(الصفحة 193)
لا التقديري فكذلك هنا لابد من تحقق التبين بالفعل وفي الليالي المقمرة ليس التبين فعلياً بل التبين تقديري ولولائي بمعنى إنه لولا ضوء القمر لتبين الفجر ولكنّ مع وجود ضوء القمر لا وجود للتبين واقعاً فيجوز للمكلّف أن يأكل ويشرب إلى أن يتحقق التبين الفعلي .
وثانيتهما: الفرق بين الليالي المقمرة والمغيمة والحكم بوجوب التأخير في الأوّل دون الثاني لانّ الغيم أمر عرضي ومانع عن الرؤية كما يكون العمى في الأعمى والعمش في الأعمش والذي يضعف بصره مانعاً عن رؤية التبين بخلاف نور القمر في الليالي المقمرة وبعبارة اُخرى إنّما المشكل في الليالي المقمرة في المرئي أي الفجر بمعنى أنه لم يتحقق مع وجود ضوء القمر والمشكل في الليالي المغيمة في الرؤية لا المرئي بمعنى انّ الفجر تحقّق ولكنّ الغيم مانع عن الرؤية .
نقد نظرية الهمداني (رحمه الله)
وفي كلامه نظر لما تقدّم في ضمن الضابطة الكلية من انّ ظاهر العناوين وإن كان في الموضوعية كتغيّر الماء ولكن لهذه القاعدة استثناءً وهو انّ مادة «العلم» و «اليقين» ونحوهما كالتبيّن ظاهرة في الطريقية عرفاً .
فما ذكر في مباحث القطع في علم الاُصول ـ من انّ القطع امّا موضوعي وامّا طريقي والموضوعي إمّا تمام الموضوع وإمّا جزء الموضوع والقطع الموضوعي إمّا أخذ بنحو الطريقية والكاشفية وأمّا أخذ بنحو الوصفية ـ لاينافي ما ذكرنا هنا ، لانّ البحث في ظهور الكلمات عرفاً ومادة العلم واليقين ونحوهما ظاهرة في الطريقية إلاّ أن تقوم قرينة على الموضوعية فيمكن أخذ العلم بنحو الموضوعية في الدليل ولكنّه يحتاج إلى القرينة والأصل عدمها . ولو سلّم عدم الفرق بين العلم وسائر العناوين
(الصفحة 194)
وانّها كلّها ظاهرة في الموضوعية فأجيب بما أجاب به بعض الفحول من انّ فرق الهمداني (رحمه الله) بين الليالي المقمرة والمغيمة بلا وجه لانّ الغيم في المغيمة مانع عن رؤية الفجر وكذلك في المقمرة أيضاً نور القمر مانع عن رؤية الفجر لا انّ الفجر لم يتحقق .
ومثال ما نحن فيه مثال وجود السراج الضعيف والسراج الشديد فإنّ الضوء الضعيف موجود ولكنّه مقهور ، لا أنه ليس بموجود أصلاً وكذلك ضوء القمر موجود ولكنّه مقهور لنور القمر .
فمسألة الليالي المقمرة مثل الليالي المغيمة بحيث إذا علمنا من الخارج طلوع الفجر ـ كما إذا علمناه باِخبار المنجمين ـ لايجوز الأكل والشرب في رمضان سواء كان الغيم موجوداً أم كان ضوء القمر غالباً على ضوء الفجر .
أمّا «من» التبعيضية فهو خلاف الظاهر لانّ معيار «من» التبعيضية جواز وضع كلمة «بعض» بدلها مثل قوله تعالى:
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)فبوضع كلمة «بعض» بدله لا يتغير المعنى بخلاف الآية فانّ وضع «بعض» لا يصحّ في الآية لوجهين:
الأوّل: انّ الفجر غير قابل للتبعيض حيث انّ الفجر هو الانشقاق والانفجار وبمجرّد ظهور الخيط الأبيض يتحقق الانشقاق ولا انشقاق بعده حتّى يكون الانشقاق الأوّل بعضه .
والثاني: انّه تنخرم سَلاسة الآية حيث يصير المعنى «حتّى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود بعض الفجر» .
والمتحصّل ان «من» للتبيين وبيان للخيط الأبيض والتبين عنوان طريقي لا موضوعي خلافاً للهمداني (رحمه الله) ولا تكون «من» بياناً للتبيّن كما ذهب إليه الإمام الخميني ولا يتمّ «من» النشوية ولا «من» التبعيضية .
هذا تمام الكلام في الآية والآن نبحث عن الروايات .
(الصفحة 195)روايات الباب
هنا روايات بعضها في مقام تفسير الآية أو الاستشهاد بها وبعضها في صلاة الصبح وأوّل وقتها من دون إشارة إلى الآية .
وامّا الرواية التي في تفسير الآية أو الاستشهاد بها ـ وهي التي عدّها الإمام الخميني أظهر الأخبار وادّلها على مختاره ـ صحيحة علي بن مهزيار: «قال: كتب أبو الحسن بن الحصين إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) معي: جعلت فداك قد اختلف موالوك (مواليك) في صلاة الفجر ، فمنهم من يصلّي إذا طلع الفجر الأوّل المستطيل في السماء ، ومنهم من يصلّي إذا اعترض في أسفل الاُفق واستبان ، ولست أعرف أفضل الوقتين فأصلّي فيه ، فإن رأيت أن تعلّمني أفضل الوقتين وتحدّه لي ، وكيف أصنع مع القمر والفجر لا يتبين (تبين) معه ، حتّى يحمّر ويصبح ، وكيف أصنع مع الغيم وما حدّ ذلك في السفر والحضر فعلت إن شاء الله ، فكتب (عليه السلام) بخطّه وقرأته: الفجر يرحمك الله هو الخيط الأبيض المعترض ، وليس هو الأبيض صعداً فلا تصلّ في سفر ولا حضر حتّى تبينه ، فإنّ الله تبارك وتعالى لم يجعل خلقه في شبهة من هذا ، فقال: كلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فالخيط الأبيض هو المعترض الذي يحرم به الأكل والشرب في الصوم وكذلك هو الذي يوجب به الصلاة»(1) .
