(الصفحة 164)
أفتى المرحوم السيّد (قدس سره) ، بل المشهور في الوضوء والغسل الضرريّين بالبطلان ، وعندها يستفيد المرحوم المحقّق النائيني (قدس سره) من هذه المقايسة ويقول: نحن لم نفهم ما هو الفرق بين قاعدة (لا ضرر) وقاعدة (لا حرج) ، فإذا كان الوضوء والغسل الضرريان موجبين للبطلان كما أفتى به المشهور ظاهراً ، فإنّ الوضوء والغسل الحرجيّين فيهما نفس الملاك والمناط ، فلابدّ أن يحكم عليهما بالبطلان أيضاً .
الجواب على دليل المحقّق النائيني:
هذا هو الطريق الذي سلكه المحقّق النائيني ، ولكن أشكل عليه ، وفي الحقيقة اُجيب من نفس هذه المقايسة ، وهو: إنّنا لماذا نحكم ببطلان الوضوء والغسل الضرريين؟ لأنّ الإضرار بالنفس أحد المحرّمات ، وطبعاً فإنّ للإضرار بالنفس مراتب ، فلو لم تكن بأجمعها حرام ، فإنّ تلك المرتبة التي ترفع وجوب الوضوء هي رفع في مورد الإضرار المحرّم ، أمّا إذا كان في الوضوء ضرر جزئي ، وقد أفترضنا أ نّ هذا المقدار من الضرر لا حرمة فيه ، فهنا لم يرفع وجوب الوضوء ، فإنّ وجوب الوضوء فيما يتعلّق بالإضرار يدور مدار الإضرار المحرّم ، فكلّما اتّصف الإضرار بالحرمة يرتفع وجوب الوضوء ، فإذا كان الإضرار محرّماً فإنّ الحرمة لا تتناسب مع العباديّة ، والمحرّم الذي هو مبغوض للمولى وما يبعّد عن المولى لا يمكنه أن يكون مقرّباً إلى المولى بوصفه عبادةً ، ويكون فيها ملاك العبادة ، لذا فنحن في الوضوء الضرري نحكم بالبطلان لحرمة الإضرار .
وأ مّا في باب الوضوء الحرجي ، فهل هو حرام؟ وهل لدينا دليل على حرمة تحمّل الحرج؟ إذا كان كذلك فقد قلنا في باب المستحبّات: إنّ لدينا الكثير من المستحبّات الحرجيّة ، فصيام السنة بأجمعها ماعدا العيدين مستحبّ ، ولو كان واجباً لكان حرجيّاً ، إلاّ إنّه مادام بنحو الإستحباب ، فلا منافاة بين الحرجيّة
(الصفحة 165)
والإستحباب ، فإذا كان تحمّل الحرج حراماً ، فكيف يمكن أ نّ يتّصف بالإستحباب؟ وكيف يعقل أن يكون الأمر المحرّم مستحبّاً وراجحاً شرعاً؟ فمن هنا نفهم أن تحمّل الحرج لا يتّصف بالحرمة أبداً ، ولا يوجد فيه أيّ عنوان للمبغوضيّة والمبعديّة .
ومن هنا يفترق الوضوء الحرجي عن الوضوء الضرري ، إذ في الوضوء ترد مسألة حرمة الإضرار وعدم إجتماع الحرمة مع العباديّة ، وأمّا في الوضوء الحرجي فلا يرد هذا المعنى أبداً ، فلذا فقياس الوضوء والغسل الحرجيّين على الوضوء والغسل الضرريّين باطل .
