(الصفحة 47)
هنا يأتي التعليل ، وهو: لأ نّ الله يريد أن يطهّرنا ، والتراب أحد الطهورين ومن ثمّ يقول تعالى:
{وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ، وبناءاً على ذلك فإنّ هذه الآية الشّريفة يمكن أن تكون من الأدلّة على قاعدة نفي الحرج .
وهنا لابدّ من الأشارة إلى نقطة هامّة ، وهي أ نّ الله سبحانه وتعالى عندما يقرّر بأ نّ المريض لايجب عليه الوضوء ، لأ نّه لم يرد أن يجعل عليه من حرج ، هنا المريض أحد موارد نفي الحرج ، ولا خصوصيّة بحيث تجعل الحكم يختصّ به ، فمسألة عدم وجوب الوضوء ، وعدم وجوب حكم الغسل ليس فيها أيّة خصوصيّة معيّنة ، وإنّما هي موارد ومصاديق للموضوع الأساسي ، وذلك لأ نّ قوله تعالى:
{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} جاء بمثابة التعليل ، وكما تعلمون فإنّ المورد لا يكون مخصّصاً ، فالتعليل معنى عامّ يصدق في هذه الموارد وفي غيرها . وبذلك تصبح هذه الآية أحد الأدلّة القرآنية على قاعدة الحرج ، خاصّة وأ نّ كلمة الحرج قد وردت في الآية نصّاً .
التعليل ورجوعه إلى الطهارات الثلاث
أمّا على مستوى الاحتمال الآخر ، وهو أ نّ قوله تعالى:
{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} له علاقة بالآية بكاملها ، وليس من باب نفي الحرج في خصوص التيمم الذي أشرنا إليه في الاحتمال السابق ، أي أ نّه مرتبط بالطهارات الثلاثة ، هنا قد يطرح هذا التساؤل ، وهو ما معنى قوله تعالى:
{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج}؟ هذا أوّلاً .
وثانياً: إذا أخذنا بهذا الاحتمال ، فهل يبقى هناك مجال للحديث عن قاعدة (نفي الحرج) والاستدلال عليها بالآية الشّريفة؟
إذن علينا أوّلاً أن نرى ما هو معنى الآية في ضوء هذا الاحتمال؟ لا شك أ نّ
(الصفحة 48)
الآية وبناءً على هذا الاحتمال أيضاً تبقى في مقام التعليل ، فلا فرق بين هذا الاحتمال والاحتمال الأوّل ، ولكن السؤال: ما هو وجه التعليل في هذا الاحتمال؟
التعليل هنا لبيان العلّة في وجوب الوضوء ، أي للجواب على هذا السّؤال وهو: لماذا إذا قمتم إلى الصلاة عليكم أن تغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق؟ ولماذا
{إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}؟ وما هي العلّة في أ نّكم لو كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماءً عليكم أن تيمّموا صعيداً طيّباً؟ ففي جميع هذه الموارد يأتي التعليل في خصوص الجانب الإثباتي للحكم .
ولنا أن نتساءل هنا كيف يمكن للتعليل أن يكون في الجانب الإثباتي للحكم؟
والجواب أ نّ الله تبارك وتعالى يريد أ نّ يبيّن أن ما ألزمكم به عند الصلاة من الوضوء أو الغسل أو التيمّم ، فلا اُريد بذلك أن أشقّ عليكم أو أثقل كاهلكم ، إنّما أقصد بذلك هدفاً أسمى وأعلى . وهذا الهدف الذي أبتغيه يخصّكم أنتم ، ويعود عليكم بالمنفعة ، وهو تطهيركم ، أي اُريد بذلك أن تحصلوا على طهارة النفس وطهارة البدن أيضاً . بناءً على ذلك ولتحقيق هذا الهدف السامي هل يعتبر الوضوء أمراً حرجيّاً؟ وهل يعدّ الغسل عملاً صعباً؟ وهل التيمّم شاقاً؟
ومثال ذلك ، أن يقول الأب لابنه : يابنيّ إنّما أوجب عليك الذهاب إلى المدرسة صبيحة كلّ يوم ، لا لكي أشقّ عليك ، أو أزيد في عنائك ، بل أريد بذلك أن تتعلّم وتحصل على مكانة علمية سامية في المجتمع .
إذن، إذا قلنا بأنّ الآية:
{ومَايُرِيدُاللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} تتعلّق بالأحكام الثلاثة ، وبالجانب الإثباتي لهذه الأحكام ، أي أ نّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول: إنّي ما أوجبت الوضوء ولا التيمّم ولا الغسل لكي أشقّ عليكم ، أو أجعلكم في حرج ، وإنّما أردت أن أطهّركم ، وهذا المعنى يتطابق مع تعبيراتنا العرفيّة الشائعة ، ولكنّه خارج عن إطار بحثنا ، ولا علاقة له بقاعدة نفي الحرج ، والسبب في ذلك هو
(الصفحة 49)
أ نّ قاعدة نفي الحرج إنّما تستخدم عندما تكون لدينا إطلاقات وعمومات في الجانب الإثباتي للحكم ، ونريد أن ننفي بعض هذه الأحكام بواسطة هذه القاعدة .
