب ، إلاّ أنّها وقعت موضعاً للإشكال في مورد واحد فقط ، وهو عبارة عن الواجبات التخييريّة ، مثل عتق الرقبة أو صيام ستّين يوماً ، أو إطعام ستّين مسكيناً ، فهل وجود الحرج في واحد من هذه الخصال الثلاثة للكفّارة يقتضي خروج المورد الحرجي عن دائرة التخيير فينبغي أن يقال: إنّ الكفّارة أحد أمرين ، أو انّه لقائل أن يقول: إنّ هذه الواجبات التخييرية تشبه المستحبّات في جهة من جهاتها ، وهي جهة انّه لو صار بعض خصالها حرجيّاً فإنّ التكليف لا يتّصف بالحرجيّة ، نعم إذا كانت الخصال حرجيّة بأجمعها ـ وفي هذه الجهة يكمن الإختلاف مع المستحبّات ـ فالقاعدة ترفعها ، لأنّه تكليف حرجي ، وأمّا إذا كان إثنان من المجموع غير حرجيين ، بل لو كان فردان حرجيين وواحد غير حرجي ، فهل بإمكاننا هنا أن نجعل عنوان الحرجيّة وصفاً للتكليف ونقول: إنّ الله كلّفنا بتكليف حرجي؟
إنّنا لا يمكننا أن نجعل عنوان الحرجيّة وصفاً للتكليف لمجرّد أنّ أحد أطراف الواجب التخييري صار حرجيّاً ، ولا يمكننا أن نقول: إنّ الله جعل لنا تكليفاً حرجيّاً ، كلاّ ، إنّ التكليف بما أنّه على نحو الواجب التخييري إذا صار أحد أطرافه حرجيّاً فإنّ الحرجية لايمكن أن تكون وصفاً للتكليف ، نعم إذا صارت الخصال الثلاثة حرجيّة بأجمعها يصدق انّه تكليف حرجي . إذن الواجبات التخييريّة تلحظ من هذه الجهة .
هل تدخل المحرّمات في التكاليف الحرجيّة؟
وهنا جهتان اُخريان ، إحداهما المحرّمات ، إذ يوجد إشكال فيها ، خاصّة على المبنى الذي أخترناه تبعاً لأكثر العلماء الكبار ، وهو أنّ الحرج في الآية ليس نوعياً ،
|