(الصفحة 135)
تقتضيه الأديان السابقة من أغلال ، ويبدو من قوله تعالى:
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}(1) أ نّ الإصر الذي يطلب عدم حمله على هذه الاُمّة هو الإصر الذي كان على الاُمم السابقة خاصّة ، وليس مطلق الإصر ، ولذا لو اُريد تحميل إصر آخر ، فهذا لاينافي الآية الكريمة ، هذا ما أفاده البعض في حلّ المشكلة .
الاستفادة من ظهور الآية:
وهذا ـ أي الردّ الثاني ـ في الحقيقة خلاف ظاهر الآية الكريمة:
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، فالنكرة أي «إصراً» جاءت في سياق النفي ، أمّا في قوله: «كما حملته» فيتّخذ صيغة إثباتية ، والنفي الموجود في الآية هو نفي عامّ .
بعبارة اُخرى: لو حذفنا عبارة «كما حملته» من الآية فتكون الآية: (ربّنا لا تحمل علينا إصر الذي حملته على الذين من قبلنا) ، فهل هذا يعني أنّ الآية تأخذ عنوان الوصف وتتضمّن قيداً إحترازياً ، وهل هذا هو المعنى الذي تفيده الآية ، أم أنّ النكرة إذا وردت في سياق النهي ، أو النفي فإنّها تفيد العموم؟ وقوله «لا تحمل علينا إصراً» أي لا تحمل علينا أيّ لون من ألوان الإصر أو أنواعه ، ولمّا كان التشبيه في الجانب الإثباتي من الآية وهو:
{كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فهذا يعني أنّ الإصر كان موجوداً لدى الاُمم السّابقة ، إلاّ أنّه لايمكن أن نستفيد من ذلك جهة العموم بأن نقول: إنّ كافّة المصاديق فيها جنبة إثباتية ، ولكن في قوله:
{لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يمكن أن نستفيد منه جانب التعميم ، ولا نستطيع أن نقول
(الصفحة 136)
بأنّ الآية:
{كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} معناها: (إصر الذي حملته على الذين من قبلنا) .
وأمّا الآية الاُخرى ، وهي قوله تعالى:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فلا يعلم أنّها متعلّقة بالآية:
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} والظاهر أنّها تحكي عن إصر وأغلال كانت على قوم من الأقوام . بالإضافة إلى جهلهم ، بدليل أنّ الآية لم تقل: ويضع عنهم إصراً كان ثابتاً عليهم دينيّاً ، أو يضع عنهم الأغلال التي كان الدين قد حملها عليهم ، فالإصر والأغلال التي ذكرتها هذه الآية يقصد منها الأغلال والأثقال الناتجة عن جهلهم وتعصبهم وحميّتهم ، والتي كانت تثقل على عاتقهم ، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وألغى كلّ هذه المسائل ، ولا يوجد هناك أيّ دليل في أنّ آية: (ويضع عنهم أصراً) هي من سنخ هذه الآية ، أي آية:
{وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، بل من الواضح أنّ الإصر المنظور في آية: (ويضع عنهم إصرهم) ليس الإصر الثابت عليهم من جهة الدين ، والأغلال أيضاً لم يقصد بها تلك التي كانت ثابتة عليهم من قبل الدين ، ومن هنا يجب علينا أن لا نخلط بين الآيتين ، والآن ما هو ردّنا على الإشكال المطروح؟
هناك عدّة ردود اُخرى ذكرت في هذا المجال ، منها: ردّ المرحوم بحر العلوم (قدس سره)والذي يعود أساساً إلى الردّ الأوّل لصاحب الفصول (قدس سره) الذي استعرضنا وسنتطرّق إليه لاحقاً إن شاء الله .
جواب صاحب الفصول (قدس سره):
أفضل الردود في هذا المجال هو ما أفاده صاحب الفصول عليه الرحمة . حيث ذكر في إجابته ثلاثة موارد وأجاب على كلّ مورد منها بإجابة خاصّة .
