(الصفحة 140)
مسألة الجهاد خاصّة يعدّ أفضل الردود ، أي أنّنا لا نستطيع أن نقول: إنّ هذا العمل حرجي وهذا غير حرجي جزافاً ومن دون أيّ اعتبار ، بل لابدّ من ملاحظة الغايات والمصالح المترتّبة عليه .
الحرج بالقياس إلى الحالة النفسيّة للمكلّف:
والردّ الثالث الذي أجاب به صاحب الفصول هو: أنّه لابدّ أن نعرف أوّلاً: هل أنّ الحرج الملحوظ في الجهاد بما في الجهاد من الأعمال الشاقّة ، أو هو بإعتبار الحالة النفسيّة التي تتولّد عند بعض والتي تسمّى بالخوف ، أي هل أنّ الإشتراك في الحرب واستخدام الأسلحة والمشي على الأقدام لمسافات طويلة هي التي تشكّل جانب الحرج ، أو أ نّ الحالة النفسيّة التي نسمّيها الخوف والتي قد ترافق الإنسان في الجهاد ، فيخاف أن يتعرّض لقصف جوي ، أو أن تصيبه طلقة هي التي تجعل من الجهاد أمراً حرجيّاً؟
يقول المرحوم في الإجابة على هذا التساؤل: بأنّ حالة الخوف منشؤها في نفس الإنسان ، أي أنّ هذا الشخص بحدّ ذاته يفتقد للشجاعة والجرأة ، وهذا لا علاقة له بالتكليف الإلهي ، فلو كنت إنساناً يملأ الخوف وجودك ، فلا يحقّ لك أن تصوّر الجهاد بأنّه أمر حرجي ، ثمّ تستدلّ بقاعدة نفي الحرج على إرتفاع التكليف الحرجي ، إذن الحرج لابدّ وأن يتحقّق في التكليف بحدّ ذاته . وإلاّ فخوف المكلّف لا علاقة له بالتكليف . والخوف هو رذيلة من الرذائل لدى هذا الإنسان .
القاعدة وإيقاع الإنسان نفسه في الحرج:
وهنا نورد أجوبة المرحوم صاحب الفصول في الموردين المتبقّيين ، والمورد الأوّل: هو المثال الذي ساقه عن اُولئك الذين لا يطيقون الإسلام ، حيث يحكي
(الصفحة 141)
القرآن الكريم قولهم:
{اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ} هنا لابدّ وأن نرى هل إنّ الإسلام بحدّ ذاته يستدعي الحرج ، أو إنّ خبث هؤلاء وسوء سريرتهم هو الذي جعل قبولهم الإسلام أمراً حرجياً؟
والصحيح إنّ خباثتهم وسوء سريرتهم هو الذي جعلهم يستشعرون الحرج في الإسلام ، بدليل انّنا نرى إنّ النّاس قاطبة عشقوا الدين الإسلامي واستهوته قلوبهم ، والواقع هو إنّه لايوجد هناك حرج في التكليف بحدّ ذاته . فأدلّة نفي الحرج تنصّ على إسقاط التكليف الذي يستوجب الحرج .
والمورد الثاني: هو خصوص تمكين النفس لأجل القصاص وإجراء الحدود . فيقول المرحوم صاحب الفصول: إنّ التمكين واجب شرعاً وهو أمر حرجي للغاية ، ولكن الشخص بنفسه هو الذي أوجد هذا التكليف الحرجي ، أي أنّ الذنب ذنبه ، فلو أراد أن لا يقع في مثل هذا الحرج لكان عليه أن لا يرتكب الزنا ، ولو شاء الإحتراز من الوقوع في الحرج لما قتل النفس المحترمة عن عمد . ويضيف إنّ هذه تهلكة . والبعض بإرادته ألقى بنفسه في هذه التهلكة . وفي مثل هذه الحالة لايمكن أن نطلق على هذا التكليف المتعيّن على المجرم ـ وهو تكليف التمكين ـ اسم الحرج ، فلماذا أوجب على نفسه التمكين للقصاص في حين كان بوسعه أن يحترز من أيّ تكليف من هذا النوع ، ويستفاد من كلام صاحب الفصول إنّ قاعدة لا حرج لم يشملها التخصيص مطلقاً ، أيّ لايوجد هناك أي مورد حرج خرج عن القاعدة بالتخصيص .