جواب آخر على دليل المحقّق النائيني:
ونحن ضمن قبولنا لهذا الجواب ندّعي علاوةً على ذلك أنّنا لا نرتضي أساساً كون الوضوء والغسل الضرريّان باطلين ، حتّى وإن كان الإضرار فيهما من نوع الإضرار المحرّم ، فمع ذلك نقول بصحّة هذا الوضوء ، لماذا؟ لما اعتقدناه في مسألة إجتماع الأمر والنهي ، وهو أنّ متعلّق الحرمة غير متعلّق الأمر العبادي ، ومغاير لذلك الشيء الذي تعلّقت به المقربيّة ، أي يوجد هنا عنوانان:
أحدهما: عنوان الإضرار بالنفس ، ولا ربط للإضرار بالنفس مع الوضوء ، فإنّك لو أجريت الماء على يدك لا بنيّة الوضوء ، أو صببت الماء على جسمك لا بنيّة الغسل أيضاً يتحقّق الإضرار ، فإنّ الإضرار لا دخل له بالوضوء ، وإنّما هو نتيجة ملامسة الماء البارد للجسم ، بأيّ كيفية كانت هذه الملامسة ، لذا يوجد لدينا هنا عنوان باعتبار الإضرار بالنفس ، وعنوان آخر وهو عبارة عن الوضوء ، والوضوء
(الصفحة 166)
مقرّب إلى الله ، وعبادة ، وفيه رجحان ذاتي ، والآن قد اجتمع هذا العنوانان في الوضوء الضرري ، فيطرح هنا بحثان وعنوانان ، مبعديّة بشأن أحد العنوانين ، ومقربيّة بشأن عنوان آخر ، مبعديّة بشأن الإضرار بالنفس ، ومقربيّة بشأن الوضوء ، فيعاقب هذا الشخص بسبب الإضرار بالنفس ، كما أ نّه يعطى ثواباً لأنّه توضّأ ، ومجرّد إجتماعهما في عمل واحد لايمنع أن يتعلّق بكلّ جهة عنوانها الخاصّ بها ويؤثّر في جهته ، ولا نستطيع ذكر تفصيل هذه المسألة هنا ، وإنّما محلّها في مسألة إجتماع الأمر والنهي ، لكن إذا لم يكن لدينا دليل خاصّ على بطلان الوضوء والغسل الضرريّين ، فنحكم عليه أيضاً بالصحّة .
وعلى هذا فإنّ الطريق الذي سلكه المحقّق النائيني (قدس سره) ، لا يمكنه إثبات بطلان العبادة الحرجيّة ، وقد ذكرت طرق اُخرى ، علينا أن نلاحظها حتّى نرى ما هي النتيجة التي سنصل إليها في المجموع .
الدّليل الثاني على البطلان:
إنّه لابدّ في وقوع العبادة صحيحة أن يرد فيها أمر فعلي ، سواءً كان وجوبيّاً ، أو إستحبابيّاً ، أو إذا لم يرد فيها أمر فعلي ، فلابدّ أن يكون فيها ملاك أو مناط ، حتّى وإن زالت فعليّة الأمر لسبب من الأسباب ، كالكلام الذي طرحه المرحوم الآخوند في الكفاية في مسألة الإزالة والصلاة ، عندما يكون عندنا واجب أهمّ وواجب مهم ، وفرضنا أنّ الواجب الأهمّ هو الإزالة ، والواجب المهمّ هو الصلاة ، الآن لو أنّ هذا المكلّف مع أنّه ينبغي عليه في الأمرين المتزاحمين ترجيح الأهمّ وامتثاله ، إلاّ أ نّه عصى ولم يراع الأمر بالأهم واشتغل بالمهم ، فانشغل بالصلاة بدلاً من الإزالة ، فهذه الصلاة كانت واجباً مهمّاً ، ومع الإبتلاء بالأهمّ ارتفع عنها الوجوب .
إلاّ إذا قلنا بالترتّب ، وأساساً إنّ الذين طرحوا مسألة الترتّب كان رأيهم على
(الصفحة 167)
أنّ العبادة تحتاج إلى أمر فعلي حقيقي ، ولا يكفي الملاك والمناط في صحّة العبادة ، ولذا اضطرّوا من أجل تصحيح الأمر الفعلي وتثبيته إلى طرح مسألة الترتّب ، وقالوا: ما هو المانع من أن نتصوّر هنا أمرين: أمرٌ متعلّق بالأهمّ بنحو الواجب المطلق وغير المشروط ، وأمر متعلّق بالمهمّ معلّقاً على عصيان الأمر بالأهمّ ، ويأخذ بالعصيان بنحو الشرط المتأخر ، أو معلّقاً على نيّة عصيان الأمر الأهمّ بنحو الشرط العقلي والشرط المتقدّم ، إلاّ أ نّ الذين أنكروا الترتّب كالمرحوم الآخوند قال هنا: إنّ المكلّف خالف الأمر الأهم واشتغل بالصلاة ، نقول في نفس الوقت بصحّة صلاته مع انّه لا يوجد أمرٌ بها ، ولكنّ الملاك موجود ومتحقّق ، فلذا نصحّح العبادة ، ولا يلزم هناك أمرٌ فعلي بالعبادة ، فيكفي تحقّق الملاك والمناط أيضاً ، ولكن ينبغي إحراز الملاك ، ولابدّ أن يكون المناط قطعيّاً ، ولا يكفي احتمال الملاك والمناط .