سند الرواية
هذه الرواية مروية بطريقين طريق الكليني وطريق الشيخ وامّا طريق الكليني فهكذا: محمد بن يعقوب عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن علي بن مهزيار والكلام في هذا الطريق في «سهل بن زياد» فبعض وثّقه وقال انّ الأمر في السهل
- 1 . رسائل الشيعة ، ج 2 ، أبواب المواقيت ، باب 27 ، ح 4 .
(الصفحة 196)
سهل وبعض ضعّفه أو قال بعدم توثيقه .
وامّا طريق الشيخ فهكذا: محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن الحصين (بن أبي الحصين)(1) .
وهذا السند وإن لم يكن فيه «سهل بن زياد» إلاّ أنّ فيه «الحصين» وهو غير موثق بخلاف أبو الحسن بن الحصين الذي في طريق الكليني فإنه موثّق وبملاحظة وحدة المكاتبة ، تعدّد الكاتب بعيد والذي ينبغي أن يقال انّ في طريق الشيخ تصحيفاً وانّ الصحيح أبو الحسن بن الحصين .
دلالة الرواية
وفي الرواية ثلاثة سؤالات:
السؤال الأوّل: عن أوّل وقت صلاة الصبح وفي أوّل الوقت خصوصيتان:
أحديهما: انّ الصلاة قبله باطلة .
وثانيتهما: انّ الصلاة فيه أفضل وهذا السؤال الأول عن الشبهة الحكمية وانّ أول صلاة الصبح الفجر الكاذب أو الفجر الصادق .
والفرق بينهما ثلاثة الأوّل انّ الكاذب حالته عمودية ولذا عبّر عنه بالمستطيل والصادق افقية مع استدارة ولذا عبّر عنه في بعض الروايات بذنب السرحان .
والثاني: انّ الكاذب لمعانه وضيائه في الأوّل شديد ويضعف شيئاً فشيئاً ، والصادق بالعكس لانّ الشمس تقرب من كرة الأرض فيزداد ضياء الفجر الصادق شيئاً فشيئاً .
والثالث: انّ بياض الفجر الكاذب لايتصل بالاُفق بخلاف بياض الفجر
- 1 . التهذيب ، ج 2 ، ص 36 ، ح 115 ، طبع دار الكتب الإسلامية .
(الصفحة 197)
الصادق فإنّه يتصل بالاُفق ولذا عبّر في الرواية بأنه «اعترض في أسفل الاُفق» .
ثمّ كتب الراوي «لستُ أعرف أفضل الوقتين فأصلّي فيه» وليس مراده أفضل الوقتين بل بقرينة ما بعده مراده انّه لم أعرف أصلَ وقت صلاة الصبح حتّى أصلي فيه .
الثاني: السؤال عن الصلاة في الليالي المقمرة والمغيمة(1) وظاهر هذا السؤال بقرينة «حتّى يحمرّ ويصبح» عن الشبهة الموضوعية ، يعني انّ الفجر حصل ولكن لا يتبيّن حتّى يحمر ويصبح والقرينة الاُخرى عطف بحث الغيم إلى بحث القمر وقال «كيف أصنع مع الغيم» . ويمكن إرجاعه إلى الشبهة الحكميّة بمعنى انّ السائل يسأل عن أوّل الوقت في الليالي المقمرة والمغيمة بأنه هل هو نفس الفجر الواقعي وإن لم يتبيّن لنا أو الفجر مع التبين بالنسبة إلينا .
الثالث: السؤال عن الفجر في السفر والحضر(2) وانّ الحكم فيهما واحد أو لا وهذا السؤال عن الشبهة الحكمية قطعاً . وقوله «فعلتُ إن شاء الله» جزاء لقوله «فان رأيت تعلمني» .
ثمّ بعد اتّضاح السند والدلالة فلنا بحث مع الإمام الخميني (قدس سره) وبحث مع المحقق الهمداني (رحمه الله) .
امّا بالنسبة إلى كلام الإمام الخميني فإنّه (قدس سره) التزم بـ «مِن» التبيينية وانّ الفجر بيان لنفس التبين وهذه الرواية ـ التي قال هو بأنّها أظهر روايات الباب ـ تدل
- 1 . «وكيف أصنع مع القمر والفجر لا يتبيّن معه ، حتّى يحمرّ ويصبح وكيف أصنع مع الغيم» وأعلم أنّ في نسخة الشيخ بدل «الغيم» «القمر» والظاهر انّه زيادة لانّه تكرار ركيك مضافاً إلى أنّ صاحب الوسائل يذكر اختلاف النسخ ولكن مع ذلك هنا يقول بعد نقل الكليني: «إن الشيخ ذكر مثله» من دون إشارة إلى اختلاف فعلم أن نسخة التهذيب عند صاحب الوسائل هو «الغيم» أيضاً .
- 2 . «وما حدّ ذلك في السفر والحضر» .