حكومة حديث الرفع وقاعدة نفي الحرج:
وهناك نقطة مهمّة أشار إليها كلّ من الشّيخ الأنصاري (قدس سره) في كتاب الرسائل ، والمرحوم الآخوند (قدس سره) في كتاب الكفاية ، وهي أنّ حديث الرفع يرفع الخطأ
(الصفحة 142)
والنسيان ، وعليه قد يقال: إنّه بموجب هذا الحديث يرفع عن اُمّة الرسول الخطأ ، ولكن القرآن يصرّح بقوله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة}(1)؟ فكيف لم يستطع حديث الرفع أن يرفع حكم قتل الخطأ؟ فهل معناه أنّ هناك موارد تخصيص في الحديث؟
وفي معرض ردّهما على هذا الإستفهام أجاب هذان العلمان(2): بأنّ حديث الرفع إنّما يرفع الآثار المترتّبة ، سواء كان القتل عن عمد ، أو عن خطأ ، وفي الحقيقة إنّ حكومة حديث الرفع متوجّهة إلى سائر الأدلّة على النحو التالي ، وهو أنّ لدينا مجموعة من الأدلّة تعرض الأحكام بصورة عامّة ومطلقة ، فيأتي حديث الرفع ويخرج مورد الخطأ فيها ، والآية: (ومن قتل نفساً خطأً) الحكم بالأساس مبنيّ على الخطأ . فكيف يمكن أن يكون الخطأ مؤثّراً في إثبات الحكم وفي نفس الوقت يكون مؤثّراً في نفي الحكم ، ومن هنا نصل إلى هذه النتيجة ، وهي أنّ حديث رفع الخطأ لا يرتبط أساساً بالآية (ومن قتل نفساً خطأً) .
ويمكن أن نورد مثل هذا الكلام في خصوص الجهاد فنقول: لنفترض أنّ الجهاد أمر حرجي 100 % ولكن مثل هذا الحرج لا يدخل ضمن دائرة قاعدة نفي الحرج ، لأنّ مفاد قاعدة لا حرج هو أنّ الحرجية مؤثّرة في نفس الحكم ، والحرجيّة مؤثّرة في عدم تشريع الحكم . ولكن بناءً على فرضنا إذا كان الجهاد كلّه أمر حرجي ، فمعنى ذلك أنّ الحرج مؤثّر في ثبوت الحكم ، ولا يمكن أن يكون هناك عنوان واحد مؤثّر في الثبوت ومؤثّر في النفي أيضاً ، وهذا قريب ممّا قاله المرحوم المحقّق الخراساني والشيخ الأنصاري في خصوص رفع الخطأ .
ومن هنا نخلص إلى هذه النتيجة التي يقرّرها صاحب الفصول ، وهي أنّ
- 1 . النساء : 92 .
- 2 . فرائد الاُصول 2 : 32 . والكفاية : 341 .
(الصفحة 143)
قاعدة لا حرج بحدّ ذاتها قابلة للتخصيص ، وإمكان التخصيص فيها وارد ، إلاّ أنّه في الواقع الخارجي لايمكننا أن نجد مورداً واحداً كمثال على التخصيص في قاعدة لا حرج .
وحكي عن الشيخ الأنصاري أعلّى الله مقامه الشّريف أنّ قاعدة نفي الحرج ليس فقط يحتمل بشأنها التخصيص ، بل أنّ موارد التخصيص موجودة ومن الكثرة بحيث تُشكِّل وهناً في قاعدة (لا حرج)(1) ، ولازم ذلك أنّنا لو تمسّكنا في مورد بعموم قاعدة (لا حرج) فهذا لايكفي ، لأنّ عمومها موهون ، ولا يصلح للركون إليه ، ولابدّ مثلاً من ضمِّ عمل الأصحاب وفتواهم ، أو أشياء اُخرى من هذا القبيل إلى هذا العموم حتّى ينجبر وهنه ، ويكون صالحاً للإستناد إليه . فإذا كانت هذه القاعدة على هذه الصورة من الضعف فإنّها سوف لاتنفع كثيراً ، فلا يمكننا الاستفادة منها في الفقه كثيراً .