ونحن في مسألة الصلاة والإزالة ـ وفي كلّ متزاحمين بشكل عامّ ـ لدينا يقين بتحقّق الملاك فيهما ، إلاّ أنّ ضيق وقت المكلّف وعدم قدرته قد أوجب ذلك ، فإنّ المكلّف لا يستطيع عملاً الجمع بين الصلاة والإزالة في آن واحد ، ولايمكنه في آن واحد إنقاذ زيد من الغرق وإنقاذ عمرو ، إلاّ انّ مصلحة وجوب الإنقاذ موجودة في كلا الإنقاذين ، فعدم قدرة المكلّف صار سبباً في أن يرفع المولى يده عن أحد أمريه ، وإلاّ لو أ نّ المكلّف كان قادراً على الجمع بين الضدّين وإمتثالهما في آن واحد يكون أمر المولى محفوظاً فيهما معاً ، وامّا رفع المولى يده عن أحد التكليفين على سبيل التخيير فيما إذا كان التزاحم بين متساويين ، فسببه أنّ المكلّف لا يستطيع الجمع بين هذين الأمرين وهذين العملين الواجبين .
الجواب على الدليل الثاني:
ونتساءل فيما نحن فيه: أيّ واحد من هذين الطريقين تتمسكون كملاك لصحّة
(الصفحة 168)
العبادة من العبادة الحرجيّة؟ فهل يوجد هناك أمر؟ فلو كان المفاد الأوّلي لقاعدة الحرج هو نفي الوجوب وعدم الإلزام ، فلا معنى لأن يكون هناك أمر في العبادة الحرجيّة ، لأنّ معناه طرح قاعدة (لا حرج) ، فإذا لم يكن هناك أمر فمن أين تأتون بالملاك .
ففي مسألة المتزاحمين كنّا نعلّم أنّ المسألة لا إرتباط لها بالمولى أبداً ، وإنّما الإشكال يرتبط بالمكلّف وضعف قدرته ، فإنّ المكلّف لا يستطيع الجمع بين الإنقاذين ، ولا يتمكّن في آن واحد أن يجمع بين الصلاة والإزالة ، وهنا بلحاظ عجز المكلّف قام المولى ورفع اليد عن أحد الأمرين ، وهذا لا يقتضي أن لا تكون في الصلاة عند ترك الإزالة أيّ مصلحة وأن تختلف هذه الصلاة عن البقية الصلوات ، حتى تكون الصلوات بأجمعها معراج المؤمن إلاّ هذه الصلاة ، وأ نّ بقيّة الصلوات تنهي عن الفحشاء والمنكر إلاّ هذه الصلاة ، فهنا نحرز مسألة الملاك والمناط بشكل كامل ، ولذا فإنّ المرحوم الآخوند من أجل هذا المناط قام بتصحيح العبادة وحكم بصحّة الصلاة .
ولكن فيما نحن فيه من أين لنا أن نعرف انّه في العبادة الحرجيّة رفع التكليف فقط ، وامّا الملاك فلا يزال محفوظاً ، وأ نّ المناط في الصوم الحرجي وغيره واحد؟ فعلى هذا لابدّ من إحراز هذا المعنى ، ولا يكفي مجرد الإحتمال ، فلو أحرزنا أنّ تلك المصلحة التامّة الموجودة في الصوم غير الحرجي موجودة أيضاً في الصوم الحرجي ، فبإمكاننا أن نحكم بصحّة الصوم الحرجي ، وأمّا إذا لم نحرز ذلك ، ولم نتمكّن من إثباته ، فلا طريق لنا حينئذ إلى تصحيح العبادة الحرجيّة .
وربّما يأتي شخص ويقول: نحن نثبته بأن نقول: إنّ (ما جعل عليكم في الدين من حرج) واردة في مقام الإمتنان ، والإمتنان يقتضي أنّ الله لم يجعل وجوباً للصوم الحرجي ، لكن هل يقتضي الإمتنان أن يقول: إنّ الصوم الحرجي لا قيمة له أصلاً؟
|