أحد هذه الموارد هو مسألة الجهاد .
(الصفحة 137)
والمورد الآخر هو مسألة الإيمان بأصل المذهب بالنسبة لمن يشقّ عليه قبول الإسلام بدرجة يتمنّى معه أن يمطره الله تبارك وتعالى بحجارة من السماء ، أو ينزل عليه العذاب دون أن يستسلم لقول الحقّ . والمورد الثالث هو مسألة حضور القاتل أمام المحكمة ، وتمكين وليّ الدم من نفسه في القصاص ، وكذا الحال بالنّسبة لمن حكم عليه بالرجم حيث يمكّن من نفسه في سبيل أن يجري الحاكم الشرعي الحدّ الإلهي عليه ، وهناك ثلاثة ردود لصاحب الفصول (قدس سره) في مسألة الجهاد(1) .
الردّ الأوّل هو نفس ما ذكره السيّد بحر العلوم (قدس سره) ، حيث يشترك الإثنان صاحب الفصول والسيّد بحر العلوم (قدس سره) بردّ واحد: وهو كالتالي: إنّنا لا نقبل كونه أمراً حرجيّاً ، لأنّ كون الجهاد أمراً حرجيّاً لابدّ وأن يقرّه عامّة النّاس ، والحال أنّه ليس المسلمين فحسب ، بل عموم الناس من أيّ مذهب كانوا وأيّاً كان دينهم ، وأكثر من ذلك حتّى الذين لايدينون بدين كالشيوعيين وأمثالهم نرى أنّ مسألة الحرب مسألة مطروحة ومتعارف فيما بينهم ، وبالطبع فإنّ دواعي الحرب تختلف من شخص لآخر . ومن مجموعة إلى مجموعة ، فالبعض يحارب من أجل الدفاع عن نفسه وأحواله وعرضه ، والآخر يحارب من أجل مذهبه وعقيدته وإن كانت عقيدته فاسدة ، إذن ، الحرب أمر طبيعي جدّاً ، فقد يخاطر الإنسان بحياته من أجل هدف يعتقد به ، وهذه المسألة ليست بالمسألة الحرجيّة ، بل هي طبيعيّة ومتعارف عليها لدى المسلمين وغير المسلمين . من هنا أمكننا القول أنّ مفهوم الجهاد الذي جاء به الإسلام موجود لدى الشعوب والاُمم الاُخرى ، ويفوق الإسلام غيره من المذاهب والاتجاهات بما يولي الجهاد من أهمية خاصّة ، وبما يحتسب له من ثواب وأجر اُخروي . إذن وجود مثل هذه المعطيات من أجر وثواب لدى الإسلام
(الصفحة 138)
خاصّة يجعلنا نتساءل: لماذا نعتبر الجهاد أمراً حرجيّاً؟ بل هو مسألة طبيعية ; إذن مجرد إحتمال خطر الموت ، أو ذهاب الأموال لا يوجب القول بحرجيته . فلو كان حرجيّاً لهرب الجميع ، ولمّا وجد هناك من يتصدّى لمهامّ الحرب والجهاد ، في حين نرى أ نّ الحرب أمرٌ طبيعي رافق البشريّة منذ تأريخها الأوّل واشترك فيها الجميع .
الحرج من خلال الملاكات والمصلحة:
ولكن أفضل ردّ على الإشكال هو الردّ الثاني لصاحب الفصول ، ومفاده هو: إننّا إذا أردنا أن نعيّن كون الفعل حرجيّاً أو لا ، لابدّ من أن نلحظ جانب المصلحة في الفعل ، فليس من الصحيح أن نلحظ صورة الفعل بما فيه من خصوصيّة ، هل هو حرجيّ ، أم لا؟ بل الصحيح أن نرى ماهو الهدف من وراء هذا الفعل؟ وما هي المصلحة المترتّبة عليه؟ فالدقّة في هذه اللحاظات له مدخلية في كون الفعل حرجيّاً أو غير حرجيّ .