غير أنّه حكي أيضاً عن الشيخ الأنصاري نفسه ما يخالف هذا المعنى ، فقد حكي عنه أنّه قال: إنّ قاعدة (لا حرج) من القوّة والإحكام بشكل لو أردنا معه أن نأتي ولو بدليل واحد كمخصّص لهذه القاعدة ، فإنّ مجرّد كونه أخصّ منها لا يقتضي أن يقدّم عليها ، وهذا عجيب جدّاً ، وقد مرّ عليكم في الاُصول في مسألة العامّ والخاصّ أنّ الدليل الخاصّ يقدّم على العامّ مطلقاً ، إلاّ إنّه أفاد هنا بأنّ الخاصّ لا يقدّم على قاعدة (لا حرج) لمجرد كونه أخصّ ، أي أنّ هذه القاعدة على هذه الدرجة من القوّة والإحكام ، فما ظنّك لو لم يكن هناك أخصيّة وأعمّية في البين . فإنّ قاعدة (لا حرج) نوعاً ما بالقياس إلى الأدلّة الأوّليّة ـ مع غضّ النظر عن الحكومة ـ بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ، فربما نشاهد ذلك 90 % أ نّ
(الصفحة 144)
النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه ، مثل دليل وجوب الوضوء ووجوب الغسل وأمثال ذلك ، وقلنا في مسألة الحكومة; لاينبغي المقارنة وبيان النسبة ، ولايجدر بنا البحث عن مادّة الإجتماع والإفتراق ، كما أنّه لا ترد في مسألة الحكومة قضيّة الظهور والأظهريّة ، بل إنّ الدليل الحاكم يتقدّم على الدليل المحكوم ، وإن كان أضعف ظهوراً منه ، وكانت النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه .
فإذن ، مع أنّ الشيخ يفترض دليلاً أخصّ مطلقاً من قاعدة (لا حرج) ، إلاّ أنّ هذا الدليل الأخصّ مطلقاً لا يمكنه لمجرّد كونه أخصّ أن يتقدّم على قاعدة (لا حرج) ، وعليه فما حكي عن الشيخ أوّلاً لا يضرّ بما سلكناه من عدم تخصيص القاعدة وإن كان قابلة للتخصيص ثبوتاً . وعلى هذا نسلك نفس الطريق الذي سلكناه سابقاً وصرّح به صاحب الفصول أيضاً ، وأثبت في الحقيقة أركانه من أنّ قاعدة (لا حرج) ليس فيها تخصيص أصلاً ، وهذا ما يثبته أيضاً ظاهر أدلّة نفي الحرج وإن كانت هذه الأدلّة في نفسها لا تأبى عن التخصيص .
الحرج الشخصي أو النوعي؟
هل أنّ الحرج في قاعدة (لا حرج) هو الحرج الشخصي أو الحرج النوعي؟ فلو كان شخصيّاً فمعناه أنّ لكلّ مكلّف حساب مستقلّ فيما يتعلّق بقاعدة نفي الحرج ، وكلّ مكلّف يلاحظ بشخصه والتكليف المتجّه إليه بالشكل الذي فسّرنا به الآية وجعلنا الحرج صفة للتكليف ، فعلى كلّ مكلّف أن يلاحظ تكليفه ، فإذا كان التكليف يجعله في ضيق وحرج بحيث لا يتحمّله العرف عادةً ، فإنّ الآية الشريفة: تأتي لنفيه ، فترفع هذا التكليف عن عهدة المكلّف ، حتّى وإن لم يكن فيه حرج بالنسبة إلى الآخرين ، ولا يتّصف بكونه حرجيّ أصلاً ، فالملاك في قاعدة نفي