فمثلاً ، إذا كان الصوم يشكل حرجاً بالنسبة لأحد المكلّفين ، هنا يسقط وجوب الصيام الذي يفهم من قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وتأتي قاعدة نفي الحرج هنا لتنفي بعض الأحكام التي تفهم بمقتضى الإطلاقات الموجودة في الآية ، ولو لم تكن هذه القاعدة ، لاقتضت الإطلاقات وجوب الصوم على الإنسان ولو كان في مرض الموت ، كالصلاة التي تجب حتّى على الغريق الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وعليه أن يؤدّيها في لحظة أو لحظات ، إذن قاعدة نفي الحرج في الحقيقة هي قاعدة نفي الحكم ، حيث تواجه الدليل الذي يريد أن يثبت الحكم من خلال الإطلاق في كلّ الموارد حتّى في موارد الحرج ، فتنتفي ذلك الحكم . لذا يعبّر عنها بالنفي [ ما جعل عليكم من حرج] فهناك إشارة إلى أ نّ الأحكام المستلزمة للحرج غير مرادة للشارع . وجعل الجاعل وإرادته الجديّة لم تبتن على أساسها ، حتّى ولو كان مقتضى الإطلاق يفيد الثبوت في موارد الحرج .
ومن هنا نتوصّل إلى هذه النتيجة ، وهي أ نّ مجرّد وجود كلمة (الحرج) في هذه الآية:
{ومَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} لايعني أ نّها من أدلّة نفي الحرج ، بل يجب علينا أن نبحث هل أ نّ التعليل ناظر إلى التيمّم ، أو لا؟
وكما أشرنا سابقاً هناك جانبان في التيمّم: جانب نفي ، وهو عدم وجوب الوضوء والغسل ، وجانب إثباتي وهو التيمّم ، فإذا كان هذا التعليل فيما يخصّ التيمّم في جانب النفي ، حينئذ يمكن أن نعدّه من الأدلّة على بحثنا هذا . وإذا كان يتعلّق بكلّ الأحكام الموجودة في الآية وفي جانبها الإثباتي ، أي ذكر السبب والعلّة في وجوب الوضوء ووجوب الغسل والتيمّم ، حينذاك تكون الآية خارجة عن إطار بحث قاعدة نفي الحرج .
(الصفحة 50)مساعدة الظهور للاحتمال الأوّل
وهنا قد يقال: هل إنّ ظاهر الآية يفيد الاحتمال الأوّل ، وبذلك تكون الآية من أدلّة نفي الحرج ، أو أ نّ ظاهرها يدلّ على الاحتمال الثاني فتخرج الآية عن إطار بحثنا هذا؟
لقائل أن يقول: إنّ الآية فيها إجمال من جهة متعلّق التعليل ، فلا يمكن إستظهار عود التعليل إلى التيمّم فقط ليصحّ الاستدلال بالآية الشّريفة .
والتحقيق أ نّه بالإمكان العثور على ما يرجّح الاحتمال الأوّل . لأ نّ الله سبحانه وتعالى ذكر في باب الغسل:
{إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، فعبّر عن الغسل بالتطهير . وعلاقة الوضوء والغسل بالتطهير علاقة واضحة ، خاصّةً وأ نّ التطهير يتضمّن طهارة الجسم أيضاً ، إذن الماء مطهّر ، وهذا معلوم ومفروغ عنه ، أمّا بالنسبة للصعيد ـ سواء كان المراد منه التراب الخالص ، أو مطلق وجه الأرض ـ [هذا ينبغي أن نبحثه في التيمم] ، فهو مالا يستأنس به ، إذ لا علاقة للتمسّح بالتراب بالطهارة ، بل يمكن اعتبارها ضدّ الطّهارة ، وأ نّها عمليّة مشفوعة بالقذارة .
هنا احتمل [ولا أقول أقطع] أ نّ قوله:
{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يتعلّق بنفس التيمّم خاصّة ، أي أ نّ الله سبحانه وتعالى في صدد الإجابة على الإستفهام الذي قد يتبادر إلى الذهن عن طبيعة الأمر بالتيمّم وعلاقة التراب بالطهارة ، فيقول : يطهّركم به .
وبناءً على ذلك يستبعد أن يكون قوله تعالى:
{يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} عائداً على قوله فيما سبق
{فَاطَّهَّرُوا} في باب الغسل وفي باب الوضوء ، وهذا يؤيّد أن يكون قوله:
{يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} إنّما هو في خصوص التيمّم . فالله عزّوجلّ يريد أن ينبّه الإنسان إلى أ نّ مسألة التيمّم لا تتلخّص بالصورة الظاهريّة للتيمّم ، بل يريد ليطهّركم بذلك .
(الصفحة 51)
وفي تتمّة الآية يقول تعالى:
{وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ} فهنا إشارة إلى مسألة التيمّم ، فالإتمام لايمكن أن يتصوّر إلاّ إذا كان أصل النعمة موجوداً . فما هو أصل النعمة؟
أصل النعمة الطهارة ، سواء بالوضوء أو الغسل ، فإذا لم تتحقّق الطهارة بالوضوء ولا بالغسل بالمعنى الذي تصوّره الآية الكريمة ، وبالتالي إذا لم تتحقّق أصل النعمة فإنّ التيمم كفيل بإتمام النعمة .
محصلّة القول إنّ هذه المؤيّدات التي ذكرناها بالإضافة إلى القرائن الاُخرى من قبيل أ نّ مسألة التيمّم جاءت في آخر الآية وتبعها قوله تعالى:
{ومَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} تشكّل ظهوراً في الآية الشريفة على أ نّ قوله:
{ومَا يُرِيدُ اللهُ} تتعلّق بالتيمّم ، وحينئذ تكون الآية صالحة للاستدلال بها على قاعدة نفي الحرج .
ولكن قد يدّعي البعض أ نّ الآية في ظهورها تشمل الطهارات الثلاث ، أو أ نّها مجملة من هذه الناحية . وفي هذه الحالة تخرج الآية من كونها دليلاً على قاعدة الحرج .
الآية الثالثة:
من الآيات التي استدلّ بها على هذه القاعدة هي الآية الشريفة في سورة البقرة الواردة في سياق الحديث عن مسألة الصوم ، حيث يقول سبحانه وتعالى:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) .
فقوله:
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ، وردت في مقام