ونورد مثالاً على ما قلناه غير المثال الذي أورده صاحب الفصول ، لنفرض أنّ إنساناً بقي مستيقظاً طوال الليل ولم ينم أبداً ، هنا لايمكننا أن نقول : إنّ عمله هذا حرجيّ أو غير حرجيّ ، أي لا نستطيع أن نحكم عليه . بل يجب أن نرى وقبل كلّ شيء ما هي المصلحة من بقائه مستيقظاً . فلو أراد أن يسهر طوال الليل لأمر ثانوي غير مهم ولنفرض أنّه لم ينم ليلته مقابل شيء يسير من المال ، فالسهر ليلة كاملة هذا يعدّ أمراً حرجيّاً ، ولكن نفس هذا السهر ، لو كان لإحياء ليلة القدر وطلب ما في هذه الليلة من أجر وثواب عظيم لا يعتبر أمر حرجيّ فحسب ، بل الإنسان يتمنّى أن تكون كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان ليلة القدر كي يبقى مستيقظاً ليطلب الفيض الإلهي ويستفيد من بركاته . وهذه المسألة عرفيّة . ولنفرض أنّ إنساناً بقي مستيقظاً حتّى الصباح يرعى مريضاً يحتاج إلى رعايته
(الصفحة 139)
وخدمته ، ولنفرض ثانية هذا الشخص يحبّ المريض حبّاً شديداً ، هنا نراه يبقى ساهراً من دون أن يشعر بشيء من التعب أو الإعياء ، فعمله هذا ليس بحرجيّ . وفي المقابل إذا قيل لسجين من السجناء: يجب عليك أن لا تنام الليل حتّى يسفر الصباح . فإنّه يشعر بالحرج في كلّ دقيقة تمرّ ، في حين أ نّ العمل واحد في كلا الحالتين .
من هنا نقول: إنّ إعتبار الحرج وعدم إعتباره بالنسبة لفعل مّا ، إنّما يتمّ بلحاظ المصالح المترتّبة على الفعل . وامّا لماذا أخذت المصلحة بعين الإعتبار في حرجية الفعل؟ هذا السؤال لم يجب عنه صاحب الفصول عليه الرحمة ، لكنّنا نقول: إنّ السبب في إعتبار المصلحة هو أنّنا عندما عرّفنا الحرج قلنا: إنّه أقلّ مرتبة من عدم القدرة لدى العرف ، إذن ما هو الملاك في الحرج؟ الملاك في ذلك هو ما كان في العرف قادراً عليه ، إلاّ أنّه يأبى أن يقوم به ، فلابدّ أن نذهب إلى العرف لنرى متى يتقبّل العرف القيام بعمل معيّن ، ومتى يأبى ذلك! وهنا بالذات ينفسخ المجال للأهداف والمصالح ، فعندما تكون المصلحة شديدة وكبيرة نجد العرف يقدم على العمل بدون سأم وبلا تردّد ، بل برغبة وشوق كبيرين ، أمّا عندما تكون المصلحة جزئية ، وليست بذات أهمية ، فإنّ العرف يأبى من أن لا ينام الليل كلّه مقابل منفعة جزئية قليلة ، وهذا هو ما يقال عنه بأنّه لا يتحمّل . ونحن مضطرّون إلى أن نحكّم العرف ، لأنّ الحرج في الآية الكريمة يراد به نفس هذا المعنى العرفي ، ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الجهاد في نظر العرف ليس فوق طاقة الإنسان المسلم ، فالجهاد من أجل حفظ بيضة الإسلام ، والحفاظ على استقلال الدولة ، سواءً كان جهاداً دفاعياً كما هو المفترض في زماننا ، أو كان الجهاد جهاداً ابتدائياً لأجل نشر الأحكام الإسلامية ليس هو ممّا لا يطاق في نظر العرف .
إذن ، خلاصة الردّ الثاني الذي قال به صاحب الفصول والذي أرى أنّه في